2
“التفاصيل.”
كان دينيس يستمع إلى تقرير سيلبانغ وهو يقرع سطح المكتب بأطراف أصابعه.
كان التقرير يدور حول الشجار الذي وقع في النادي الاجتماعي، والذي نُشِرَ في الصحف قبل أيام.
“لم يكن مجرد عراك عابر بين سادة داخل النادي الاجتماعي فتحقيقات الشرطة تُظهِر تفاصيل أكثرَ تعقيدًا شيئًا فشيئًا إنها فضيحة جنسية تُلاحِق الأمير فابريس المشتبه به الرئيسي المُعلَن حتى الآن هو كزافييه بلمونت فقد تبيّن أن كزافييه كان يجند نساءً في نادٍ اجتماعي سريّ ويستغلهن ويبدو أن الأمير فابريس كان عضوًا في تلك المجموعة.”
“هل هذا كل شيء؟”
نظر دينيس إلى سيلبانغ.
فأكمل الأخر حديثه:
“لا لقد تبيّن أنهم لم يقتصروا على الاستغلال، بل مارسوا أيضًا تعذيبًا والشرطة تحقق في الأمر، لكنها تشتبه في وجود صلة بينه وبين سلسلة حالات الاختفاء التي حدثت مؤخرًا في العاصمة.”
“أوه.”
قال دينيس بصوت لا يحمل ذرةَ رحمة.
“وما الدليل على انتماء فابريس لتلك المجموعة؟”
قال سيلبانغ بصوت يحمل شيئًا من الأسف:
“لا توجد أدلة مادية قاطعة حتى الآن لكنّ القول الشائع هو أن كزافييه وأفراد مجموعته كانوا يختلطون بالأمير فابريس بشكل متكرر نعتقد أنه بعد تحقيق مفصل، سنتمكن من إثبات رابط مع الأمير الثاني.”
بعد أن أنهى تقريره، وقف سيلبانغ أمامه بلا حراك.
غرق دينيس في التفكير لبرهة.
أتراه جنَّ أخيرًا وتخلَّ عن العرش؟ أم أن هناك خطة أخرى تختبئ خلف هذا؟
عندما كانا يختلطان في الصغر، لم يكن فاسدًا إلى هذا الحد.
كان متهوِّرًا، لكنه لم يكن وحشيًّا لدرجة أن يقتل أناسًا دون سبب.
على أي حال، كانت الأخبار التي جاء بها سيلبانغ مفيدةً له.
“أحضرْ لي دليلًا على مشاركة فابريس في ذلك سنقرر طريقة التعامل لاحقًا.”
“حسنًا. سأفعل، سمو الأمير.”
“أوه، و…”
استدعى دينيس سيلبانغ الذي استدار ليغادر.
“نعم، سمو الأمير.”
“ماذا تفعل زوجتي الآن؟”
“سمو الأميرة تقيم حفل شاي في الحديقة مع السيدات النبيلات.”
“حسنًا فَهِمت يمكنك الانصراف الآن.”
خرج سيلبانغ، وغمر الصمت مكتب العمل.
التقط دينيس سيجارًا.
بدأ صداعٌ يعتريه.
لقد كان يعاني بالفعل من الصداع المتكرر بسبب كثرة التفكير في أمور شتى، والآن تأتي فضيحة فابريس.
إلى أي مدى ستمتد تداعيات هذا الأمر؟
هل سيتحوَّل إلى لهبٍ كافٍ لإسقاط جناحَيْ فابريس المحبوب من قِبَل الملك، أم لا؟
أمال دينيس رأسه إلى الخلف تمامًا وأشعل سيجاره.
سرعان ما امتلأت الغرفة بدخان السيجار.
علاقته بأخيه غير الشقيق فابريس… لو أردنا شرحها لكانت معقَّدةً بعض الشيء.
باختصار، علاقة لا يمكن أن تصير وثيقةً أبدًا.
ولكن من المفارقات أنها كانت علاقة صداقةٍ واختلاطٍ ولو لمرة.
كان ذلك بسبب القاسم المشترك بين دينيس وفابريس: كلاهما فقد أمه في الصغر.
دينيس هو ابن الملكة الأولى، شارل.
وفابريس هو ابن الملكة الثانية، الملكة ماريان.
الملكة شارل، المنحدرة من عامة الشعب، وُضِعت قيد الإقامة الجبرية بعد ثلاث سنوات من ولادة دينيس، بسبب معارضة النبلاء القدامى العنيفة.
