شعر دينيس بالارتباك وهو يدخل غرفة الشاي لدى إليوت بعد غياب طويل.
فعادةً ما تقف وصيفات خلف الملك، لكنه اليوم لاحظ غيابهن جميعًا.
هل هذه نزوة عابرة؟
“وكيف ستُموّل المشروع؟”
سأل إليوت وهو يقلّب صفحات التقارير القليلة التي أحضرها دينيس باهتمام.
كان جادًا في تعامله كما هو الحال دائمًا عند مناقشة شؤون الدولة.
“من خلال التبرعات ومن أموالي الخاصة.”
“أموالك الخاصة؟”
“نعم.”
“وأي مال تملك أنت؟”
سأل إليوت بدافع الفضول البحت.
فقد ورّث لـفابريس الكثير من المناجم والإقطاعيات، بينما لم يمنح دينيس سوى إقطاعية واحدة في الغرب.
حتى تلك الإقطاعية لم تكن كبيرة وكانت إنتاجيتها ضئيلة.
“أخطط لجمعه من الآن فصاعدًا.”
اكتفى دينيس بهذه العبارة وابتسم بهدوء.
سكت إليوت لحظة، يُفكّر فيما قاله دينيس عن عدم استخدام الخزينة العامة.
إذًا، ليس هناك سبب للرفض.
بل على العكس، يبدو هذا مشروعًا جيدًا يُضاف إلى إنجازاته الحُكمية.
أكاديمية للعامة.
أخفى إليوت تعابيره،ثم تظاهر بالتفكير للحظة قبل أن يتحدث.
“حسنًا قُدّم طلبًا رسميًا للموافقة سأشارك بجزء من مالي الخاص أيضًا.”
“شكرًا جزيلًا وأرغب أيضًا في القيام بمشروع صغير لخدمة المجتمع سأنفذه بأموالي الخاصة كذلك.”
“جيّد،يمكنك المضي قدمًا في مثل هذه الأمور تحت إدارتك، أليس العمل الميداني هو ما يصقل الخبرة؟”
وافق إليوت بترحاب.
“شكرًا لك.” انحنى دينيس بأدب.
غادر غرفة الشاي الخاصة بإليوت.
حصل على الموافقة أسرع مما توقّع.
توقف دينيس عن المشي وحدّق في السماء للحظة.
أشعة الشمس الدافئة التي تخترق النافذة لم تعد حارقة.
اتجاه الرياح يتغير.
الفصول تتبدّل.
غادر المكان وهو يُردّد على تحيات الخدم والموظفين الذين مرّوا به في القصر الرئيسي.
لم يكن قرار دينيس ببناء أكاديمية للعامة محض صدفة.
فمع حصوله على غالبية دعمه من النبلاء الجدد والعامة رأى أنه يجب عليه تقديم سياسات لصالحهم.
وكان تأسيس الأكاديمية هو الخطوة الأولى في هذا الطريق.
صحيح أن المؤسسات التعليمية كانت موجودة بكثرة، لكن عتبة الالتحاق بها كانت عالية جدًا على العامة.
فالتكاليف الدراسية كانت باهظة إلى درجة لا يستطيع تحمّلها سوى النبلاء.
هدفه كان جعل التعليم متاحًا للعامة الراغبين فيه بتكاليف منخفضة وجودة عالية.
وتخريج مواطنين متعلمين تدريجيًا.
ورغم أن الأمر قد يستغرق وقتًا، إلا أنه اعتقد أن هذا هو الطريق الصحيح.
علاوة على ذلك، إذا شغل الخريجون من أكاديميته مناصب مهمة في قصر فالوا… فسيكون ذلك مصدر قوة أكبر له.
نظر دينيس مرة أخرى إلى التقارير التي يحملها في يده. مجرد أوراق قليلة، لكنها بدَت ثقيلة.
ربما لأنها تحمل إرادته.
كان مشروع خدمة المجتمع الذي ذكره عرضًا أهم من الأكاديمية ذاتها.
وكان من حسن الحظ أن إليوت لم يلحظ ذلك.
