لم تكن تحتاج إلى تغيير ملابسها، إذ كانت ترتدي منذ مغادرتها لوبيرن ثياباً خفيفة.
توقفت تيريز فجأة وهي تخرج حقيبتها وتُرتّب محتوياتها.
فما أن تُركت وحيدة في الطابق الثاني حتى انتابها شعورٌ بالقلق.
شعرَت بأنه في سكوني اليوم يبدو شخصاً مختلفاً عنه في لوبيرن في الأيام العادية.
كان أكثر حناناً ولُطفاً من المعتاد.
لم تستطع تيريز أن تعرف إن كان يحمل في نفسه أفكاراً أخرى، أم أن الأمر مجرد نزوة عابرة.
“تيريز! هل انتهيتِ من تغيير ملابسك؟”
صوت منادٍ ارتفع من الطابق السفلي.
انتبهت تيريز من شرودها وارتجفت.
“سآتي الآن، سمو الأمير!”
نزعت فستانها على عجلٍ.
ما أن ارتدَت فستاناً خفيفاً وخرجَت حتى أمسك دينيس بيدها وقادها خارج المنزل الريفي.
كان هناك جدولٌ صغيرٌ يتدفق أمام المنزل مباشرة.
“ذلك هو مجرى نهر إيْف الأعلى سيجتاز غوتيداجور ويتدفق نحو البحر.”
أشار دينيس إلى الجدول وهو يتحدث.
كانت غوتيداجور أشهر مدينة بحرية في الشرق.
مكانٌ رأته تيريز في الصور فحسب.
وتذكرت أيضاً أنها قرأت أن قوارب النزهة التي تجوب نهر إيْف الذي يشق المدينة من وسطها جميلةٌ بشكل خاص.
ذلك الجدول الصغير سيتدفق دون انقطاعٍ حتى تلك المدينة التي تستغرق بالقطار يوماً ونصف اليوم ليصل البحر ويصب فيه.
“وبالصدفة، يمكننا الآن التمتع بصيد السلمون.”
“صيد السلمون؟”
“نعم. أتودين تجربته؟”
“نعم، أكلته فقط ولم أحاول صيده بنفسي قط…”
كان كل شيء لأول مرة.
كانت تريد أن تظهر أمامه بمظهر الخبيرة دائماً.
“حسناً. سأخبر لوران، لدينا الكثير من الوقت.”
“…”
تطلعت تيريز إليه بنظرةٍ ثابتة.
كان ينظر إلى المشهد بوجهٍ مُطمئن.
أهذا حلمٌ حقاً؟ لو كان حلماً، فلن تريد أن تستيقظ منه أبداً.
“ماذا؟”
“لا شيء.”
“وإذا ذهبنا إلى الخلف، يمكننا القيام برحلةٍ في جبال سكوني وإذا ذهبنا إلى هناك، فهناك غابة سكوني أيضاً.”
لم تستطع تيريز التحمل أكثر فاندفعت بالقول:
“حسناً، سمو الأمير.”
“حقاً؟”
ابتسم دينيس ابتسامةً عريضة.
كانت ابتسامة صبيٍّ ممتلئةً بالمزاح.
ربما فهم أن قولها “حسناً” يقصد به الجبال أو الغابة.
لكن حتى لو كان كذلك، أرادت أن تقولها في تلك اللحظة.
كان اندفاعاً منها.
شعرت تيريز بدفءٍ يغمر صدرها وامتلاءٍ ناعمٍ يعلو فيه.
لو كان هذا الشعور هو السعادة، فأرادت أن تكون سعيدةً طويلاً.
استيقظت تيريز من نومها في هواء الصباح البارد.
ربما لأن المكان عند سفح الجبل، انخفضت درجة الحرارة ليلاً رغم أنه فصل الصيف.
وبفضْل ذلك، تمكنت من النوم بعمق دون أن تستيقظ في الوسط.
في اليوم السابق، بعد جولة حول المنزل الريفي وتناول العشاء، ذهبا إلى الفراش مباشرةً.
