عادت “إيدا” و”لوران” إلى منزلهما، فساد الهدوء الفيلا المرتّبة بأناقة.
أجلَس دينيس تيريز المرتعشة على مقعدٍ أولًا.
تساقطت منها المياه بغزارة على الأرضية النظيفة.
اندفع دينيس بساقيه الطويلتين، ثم قدّم لها منشفةً سميكة وماءً دافئًا، وأشعل النار في المدفأة قبل أن يذهب إليها ويطلب منها الاغتسال.
“لقد سخّنت الماء إذا لم تستحمي سريعًا، ستصابين بالزكام.”
على الرغم من منتصف الصيف، أصبح داخل الفيلا حارًا كالقدر من دفء مدفأة دينيس التي أشعلها.
“… نعم.”
“ماذا؟ أتريدين مني أن أغسلك؟”
وكأنه وجد متسعًا للراحة الآن، قالها دينيس مازحًا وهو يرفع شعره المبلّل بالعرق إلى الخلف.
كان قميصه المُبتلّ بماء النهر ملتصقًا بجسده بعناية، مُبرزًا هيئته بخفّة.
“… لا.”
دخلت تيريز إلى الحمّام وهي تجرّ فستانها الثقيل بالماء.
غاصت تيريز في حوض الاستحمام الممتلئ بالماء الساخن ولبثت مغمورةً فيه طويلًا.
عندما استجمعت وعيها، شعرت بالخجل لدرجةٍ تكاد تُجنّنها.
ذلك الجزء منها الذي يُظهر نقصها أمام ذلك الشخص.
أرادت أن تُظهِر له دائمًا صورتها الماهرة في كل شيء.
“….”
“تيريز؟”
سمعت صوتًا يناديها من الخارج.
نهضت مسرعة ومسحت الماء عن جسدها.
“سأخرج الآن.”
احمرّ وجهها من حرارة البخار الساخن في الحمّام.
“اشربي هذا.”
قدّم إليها دينيس -الذي يبدو أنه استبدل ملابسه وبات مظهره منعشًا- شيئًا ما.
كان شايًا ساخنًا.
قال وهو يحمرّ وجهه:
“لم أجد علبة الشاي سابقًا اشربيه واستريحي.”
حدّقت تيريز في الشاي بتأمّل.
انعكست عيناها في ماء الشاي القرمزي.
“… شكرًا لك.”
كانت الكلمات صادقة.
ربت دينيس على رأسها مرة ثم خرج إلى الخارج.
يبدو أنه ذهب ليرتّب أدوات الصيد التي ألقى بها عند عودته.
شعرت تيريز بارتخاء في جسدها كله بعد أن شربت الشاي الدافئ.
كان السبب سقوطها في الماء البارد، ثم بقاءها في الماء الساخن لفترة طويلة.
بعد أن شربت بضع جرعات، وضعت فنجان الشاي على الطاولة وصعدت إلى غرفة النوم في الطابق الثاني.
عندما غطّت نفسها باللحاف، شمّت رائحةً طيبةً تجففها الشمس.
غرقت تيريز في النوم لحظيًا.
ما اعتقدته غفوةً قصيرة تحوّل إلى نومٍ طويل.
كان الخارج قد أظلم تمامًا وقد غربت الشمس.
نهضت تيريز وهي تضع رأسها الثقيل على يديها.
حين جلست على السرير، سقطت منشفة الماء التي كانت موضوعةً فوق رأسها.
كانت منشفة الماء التي كانت موضوعةً فوق رأسها حتى لحظةٍ مضت دافئةً جدًا.
عندما تمعّنت، شعرت أن جسدها كله أكثر سخونةً من المعتاد.
وكأن العالم يدور من حولها.
أين ذهب سمو الأمير؟
ترنّحت تيريز وابتعدت عن السرير.
“سمو الأمير؟”
خرج صوتها أخفض من المعتاد.
بحثت عنه في غرفة المعيشة لكنها لم تجده.
أخذ قلقها يزداد.
كطفلةٍ فقدت أمها.
أين يمكنه الذهاب في مثل هذا الوقت من الليل؟
جلست أمام المدفأة تحدّق في اللهب المشتعل وهي في حالة ذهول.
شعرت وكأن جسدها بأكمله يغوص.
رأسها ثقيل وحلقها يُوخز.
شعرت بالضبابية رغم أنها نامت طويلًا.
في تلك اللحظة، فُتح باب المدخل ودخل.
عندما رآها جالسةً أمام المدفأة، انشرح صدره.
“استيقظتِ؟”
“نعم.”
“كيف حالكِ؟ أولًا كلِي هذا ثم خذي الدواء.”
ما كان يحمله في يده قدرٌ صغير.
بداخل القدر حساءٌ طازجٌ مُعدّ للتو.
غرف الحساء في وعاء ثم قادها إلى طاولة الطعام.
انجذبت تيريز بلا قوة وجلست على الكرسي.
كان فمها جافًا فلم تستطع بلع الحساء بسلاسة.
جلس دينيس أمامها يراقبها حتى أنهت تيريز الحساء كله.