خطّط لتعزيز قاعدة دعمه بنشاط بين العامة والنبلاء منخفضي الرتبة عبر أعمال الخدمة المجتمعية.
وكان أولها إنشاء مؤسسات طبية عامة تتيح للعامة الحصول على الرعاية الصحية بسهولة.
مرّت كلمات ريتشارد، شقيق زوجته، في أذنه: “الماركيز إنجيلغر لن يترك تيريز في حالها أرجوك، طلّقها قبل ذلك.”
توقف دينيس عن المشي.
لقد توصّل إلى نتيجة بعد تفكير طويل.
لن يتنازل لا عن العرش ولا عن المرأة.
كان يجهل حتى أن الترتيب أصبح معكوسًا.
كانت المرأة مجرد غنيمة يحتاجها للصعود إلى العرش، أما الآن فأصبح العرش ضروريًا لامتلاك المرأة.
إذا جلس على العرش، فلن يكون هناك الكثيرون ليتحدّثوا عن الطلاق ويؤذو المرأة.
لأن المرأة ستصبح ملكة.
فبعد كل شيء، هي من سلالة إنجيلغر.
الابنة الصغرى لعائلة نبيلة عريقة، والملكة الوحيدة في فالوا.
استعرض دينيس الألقاب التي ستحصل عليها المرأة عندما يجلس هو على العرش، وبدا عليه الرضا.
عندها لن تكون سلامة المرأة في خطر.
ولن تحتاج المرأة لتلويث يديها.
وإذا استقرّت ظروف المرأة، فقد يأتي طفلهما الثاني يومًا ما.
لم يكن هذا التفكير غائبًا عنه.
اعتقد أن من الصواب أن يضمّها إليه لأنها امرأة مسكينة.
حصل على إجابات للأسئلة التي حار فيها بعمق.
كل من الشفقة والتشابهُ كانا إجابة صحيحة.
بعد أن توصّل إلى هذا الاستنتاج، شعر بحماس أكثر من المعتاد.
وإذا كان هذا هو ثمن المسؤولية لكونه عاش مع المرأة لسنوات، فهو ثمن يستحق الدفع.
بغض النظر عن النتيجة، تلك المرأة تبذل جهدًا من أجله.
هذه حقيقة.
لم يدفع قط ثمن كل ذلك الجهد.
لم تطلبه أبدًا، فاعتقد أن هذا العبء يقع على عاتقها وحدها.
لكن إن كانت هي من سيكون شريكته، فالقصة مختلفة.
غيّر دينيس اتجاهه واتجه نحو البركة الكبيرة الاصطناعية بالقرب من القصر الرئيسي.
تلك البركة التي كاد يغرق فيها وهو صغير.
حواف البركة لم تكن عميقة، لكن مركزها كان غائرًا إلى حد ما.
كانت البركة مليئة بزهور اللوتس والقصب، وعاشت طيور على الأشجار الكبيرة القريبة.
فتّش في جيوبه ووجد حفنة من الفول السوداني.
ثم رفع يده عاليًا بعد أن وضع الفول السوداني في راحة يده.
حلقت طيور لا يعرف اسمها حول رأسه، ثم خطفت الفول السوداني وفرت مبتعدة.
ابتسم دينيس ابتسامة خفيفة.
ضمّ المرأة إليه أشبه برعاية طيورٍ بلا مأوى.
شعر كما لو أن طائرًا ملكيًا مصابًا قد احتضنته.
صغيرًا وهشًا لدرجة قد يتفتت إذا أمسك به بشدة.
لا يستطيع أي إنسان أن يتجاهل بسهولة كائنًا حيًا مصابًا.
بعد أن اختفى الفول السوداني من يده فقدت الطيور اهتمامها به.
ثم حَلّقت حول البركة تصطاد السمك.
نفض بقايا الفول السوداني من يده.
ونظر إلى وجهه المنعكس على سطح الماء.
قرّر أن يبذل هو أيضًا الحد الأدنى من الجهد لأجل المرأة.
على عكس ما مضى.
صار لديه هدف.
بين العبث والعجز، ظهرت أمور ذات معنى.