وكأن كلامهما عن معاناتهما من الأرق في العادة كان كذباً، فقد غرقا في نومٍ عميق.
ظان دينيس لا يزال نائماً بجانبها.
بدا مظهره المريح وهو نائمٌ يتنفس بشدة كطفلٍ رضيع.
نهضت تيريز من السرير على أطراف أصابعها كي لا توقظه من نومه العميق النادر.
ثم ألقَت الشال الذي رمته على الأريكة على كتفيها وخرجت من المنزل الريفي.
ما أن أغلقت الباب بحذرٍ وخرجت حتى انبسط أمام عينيها مشهدٌ مختلفٌ تماماً عما رأته في النهار السابق.
شعرت وكأن الهواء الرطب من ندى الليل يتسلل إلى بشرتها.
كان جبل سكوني الواقع خلف المنزل الريفي محجوباً بالغيوم فلا تُرى قمته.
وضبابٌ مائيٌ كثيفٌ يتصاعد من الجدول الصغير أمام المنزل مباشرةً.
وصوت طيورٍ يأتي من مكانٍ ما.
أدارت تيريز رأسها متتبعةً أثر الطيور.
كانت طيور صغيرةٌ سوداء لا تعرف اسمها تطير بين الأشجار.
تمنت أن تفهم هي أيضاً ما تتحدثه هذه الطيور فيما بينها، وماذا تتغنى.
رغم أنها مكثت في منزل سكوني الريفي يوماً واحداً فقط، إلا أنها أعجبت بجو الهدوء فيه.
لو كان بإمكانها العيش هكذا معه لكان رائعاً حقاً.
جلست تيريز على صخرةٍ عريضةٍ قرب النهر تستمع إلى صوت المياه المتدفقة.
كانت الشمس تشرق.
شعرت وكأن نعاساً يتسلل إليها من جديد.
وبينما كانت تجلس ساكنةً تحت أشعة الشمس، سمعت صوتاً: “ماذا تفعلين هنا؟”
كان دينيس واقفاً خلفها وقد عقد ذراعيه وهو يرتدي رداء المنزل.
“أستيقظت؟”
نهضت تيريز عن الصخرة وهي تنظف مؤخرتها.
“نعم. لم أجِدكِ.”
ربما لأنه لم يكن مستيقظاً تماماً بعد، كان صوته أخفض من المعتاد فأعجبها.
والشعرة المنفوشة على يمينه جعلته يبدو لطيفاً.
نظرت تيريز إلى رأسه وابتسمت ابتسامةً خفيفةً على شفتيها.
قررت ألا تخبره حتى وقت الإفطار.
ستكون تلك متعتها الصغيرة الخاصة.
“لندخل، الجو بارد.”
“نعم.”
شبكت تيريز ذراعها بذراع دينيس وعادت إلى المنزل الريفي.
رغم أنهما اتفقا مسبقاً على تناول إفطارٍ بسيط، إلا أن “بساطة” آيدا تختلف تماماً عن “بساطة” تيريز.
في القصر، عندما تكون مشغولة، كانت تيريز أحياناً تتناول القهوة فقط كإفطار.
عندما ذكرت ذلك، تغير وجه آيدا وقالت إن الإفطار هو أهم وجبة في اليوم وهي تنقل الطعام بلا توقف.
بدا أن دينيس معتادٌ على هذا السلوك من آيدا، فلم يقل شيئاً وانهمك في إنهاء حصته من الإفطار بصمت.
“سيدتي، يجب أن تتناولي الإفطار جيداً مصدر قوة العمل طوال اليوم يأتي من هذه الوجبة.”
“لكن يا آيدا، هذا كثيرٌ جداً.”
أمام تيريز كانت كعكات البريوش المدهونة بالزبدة والكرواسون الطازج من الفرن مكدسة، وبجانبها ست علبات من المربى: التين، الفراولة، المشمش الأسود، مربى البرتقال، التوت الأحمر، والكرز.
بالإضافة إلى ذلك، كان هناك وعاءٌ ممتلئٌ بسلطةٍ من خضرواتٍ طازجةٍ قطفتها آيدا من الحديقة.