عندما بدا قاع الوعاء، جاء بالدواء والماء.
“ابتلعي.”
أخذت تيريز الدواء بسهولة وابتلعته.
انتشرت رائحة القرفة والأعشاب في حلقها بحرارة.
“سيبدأ مفعول الدواء، استلقي مرة أخرى.”
أعادها دينيس إلى السرير، ثم غطّاها باللحاف حتى رقبتها.
ظلّت تيريز مستلقيةً تحدّقه بنظرةٍ غائمة.
“هل تحتاجين شيئًا؟”
كانت نبرة سؤاله رقيقةً جدًا.
“لا.”
“إذًا لماذا تحدّقين بي؟”
“لماذا…”
لم تستطع تيهيز إكمال كلامها.
شعرت وكأن شيئًا ما يعلو من حلقها.
“لماذا تُحسن إليّ هكذا؟”
“أهذا يُعدّ إحسانًا؟”
أجاب وهو يضحك بخفّة.
“نعم. لقد أنقذتني من الغرق، واعتنيت بي.”
“تصبح زوجتي طفلةً عندما تمرض تُبدي كلّ نواحي تدلّعها.”
“ليس ذلك…”
حاولت تيريز الاعتراض على كلامه.
“حسنًا. ربما… ربما هذا صحيح يا تيريز.”
نظر دينيس إليها وهو يمدّ كلامه.
“أشعر بالراحة عندما أكون هنا. يأتيني النوم بسهولة وأشعر بالاسترخاء. أظنّ هذا هو السبب.”
“…”
“لأنه ليس القصر يمكنني أن أكون… قليلًا…”
استطاعت تيريز تخمين ما حذفه دينيس من كلامه.
شعرت أنها تستطيع قراءة وجهه الذي لا تعبير عليه أيضًا.
قبّل جبهتها بخفّة.
“الليل قد تجلّى، وعلى الطفلة النوم الآن.”
ثم رتّب اللحاف من حولها ونزل إلى الطابق السفلي.
طفلة.
شعرت تيريز بأن الحمّى التي هدأت تعود من جديد.
في اليوم التالي، عندما استيقظت، كانت حرارة تيريز قد انخفضت بمعجزة.
كان دينيس منحنٍ بجوار سريرها نائمًا كالجمبري.
وجهه الشاحب، والأشياء المبعثرة على المنضدة الجانبية كالماء والدواء، جعلتها تدرك أنه قضى الليل كله يهتم بها.
عندما دحرجت اللحاف، نهض دينيس وهو يفرك عينيه المتعبّتين.
“آسفه هل أيقظتك؟”
“كيف حال الحمّى؟”
غطت يده الكبيرة جبهتها.
“لقد هدأت.”
ربما كان الاستلقاء غير مريح، فنهض دينيس ومدّ جسمه ثم أدار رأسه يمينًا ويسارًا.
“أعتذر.”
“عن ماذا؟”
“لأنني مرضت…”
ولأنني سبّبتُ لك الإزعاج.
ابتلعت تيريز الكلمات الأخيرة في داخلها ولم تُفصح عنها.
“حسنًا. أليس من المفترض في مثل هذه المواقف أن تقولي ‘شكرًا’، يا زوجتي؟”
كان دينيس ينظر إليها ويبتسم بتلقائية.
“شكرًا لك.”
حيّته تيريز بخفّة.
“حسنًا هيا نذهب لتناول الفطور.”
“نعم.”
يبدو أن الخبر وصل إلى إيدا أيضًا، فقد وضعت وعاء “البوت-أو-فو” المليء باللحم والخضار أمام تيريز.
“اليوم ستتناولين كلّ شيء حتى آخر قطرة من المرق.”
كان تعبير وجه إيدا جادًا للغاية.
يبدو أنها تعتقد أن مرض تيريز كان بسبب قلة أكلها.
رغم أن إيدا قدمت مرق اللحم لساعات بدءًا من فطور الصباح، إلا أن اليوم لم يستطع أحد إيقافها.
يبدو أن كلًا من لوران و دينيس وافقا بصمت على تصرف إيدا.
حدّقت تيريز في الطبق الموضوع أمامها بذهول.
كان مكدّسًا بضلوع لحم وبطاطس وجزر.
“شكرًا لك. سأتناوله جيدًا.”
أمسكت تيريز الشوكة بروح قائدٍ يتجه إلى ساحة المعركة.
مضغت تيريز اللحم ببطء.
كان لذيذًا كما هو متوقع من مرقٍ أعدّته إيدا بكلّ عناية.
ولكن مهما أكلت، لم ينقص.
شعرت أنها كقائدٍ حوصر من قبل العدو الذي لا ينقطع تدفّقه.
كيف سأتناول كلّ هذا؟
رغم أنها أكلت باجتهاد، يبدو أنها لم تأكل حتى النصف بعد.
في تلك اللحظة، نادى دينيس -الذي كان قد أنهى طعامه تقريبًا- على إيدا.
“إييدا، هل يمكنك إحضار مربى المشمش؟”
“مربى المشمش؟”
قلّبت إيدا -التي كانت تراقب تيريز من الجانب كما لو كانت تراقبها- في الخزانة.