لم يعد بحاجة للتفكير أكثر في ما تعنيه المرأة له.
فقط أن يضمن عدم نبذ المرأة، وأن يسيطر على العرش بسرعة.
هذه كانت أكبر مشكلة تواجهه الآن.
ولتحقيق ذلك لن يكون بوسعه تجنّب أن تتلوث يداه هو الآخر.
هكذا ختم أفكاره.
كان تدفق أفكاره كلها واضحًا.
مشكلة ثم إجابة.
وسط الأيام الماضية الغامضة تمامًا، شعر أخيرًا أنه حصل على إجابة واضحة.
كان في مزاج جيد لأول مرة منذ فترة.
قرر دينيس مغادرة القصر بعد غياب طويل.
كان لديه مكان يريد الذهاب إليه.
قال دينيس لـ سيلبانغ الذي كان يرافقه: “سيلبانغ، هل يمكنك إحضار زجاجة ويسكي واحدة فقط؟”
“الويسكي…”
تردّد سيلبانغ في الرد، ثم غيّر لون وجهه مسرعًا وأجاب بالموافقة.
لم يطلب الويسكي إلا في وقت محدد.
عندما يزور قبر الملكة شارل.
صعد دينيس إلى العربة حاملًا زجاجة الويسكي التي جهزها سيلبانغ.
جلس سيلبانغ صامتًا في المقابل.
“قلتُ لك، لم يكن عليك مرافقتي.”
وبّخه دينيس برفق وضحك.
“لا،سمو الأمير.”
رفض سيلبانغ كلامه فقط وبقي صامتًا لفترة طويلة.
وصلت العربة عند مدخل جبل فُهي.
كان التضاريس وعرة، لذا لا يمكن المضي إلا سيرًا على الأقدام.
صعد دينيس وسيلبانغ الجبل بصمت.
عند الوصول إلى القمة، ظهر شاهد قبر صغير.
بدا أن سيلبانغ، بسبب تسلّق الجبل بعد فترة طويلة، كان يتنفس بصعوبة.
مسح دينيس الشاهد بيده.
كان مغطى بطبقة بيضاء من الغبار.
لأنه لم يزره منذ فترة.
بدا الشاهد المنعزل على قمة الجبل وحيدًا بشكل مؤثر.
سكب الويسكي الذي أحضره في كأس ووضعه أمام الشاهد.
في هذه الأثناء، اختفى سيلبانغ كأنه أخلّى المكان.
احتضن دينيس ابتسامة مريرة على شفتيه ونقل لها تحياته في داخله.
دُفن أفراد العائلة المالكة تقليديًا في المقبرة المخصصة لهم داخل المعبد.
وكذلك كانت الملكة شارل.
بجانب قبر الملكة شارل،كان قبر الملكة ماريان.
كان من المفارقة أن الاثنتين، اللتين كرها حتى التواجد في نفس المكان أثناء حياتهما، ترقدان الآن جنبًا إلى جنب.
وسيظل الاثنان مدفونتين بجوار بعضهما إلى الأبد.
لذا، كان دينيس يعقد العزم في كل مرة يزور فيها المقبرة الملكية:
يوما ما، سأحرر أمي بالتأكيد.
كان دينيس يقلق كل ليلة عندما يفكر في أمه التي لا تستطيع الراحة حتى بعد موتها.
لذلك عند بلوغه سن الرشد، كان أول ما فعله هو نقل رفات الملكة شارل.
أخذ دينيس رفاتها من المقبرة الملكية ودفنها على قمة جبل فُهي.
بدلاً من ذلك، دُفنت في المقبرة الملكية ملابسها التي كانت ترتديها في حياتها، وليس رفاتها.
نظر دينيس إلى أسفل الجبل.
نسيم منعش مرّعلى خصلات شعره.
من قمة جبل فُهي، يمكن رؤية ما خارج العاصمة عندما يكون الطقس جيدًا.
دفن رفات أمه هناك رجاءً أن تتمكن من النظر إلى البعيد، هي التي لم تستطع مغادرة العاصمة طوال حياتها.