وكانت آيدا تعصر البرتقال لعصيرٍ بجانبها.
رغم أنها صنعت دلواً من العصير يكفي لعشرة أشخاص، لم تتوقف آيدا عن العصر.
كأنها حرفيةٌ في صنع العصير.
“جسمكِ يا سيدتي نحيلٌ جداً ولا يمكن ترككِ هكذا يجب أن تكتسبِ بعض الوزن.”
كانت آيدا تضع أمام تيريز أطباقاً ممتلئةً بالطعام بلا توقف.
“نعم يا تيريز أؤيد رأي آيدا تحتاجين إلى اكتساب بعض الوزن.”
قال دينيس ذلك وهو يشرب قهوته بوجهٍ راضٍ، وكأنه أنهى طبقه الذي أمامه.
“ألا تتفق أيضاً سموك؟ هيا، كلِي.”
تشجعت آيدا بموافقة دينيس وتصرفت كأنها ستطعم تيريز كل الطعام على المائدة.
حدقت تيريز بدينيس، لكنه هز كتفيه مرةً واحدةً وقال:
“آيدا، هل يمكنك إعطائي مزيداً من القهوة؟”
فقط ذلك.
كان تعبيره لا يُطاق.
في تلك اللحظة، صاح لوران الذي دخل من الباب الخلفي مندهشاً:
“يا إنسانة! أتريدين أن تجعلي سيدتي تنفجر؟”
ثم وضع لوران صنارة الصيد التي كان يحملها وشرع يزيل الطعام بسرعة.
“هذه المرأة عندما تكون سعيدة تكثر الطعام أعتذر سيدتي.”
كانت تيريز ممتلئةً تماماً ولم تستطع حتى أن تقول “لا بأس” مجاملةً.
في تلك اللحظة، بدا لها لوران الذي أوقف آيدا ملاكاً جاء لينقذها.
“شبعتُ.”
نهضت تيريز مسرعةً من مكانها.
لم تعد تستطيع الأكل.
نهض دينيس ببطءٍ عندما نهضت تيريز عن الكرسي.
“شبعتُ شكراً لكِ آيدا على تعبكِ منذ الصباح.”
“لا عليكِ، سمو الأمير كنت أريد خدمتك بشكل أفضل.”
قالت آيدا وهي تمسح يديها المبتلتين على مئزرها وكأنها متأسفة.
“سنقضي أسبوعاً هنا، لذا اعتني بنا جيداً في المستقبل.”
ثم أشار دينيس بعينيه إلى لوران.
كانت إشارة صامتةً بأن يوقف آيدا في كل صباح.
أومأ لوران برأسه كأنه فهم.
“لوران، من أين يمكننا الصيد؟”
كانت تيريز ودينيس قد خرجا بتوجيه من لوران لصيد السلمون.
شرح لوران وهو يريهما صنارة الصيد:
“عليكما الدخول إلى الماء ورمي الطُعم بقوةٍ في الاتجاه الأمامي التيار سريعٌ جداً لذا احذرا من السقوط.”
رمى لوران صنارته ليريهما مثالاً.
قفز الطُعم بخفةٍ وانسحب إلى داخل النهر.
جهز لوران المعدات بمهارة.
بعد وقتٍ قصيرٍ بدأ الطُعم يغوص في الماء ثم يصعد، ويكرر ذلك.
في تلك اللحظة، سحب لوران صنارته بقوةٍ وهو يركز على حركة الطُعم صعوداً ونزولاً.
ظهر جسمٌ يحاول الهروب وهو يمسك الطُعم بيأس.
انحنت صنارة لوران كالقوس.
وكأنها ستتكسر قريباً.
ركزت تيريز على مشاهدة هذه العملية.
عندما قام لوران بخبط الصنارة، قفز جسمٌ كبيرٌ شق الماء.
كان سلموناً!
كانت تيريز ترى سلموناً حياً ينتفض لأول مرة، فحدقت بعينيها واسعتين.
رفع لوران السلمون المنتفض بشبكةٍ.