ومَن احتلَّ مكان شارل بعد ذلك كانت الملكة ماريان، المنحدرة من عائلة دوقية عريقة تنتمي إلى صفوف النبلاء القدامى.
فما الجدوى إذاً من الحديث عن علاقة دينيس وفابريس؟ ولكن حينما توفيت الملكة شارل بسبب المرض وكان دينيس في التاسعة، ثم لحقت بها فيما بعد الملكة ماريان بعد أن أنجبت جوليان، شقيق فابريس الأصغر، انقلبت الموازين.
كان الاثنان وكأنهما وحيدان في العالم، يعتمد كلٌّ منهما على الآخر ويواسيه لاجتياز تلك الأوقات الصعبة.
ولكن مع مرور الوقت تغير الوضع.
ما فرَّق بينهما كان الدم الذي يجري في عروقهما.
كلما كبر دينيس، ازداد شبهًا بالملكة شارل في ملامحها.
أما فابريس، فكلما مرَّ الوقت ازداد شبهًا بوالدهما، إليوت.
كان إليوت يحنو على فابريس الذي يشبهه أكثر، وكأنه يعيد شبابه من خلاله.
فإليوت، المولود أميرًا خامسًا، والذي نشأ منكمشًا لا يستطيع فرد كتفيه تحت وطأة سطوة إخوته وأخواته الكبار، بدا وكأنه ينفس عن نفسه ولو قليلًا من خلال فابريس.
لقد قدَّم له بسخاء دعمًا لكل ما كان يتمناه لنفسه في صغره ولكنه لم يستطع فعله.
وكأنه يحقق إشباعًا بديلًا.
كما أن عطف الملك الأب على فابريس لم يكن لأسباب عاطفية فقط.
فحتى لو كانت أم فابريس قد رحلت عن العالم، فإن نفوذ عائلتها لم يختفِ.
فبيت دوق بريم، الذي لا يزال يتمتع بنفوذ قوي، يشكل عائلة أمه الداعمة الصلبة له.
أما دينيس فلم يكن لديه شيء.
والآن بعد أن رحلت الملكة شارل، اليتيمة المنحدرة من عامة الشعب، لم يكن المؤيدون له سوى عدد قليل من النبلاء الجدد.
كانت قاعدة التأييد لدينيس أعلى نسبيًّا بين عامة الشعب.
لكن دعم العامة لم يكن عاملًا مؤثرًا بشدة في الوصول إلى العرش.
فقد احتقر النبلاء المحافظون الدم الشعبي الذي يجري في عروقه.
مهما بلغت كفاءته.
وأي شأن لذلك الدم التافه؟
في سن المراهقة الطائش، أوقع نفسه في مشكلة إيذاء ذاتي لأنه أراد استنزاف كل الدم “الخبيث” الذي يجري في جسده.
بالطبع، كل ذلك من الماضي الآن.
فالندبة تحت الوشم على صدره الأيسر كانت علامة نار تذكره دائمًا بدمه.
فترة الصداقة الحميمة مع فابريس، رغم أنها قبل سنوات قليلة فقط، شعر وكأنها ماضٍ بعيد.
لو أن والده قرر سريعًا لكان أفضل، لكن الملك الأب كان يماطل ولا يرفع يدًا تأييدًا لأي منهما.
وفي غضون ذلك، علاقة دينيس وفابريس ابتعدت عن بعضها إلى حد لا يمكن السيطرة عليه.
لو أن الملك الأب رفع الأمير الثاني، فابريس، وليًّا للعهد، لحُلَّ كل شيء.
فبالرغم من وجود مبدأ تفضيل الابن البكر، إلا أنه ليس مبدأً لا يمكن الخروج عنه.
ألم يكن إليوت نفسه أميرًا خامسًا؟ بل إن دوق برييم كان يقدّم التماسًا يوميًّا لتتويج فابريس وليًّا للعهد.
لم يستطع دينيس أن يفهم ما يضمره والده في نفسه.
لو أن والده وضع التاج على رأس فابريس، لاستطاع دينيس مغادرة القصر دون أدنى حَسرة.
وباستمرار ذلك الوقت العقيم، فقد دينيس حتى سبب إصراره على أن يصير ملكًا.
في البداية، كان يريد فقط الانتقام من النبلاء الذين احتقروه.
لكن المعنى صار غامضًا شيئًا فشيئًا، وبدا وكأن الفراغ ينخر فيه.
شعور بالعجز والعبثية.
ضغط دينيس على صدغيه.
لو كان يستطيع التوقف عن التفكير… نهض من كرسيه بفكرٍ مثقَل وتوجّه إلى نهاية غرفة مكتبه.