ليت أمي تستطيع رؤية هذا المنظر أيضًا.
جلس دينيس على الأرض الترابية دون أي تهذيب، وحمل في عينيه أبعد مشهد يمكنه رؤيته.
في الحقيقة، كان يريد إحضار ما تحبه أمه، لا الويسكي.
كالزهور أو الطعام.
لكنه لم يكن يعرف.
ما اللون الذي كانت تفضله، وأي الكتب كانت تقرأها، وأي الأغاني كانت تغنيها غالبًا.
ففي ذاكرته، كانت أمه دائمًا غارقة في الخمر وفاقدة للوعي.
في تلك الأيام، الشيء الوحيد الذي كانت أمه تحبه كان الويسكي.
كيف يمكن أن يكون تدمير حياة شخص بهذه السهولة؟
الملكة شارل في الأيام التي التقت فيها بإليوت لأول مرة، كانت سيدة شابة قد أصبحت قديسة للتو.
الرجل الذي اتخذ قرارًا بتقديم جسدها للإله، ثم انتهى به الأمر لجعلها تقدم جسدها بنفسها، هو من ورّثه نصف دمه.
يا له من أمر مُضحك وسخيف إلى حدٍ لا يُصدّق!
عندما عرف هذه الحقيقة التي تشبه الكذب لأول مرة، أمسك بأمه وبكى.
وهو الصغير، لم يعرف طريقة لمواساتها سوى البكاء.
وبالطبع، من واساه وهو يبكي بحرقة كانت الملكة شارل، أمه.
في أي أفكار كانت تقاوم تلك الأوقات؟
هل لامتني لأني استقررت في رحمها فجأة؟ أم شعرت بالخيانة من المعبد الذي سلمها كقديسة لإليوت كحكم سياسي؟ أم كرهت الملك الذي مزّق حياتها الهادئة من جذورها؟
ربما لو لم يُولد دينيس لما حدثت كل هذه المأساة.
أو لو أن إليوت، الذي وقع في حب من طرف واحد بعد مقابلتها في المعبد، لم يعتدي عليها.
أو لو أن المعبد لم يستبدل امتيازات الحصانة الكهنوتية مقابل تسليمها بعد انتفاخ بطنها.
حتى ما إذا كانت ندمت على إنجابه، أم كانت سعيدة بذلك.
كلها أشياء مجهولة.
كبت في داخله المشاعر المتصاعدة.
داعب المغلف القديم للرسالة الذي وضعه في جيب معطفه.
وجده وهو يرتّب ممتلكاتها الشخصية الليلة الماضية.
سيكون هذا بداية إعادة الانطلاق.
نهض دينيس من مكانه ونفض الغبار عن ملابسه.
ثم التفت ليرى الشاهد مرة أخرى.
كانت تحية الوداع مع وعد باللقاء القادم.
نزل من الجبل خطوة خطوة.
عاد هو وسيلبانغ، الذي كان ينتظره عند سفح الجبل، بالعربة.
فتح سيلبانغ،الذي كان يجلس بصمت كالتمثال، فمه: “سمو الأمير، هل لي أن أسأل شيئًا؟”
“ماذا؟”
“هل حدث تغيير في مشاعرك التي لا أعرفها؟ ألم تكن دائمًا تبحث عن الملكة في مثل هذه الأوقات؟”
يبدو أن سيلبانغ، بسبب سنوات مرافقته الطويلة، قد لاحظ شيئًا ما.
رفع دينيس عينيه ونظر إلى سيلبانغ.
في عينيه الخضراوين، كان هناك بريق لم يكن موجودًا من قبل.
“لقد قررت حقًا أن أصبح ملكًا، هل تعرف ماذا يعني هذا؟” “…لم يكن ذلك نيتك الحقيقية طوال الوقت يبدو أنك وجدت سببًا جعلك تصمم على ذلك.”
أومأ سيلبانغ برأسه كما لو كان يشعر بالارتياح.
“أنا عازم على بذل كل ما في وسعي لأن هناك ما يجب أن أقتنيه.”
التعليقات لهذا الفصل " 24"