“إفعلا ذلك، سهلٌ أليس كذلك؟”
ابتسم لوران بفخر.
كان سلموناً كبيراً بحجم ساعد تيريز.
“لوران، هذا رائع حقاً!”
صفقت تيريز.
انحنى لوران بشكلٍ مبالغٍ فيه وسلم.
كان مظهره كالممثل المسرحي.
لم تستطع كبح ضحكتها.
“حسناً، جربا الآن.”
أمسكت تيريز ودينيس كلٌ منهما صنارةً.
تفقد دينيس مياه النهر ثم وقف في مكانٍ أعلى قليلاً من المكان الذي تقف فيه.
قررت تيريز الوقوف في المكان الذي رفع منه لوران السلمون ورمي الطُعم مرةً أخرى.
ألقت تيريز صنارتها بمهارةٍ كتلك التي رأتها عند لوران.
الصنارة التي ألقتها بقوةٍ سقط الطُعم منها خلف تيريز.
الطُعم الذي سقط خلفها لم يعد يصعد.
علق الطُعم بين الصخور.
“آه.”
“انتظرا، انتظرا سموكما سأخرجه لكما.”
بعد ذلك، حاولت تيريز عدة مراتٍ أن تتذكر وضعية لوران وترمي الطُعم، لكنه استمر في السقوط أمام أنفها أو خلف ظهرها.
سمعت ضحكةً خافتةً خلفها.
“سأفعل هذا وحدي يا لوران يمكنك الذهاب.”
مد لوران يده عدة مراتٍ ليساعدها ثم استدار عند إصرارها العنيد.
“أيمكنكِ وحدك؟”
كان صوته يحمل شيئاً من الضحك.
“نعم. أستطيع.”
أجابت تيريز بجدية.
ألقت نظرةً خاطفةً على شبكة دينيس.
بدا أنه اصطاد سلموناً في ذلك الوقت القصير، فقد كان فيها سمكتان كبيرتان.
ألقت تيريز صنارتها بقوةٍ.
هذه المرة ستلقي الصنارة بشكلٍ صحيحٍ وتصطاد السلمون حتماً.
صَوْت.
كان الحدس جيداً.
سقط الطُعم في المكان الصحيح.
ابتسمت ابتسامةً عريضةً عند فكرة أنها نجحت أخيراً.
عندما رفعت الصنارة قليلاً، بدا أن شيئاً قد التقط ولم يرتفع.
كان ثقيلاً.
سحبت تيريز بقوة.
حاولت تيريز كبح قلبها الخافق وأمسكت الصنارة مجدداً.
سمو الأمير. يبدو أنني اصطدت سلموناً.
في اللحظة التي أرادت أن تقول ذلك، قفز الطُعم العالق بين الصخور فجأةً.
وفقدت تيريز توازنها وسقطت بسبب رد الفعل.
بدأت ترفس بلا وعيٍ منها وتجرفها التيارات وهي تنجرف بعيداً.
في لحظة تسلل الماء إلى أذنيها وأنفها.
لم يكن عمق الماء في مكان سقوطها كبيراً، لكنها استمرت في الانجراف بعيداً إلى وسط النهر العميق بسبب التيار.
“تيريز!”
صوت خطواتٍ متسرعةٍ ثم رفعها دينيس.
“كح، كح.”
بصقت تيريز الماء الذي دخل فمها وسعلت.
“هل أنتِ بخير؟”
سأل دينيس بصوتٍ متسرع.
“نعم…”
أجابت تيريز وهي تقطر ماءً وقد ابتلت تماماً.
كانت يداها ترتجفان بسبب الصدمة.
مسح دينيس ظهرها الملتصق بثيابها المبتلة.
“كل شيءٍ بخير الآن.”
كانت إيماءةً بأن تطمئن.
“لندخل.”
ثم عادا إلى المنزل الريفي بخطواتٍ واسعةٍ وهو يحضنها بذراع واحدة.
(يتبع في الفصل القادم)
ترجمة مَحبّة
التعليقات لهذا الفصل " 21"