“لا يوجد مربى مشمش…”
“لا يوجد؟”
نظر دينيس إلى إيدا بلطف.
كانت عيناه متلألئتين كطفلٍ يطلب من أمه المزيد من الحلوى.
عندها خرجت إيدا مسرعةً عبر الباب الخلفي إلى الخارج قائلةً إنه ربما يوجد في منزلها.
نظر دينيس إليها وهي جالسةٌ في حيرة وقال:
“تيريز توقفي عن الأكل وأصعدي إلى الغرفة للراحة.”
“… نعم.”
نهضت تيريز ببطء من على الكرسي.
“بسرعة الدواء بجوار السرير تناوليه ونامي.”
“أظن أنني تعافيت تمامًا الآن، سمو الأمير.”
“ستستريح زوجتي لمدة ثلاثة أيام قادمة.”
“لماذا…”
نظرت إليه تيريز بتعبيرٍ حائر.
“لأنني قرّرت ذلك.”
“…”
عندما حدّقَت فيه تيريز بتأمّل، أشار بذقنه إلى الطابق الثاني.
يبدو أنه يقصد أن تصعد بسرعة قبل أن تعود إيدا.
في النهاية، بقيت تيريز في سريرها كما طلب منها، رغم أنها قد تعافت تمامًا من وعكتها.
وهكذا، لم يتبق سوى أسبوع واحد فقط من عطلة الصيف التي مدتها أسبوعان.
بعد أن شفيت تمامًا، اقترحت تيريز على دينيس بخفاء أن يصطادا السلمون الذي لم يكملا صيده.
ولكن الذي حصلت عليه كان رفضًا قاطعًا.
بدلًا من ذلك، سألها دينيس عن رأيها في الذهاب إلى غابة “سكوني”.
“ماذا عن تناول الغداء هناك ثم العودة؟”
“جيّد.”
في يومٍ مشمس، ذهبت تيريز وهو إلى غابة سكوني في وقتٍ متأخر من الصباح.
ربط دينيس صندوق النزهة بإحكام ثم جرّ الدراجة.
“سأحملها، سمو الأمير.”
“أتركيه يا طفلة.”
“…”
كان الطريق المؤدي إلى الغابة مسلكًا ضيقًا يصلح للمشي ببطء.
لم يكن الشعور بالسير بين الأشجار الكثيفة سيئًا.
“سمو الأمير، هل تجيد ركوب الدراجة؟”
“نعم. وأنتِ؟”
“لم أجرب قط.”
“كم من الأشياء لم تجربيها، يا زوجتي آه، هل هذا لأنكِ طفلة؟”
“… كفى من سخريتك.”
ضحك دينيس بصوت عالٍ على صوت تيريز الذي بدا متذمرًا قليلًا.
كانت ضحكة منعشة.
بعد سير نصف ساعة تقريبًا، وصلا إلى ساحة واسعة في وسط الغابة.
يبدو أن الناس يترددون عليها أحيانًا، فهي مُعبّدة بشكلٍ مستوٍ.
فرش دينيس مكانه هناك.
استلقى بارتياح دون أن يقول شيئًا، ثم أخرج ديوان الشِّعر الذي كان يقرأه في القطار.
حدّقت تيريز في مشهده بذهول.
راقبت تيريز وهيئته المركزة ثم نهضت من مكانها.
ثم دارت دورة في الغابة.
لم يكن هناك سوى الأشجار في كل مكان.
جلست تحت ظل شجرة ورفعت يدها لتُظلّل الضوء المتسلّل من بين الأشجار.
بدا هو المستلقي تحت الضوء صغيرًا كراحة اليد.
حجَبته يدها الواحدة.
رغم المسافة البعيدة، استطاعت تيريز تمييز ملامحه بالتفصيل.
الجبهة المقطبة عندما يركز، الأصابع التي تقلب صفحات الكتاب، الهيئة الراقدة بإرخاء لكن بأناقة متكئة على ذراعها.
حتى بين آلاف الأشخاص، سأستطيع تمييزك.
جعلت النسائم الدافئة شعره يتمايل.
كان وسيمًا للغاية.
بدا كلوحةٍ فنية معلّقة في متحف.
ثنَت تيريز ركبتيها وغطّت رأسها.
يبدو أنها أصبحت حقًا طفلةً كما قال.
رغم أنه يجب أن تشعر بالسعادة عندما تكون معه، إلا أنها شعرت بالاكتئاب بدلًا من ذلك.
كطفلةٍ لا تريد رؤية نهاية الحكاية ولا تريد تقليب الصفحة الأخيرة.
هل استمر الأبطال في السعادة؟ دون فراق، وهكذا استمروا…
سمعت صوتًا يناديها في تلك اللحظة.
رفعت رأسها ونظرت إلى دينيس الذي يناديها بلطف.
“تيريز تعالي إلى هنا.”
خطَت تيريز خطوةً من الظل إلى النور.
كان حلمًا لا تريد الاستيقاظ منه أبدًا.
(يُتبع في الفصل القادم)
ترجمة مَحبّة
التعليقات لهذا الفصل " 22"