عندما فتح النافذة المغلقة قليلًا، دخلت نسمة هواء مع ضحكة عالية وصافية تتجاوز النافذة.
تيريز إنجيلغر.
لو وقف عند حافة غرفته لرأى ركن حديقتها.
هي بالتأكيد لا تعلم أن حديقتها تُرى من هذه الغرفة.
لو علمت لما أطلقت حتى شعرة في الحديقة.
رأى مؤخرة رأسها الصغيرة المستديرة التي تموج وكأنها مضفورة بخيوط الذهب.
تحت تلك المؤخرة الصغيرة، ظهر فستان أزرق شفاف يتهادى.
يبدو أن زوجتي في مزاج جيد اليوم.
يبدو أنها جالسة مع أناس لا يعرفهم وتتحدث عن شيء ممتع.
كانت ضحكاتها تصل إليه بلا انقطاع.
اتكأ دينيس على الحائط بشكل مائل، وأطلق دخان السيجار بينما كان يحدق في تلك الصغيرة.
الابنة الصغرى لماركيز إنجيلغر، وأشرف امرأة في مملكة فالوا.
لو كانت والدته، الملكة شارل، لا تزال على قيد الحياة، لما حظيت تلك المرأة بلقب “أشرف امرأة”.
لكن أمّه قد رحلت عن العالم منذ أكثر من عشرين عامًا، والملكة ماريان التي أتت بعدها لحقت بها.
لذلك، بلا شك، هي أشرف امرأة في فالوا حقًّا وفعلاً.
الدم النبيل.
تذكّر دينيس هذه الكلمة وهو يبتسم ابتسامة ساخرة.
كان يحتقر النبلاء المهووسين بالدم.
ألم يرش إنجيلغر دماءً بريئة ليحافظ على ذلك “الدم النبيل”؟
فأمّه، الملكة شارل، كانت إحدى ضحايا إنجيلغر.
وجد دينيس وضعه مضحكًا.
لقد تزوج بابنة العائلة التي يحتقرها إلى أقصى حد، ويواجهها كل يوم.
أليس هو الأمير التعيس الذي لم يكن لديه حتى القوة لرفض زواج غير مرغوب فيه؟
عندما قُدِّمت ترشيحات للأميرة، كان يتمنى من بين المرشحات الثلاث ألا تكون إنجيلغر.
أما غيرها، فلم يكن يبالي مَن ستجلس إلى جانبه.
ولكن يبدو أن إنجيلغر قد استنتجت أن دينيس مهتمّ بمرشحة أخرى.
وإلا لما احتاجت إلى التصرف بهذه العجلة.
أحسَّ دينيس بدم زوجته مقززًا من جديد.
بالتأكيد لم يكن قرارها وحدها. لا بد أن نفوذ والدها الماركيز قد تدخّل.
فماركيز إنجيلغر، والد الزوجة، كان مشهورًا في العاصمة بمكائده القذرة.
اعتقد دينيس أن ماركيز إنجيلغر لديه ما يبتغيه، لذا ربط به ابنته.
ولم يكن يجهل نواياه.
كان يتظاهر فقط بعدم المعرفة.
أظننت أنني لن أعرف إذا تظاهرت بالطاعة ظاهريًّا؟
كان ذلك مثيرًا للشفقة.
أن يتحدثوا عن الحق والمسؤولية وعيونهم تلمع بالطمع؟ إنه أمر غير معقول.
بل إنه، بصفته والد الأميرة، كان منظر تدخله في شؤون القصر الكبيرة والصغيرة مثيرًا للسخرية.
زوجتي الذكية بالتأكيد لا تجهل ذلك.
ومع ذلك، انظروا إلى سلوكها النبيل.
لم يكن هناك شيء لا يقززه، سواء في تظاهرها بعدم المعرفة، أو في إيماءات وحركات يدها وجسدها الأنيقة التي لا تخرج عن نطاق تصرفات السيدة النبيلة شعرة.
شعر دينيس فجأة بالغثيان.
أطفأ السيجار بسحقه.
هل شعرت بأن أحدًا يحدق فيها؟ نظرت تيريز في اتجاه دينيس.
و التقت أعينهما.
كأن ضحكتها الصافية كانت كاذبة، ففي نظراتها التي توقفت للحظة، لم يكن هناك أي عاطفة.
أغلق دينيس النافذة بعنف وخرج من مكتبه بخطوات واسعة.
شعر بضيق في صدره.
كان بحاجة إلى هواء نقي.
[يتبع في الفصل القادم]
التعليقات لهذا الفصل " 2"