بدأ البابا يسكب الماء في إبريق الشاي ليغليه.
وعندما غلى الماء، صدح صوت صفير خفيف من الإبريق.
نهض البابا من مكانه، وأخرج الشاي من وعاء الشاي لتحضيره.
كان وعاء الشاي صندوقًا خشبيًّا صغيرًا مُطَلي مقبضه ومزلاجه بورق الذهب.
على واجهة وعاء الشاي نُقِش رسمٌ مُستلهم مم كتاب “نيت”، يصور كرمة عنب وقطة، وشجرة زيتون ونعجة.
كان وعاء الشاي غاليًا للغاية، لدرجة أن مدنيّا عاديًا قد يعمل طوال حياته ولا يكاد يحصل على مثله.
حتى تلك اللحظة، لم تتبادل أي كلمة بين البابا ودينيس.
كان كل منهما يترقب الآخر، ليَعلَم مَن سيتحدث أولًا وماذا سيقول.
عندما صبَّ البابا الشاي بِرِفق، تَصاعدت رائحة عطرة من فنجان الشاي.
“إنه شايٌ طيّب.”
“سعدتُ بأنه نال إعجابك.”
تحدث دينيس وهو ينظر إلى فنجان الشاي.
“النقش على وعاء الشاي يُذكِّرني بقصيدة من كتاب نيت.”
“هل تقصد قصيدة النعجة التي ردَّت الجميل؟”
سأل البابا.
“نعم، كانت المفضلة لدي في طفولتي تحكي عن شجرة زيتون رَقَّت لنعجة جائعة لأيام، فأذنت لها بأكل ثمارها.”
أمسك دينيس فنجان الشاي ورشف منه رشفة.
“إنها قصيدة أحبها أنا أيضًا.”
“إذاً أنت تعرف القصة بأكملها.”
نظر دينيس إلى البابا.
ارتَبكَ البابا من حديث الكتاب المفاجئ، لكنه تابع القصة:
“مع مرور الوقت، شاخت شجرة الزيتون ومرضت، فأراد الناس قطعها لكن النعجة بذلت جسدها لتمنعهم وفقدت حياتها في النهاية فرَقَّ لها الإله، ومنحها حياة جديدة.”
“أنت على دراية تامة بها، قداسة البابا.”
ابتسم دينيس ابتسامة خفيفة.
كان من الطبيعي أن يكون البابا مُلمًّا بالكتاب.
“نعم، بالطبع.”
أجاب البابا بطريقة دفاعية.
“لقد أثرت فيَّ النعجة التي لم تنسَ الجميل رغم مرور ‘الزمن’ وأنت يا قداستك؟”
“أنا أيضًا كذلك فالإله يُفرِّق بوضوح بين الفضيلة والخطيئة.”
“جيد. إذاً، لم تنسَ دَيْني لك يا قداستك.”
“……”
“أريدك أن تردَّه لي.”
نظر دينيس إلى البابا بنظرة خالية من أي شعور، وكأنها لا تحمل شيئًا.
“…وما دافعك لذكر ذلك الآن؟”
عقد البابا حاجبيه، وكأن موضوع دينيس أزعجه.
“لأن الآن هو الوقت الأنسب أنت تعرف جيدًا الصعوبات التي أواجهها في مسألة خلافة العرش.”
ألقى دينيس بكلمته الحاسمة.
“أحتاج مساعدة المعبد.”
***
داخل العربة العائدة من المعبد.
أمال دينيس رأسه للخلف تمامًا وأغلق عينيه.
هل سيقبل البابا العرض؟
في الحقيقة، كان تهديدًا مُقنَّعًا بعرض.
فقد ذكر الملكة شارل، وهي نقطة ضعف البابا، فحسب أن البابا لن يستطيع تجاهله.
‘الإله يراقب.’
رفع دينيس يده اليمنى ووضعها على صدره
استحضر العبارة المنقوشة تحت طبقات ملابسه.
انطلق ضحك أجوف من فمه.
بدا صوت حوافر الخيل التي تضرب الأرض “تكتوك، تكتوك” كأنه أغنية هادئة.
كان متعبًا لحد الجنون، لكن النوم لم يُقبِل.
فتح دينيس عينيه ونظر خارج النافذة.
لقد وصلا بالفعل بالقرب من القصر الملكي.
“يمكنني النزول هنا، ربما أتمشى قليلًا.”
توقفت العربة، وعندما همّ الخادم بالاستعداد للنزول، رفع دينيس يده ليمنعه.
“عد أنت والسائق.”
“لكن يا صاحب السمو…”
“إنها غابة ملكية، فماذا قد يحدث؟ المسافة من هنا إلى القصر يمكن قطعها سيرًا.”
أظهر الخادم تعبيرًا متحيرًا، ثم استسلم.
“حسنًا عد قبل غروب الشمس، يا سيدي.”
“سأفعل.”
نزل دينيس من العربة ونظر إلى الغابة.
كانت غابة من أشجار البتولا مملوكة للعائلة المالكية.
كانت أشجار البتولا الكثيفة تتمايل مع الريح.
صوت تمايل الأشجار “شآآآ، شآآآ” بدا أحيانًا كصوت الماء الجاري.
بدأ يمشي ببطء. مرت رائحة الشجر النقي بأنفه.
تحولت شتلات البتولا التي قُدِّمت قبل مائة عام من قِبَل أحد النبلاء إلى غابة كثيفة، صارت مكانًا يأتي أفراد العائلة المالكة بين الحين والآخر للراحة.
ويروى أن الملك السابق كان يعتز جدًّا بغابة البتولا، حتى بنى منزلًا شجريًّا في وسط الغابة وكان يزورها يوميًّا.
كدليل على ذلك، إذا توغلت إلى الداخل، يمكنك رؤية المنزل الشجري الذي لا يزال محافظًا عليه جيدًا رغم مرور عقود.
لقد مرت سنوات منذ آخر مرة زار فيها غابة البتولا.
إذا عبر طريق المشاة، سيصل إلى البوابة الغربية للقصر الملكي بعد ساعتين تقريبًا.
سار وهو يستمع إلى صوت همس كل شجرة بتولا على حدة.
أرخي ربطة عنقه التي كانت تخنق رقبته.
مرت نسمة من الهواء بشعره الأسود الداكن الناعم فبعثرته.
شعر دينيس فجأة بشعور غريب.
كأنه رأى نفسه يتدحرج في غابة البتولا مع تلك المرأة.
أكان حلمًا؟ أم نبوءة؟
كأن رائحة مألوفة مرت مع النسيم.
رائحة زهرة خفيفة ورائحة دهن عطري.
استدار لينظر خلفه.
كانت المرأة واقفة بوجه ذاهل.
“ما الأمر؟”
“لقد خرجت للتنزه، نصحني طبيب القصر بالمشي كثيرًا…”
تمتمت المرأة في حيرة.
كانت واقفة بمفردها، دون وصيفات.
يبدو أنها أيضًا لم تكن تتوقع مقابلته هنا.
“آه، حسنًا.”
مرت ريح بينهما.
تطاير طرف فستان المرأة مع الريح.
خلع دينيس معطفه ووضعه على العشب المستوي تحت المنزل الشجري، ثم استلقى.
بينما بقيت المرأة واقفة في مكانها كأنها تجمدت.
“ماذا تفعلين؟ إما أن تجلسي، أو تعودي.”
كانت ملامحها مضطربة.
لكنها ربما ظنت أنه لن يطردها، فجلست بحذر بجانب مكان استلقائه.
كان دينيس يستمع إلى صوت أطراف فستانها المتلامسة، وعيناه مغلقتان بهدوء.
ثم بدأت هي الحديث:
“وأنت يا صاحب السمو، لماذا أنت هنا في هذا الوقت؟”
“أنا أيضًا أتمشى.”
“… نعم.”
ترددت المرأة، وكأنها تريد سؤال شيء أكثر.
“إذا كان لديك شيء تقولينه، فقوليه بسرعة فأنا متعب قليلًا الآن.”
“ألم تنم جيدًا؟”
سألته بنبرة قلقة.
كان سؤالًا حنونًا للغاية، فشعر بغصة في صدره.
“كما ترين.”
كان صوت دينيس في إجابته خافتًا.
لقد قابل البابا بعد أسابيع من عدم الراحة بشكل صحيح، فلم يعد في جسده أي طاقة.
بهذا الشكل…
كلَّم دينيس نفسه في داخله.
سُمع صوت عصفور يزقزق من بعيد.
بينما كان مستلقيًا ساكنًا في غابة البتولا، بدا وكأن أعصابه المتوترة كالسيف قد خفت حِدَّتها.
كان صيف لوبيرن القصير يقترب من نهايته بالفعل.
عندما ينتهي الصيف القصير، سيأتي الشتاء الطويل.
“… تيريز.”
“نعم، يا صاحب السمو.”
“لنعد عن لقب ‘الأمير’، هل نذهب للعيش في الجنوب؟”
ألقى كلمته وكأنها مزحة خفيفة، ويده على عينيه.
لم تجب تيريز.
“إذا كنتِ لا تحبين الجنوب، فماذا عن الشرق؟”
تذكر أنها أحبت غابة الشرق التي ذهبت إليها لقضاء إجازة.
لقد مرت سنتان منذ ذلك الوقت الذي قضياه في تلك الغابة.
“حتى ذلك الوقت…”
فتحت فمها بحذر.
“حتى ذلك الوقت…هل ستحتاجني؟”
اعتقد أن السؤال بدا يائسًا بطريقة ما.
“بالتأكيد يا زوجتي.”
كان صوته حنونًا وكأنه لم يرفضها قط.
أحست تيريز بالأسى من إجابته.
أرادت أن تسأل: لماذا طلبت منها أن تترك يده إذاً؟
أيعني ذلك أنه لم يعد بحاجتها الآن؟
“إذاً لماذا طلبت مني أن أترك يدك؟”
سألت في النهاية.
خفضت تيريز رأسها.
لم تكن تثق في نفسها لترى وجهه وتسمع إجابته.
أجاب دينيس برَويّة:
“حسنًا…هل كانت هناك طريقة أفضل؟ لا أعرف حقًّا.”
“……”
“كان عليّ قول ذلك أنا.”
كانت كلمات تشبه الاعتذار.
لكنه تابع قائلًا:
“إذا لم أعد بحاجتك، سأخبرك بذلك بالتأكيد حينها أتفهمين؟”
رفعت تيريز رأسها المنخفض.
هذه الكلمات تعني أنه لا يزال بحاجة إليها الآن، على الأقل.
لم تكن إجابة شافية، لكنها على الأقل لم تكن تعني أنه سيتخلى عنها الآن.
شعرت تيريز بارتياح طفيف.
تثاءب وكأنه متعب.
سألته على الفور:
“هل يمكنني مساعدتك على النوم؟ يا صاحب السمو.”
“لا داع…”
كان العرض مغريًا للغاية.
للحظة، لم يستطع الرفض ونظر إلى تيريز.
رأى بحرًا في عينيها اللتين تحدقان فيه.
أراد أن يغرق في ذلك البحر ويستريح.
“نعم. يا تيريز.”
جذب ذراع تيريز.
ساعديني على النوم، من فضلك.
جُرَّ الجسد الصغير فوق جسده.
كانت درجة حرارة جسدها المألوفة التي تلف حول يديه، وكتفاها النحيلتان، مبهجتين للغاية.
كان الشعور كأن قطعة لغز مفقودة قد وجدت مكانها الصحيح.
تطابقت تمامًا دون أدنى خطأ.
انتابت دينيس رعشة في جسده كله.
بدا وزن المرأة أخف مما يتذكر.
كانت تنظر إليه من فوق.
تساقطت خصلات شعرها بخفة، كستارة ذهبية تحيط بهما.
تموجت أمواج زرقاء صافية في عينيها الواقعتين في الظل.
بينما كان ينظر إليها من الأسفل، شعر بإحساس مختلف عندما نظر إليها من الأعلى.
كان شعورًا غريبًا.
أمعن دينيس النظر في وجهها، ثم اكتشف نقطة صغيرة تحت ذقنها.
كانت نقطة لم يلاحظها جيدًا عندما كان ينظر إليها من فوق.
داعب نقطتها بإصبعه السبابة بخفة.
شعر بانتعاش بمجرد هذا الاكتشاف الصغير.
“هل يمكنك خفض رأسك؟”
اصطدم طرف أنف تيريز المقترب بأنفه.
التهم دينيس شفتيها كإنسان متلهف.
رأى الضوء يتسلل بين أشجار البتولا.
بين أوراق الشجر، بين خصلات الشعر المتطايرة.
ربما لم يكن ذلك الشعور الغريب مجرد “ديجا فو”؟
ابتسم دينيس ابتسامة صغيرة.
كانت ابتسامة راضية نادرة.
شعر بإحساس كسول وكأن ضيفًا مرحبًا به يزوره.
أطبقت جفناه براحة.
أخيرًا، غرق في البحر.
(يتبع في الفصل القادم )
ترجمة مَحبّة
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
مُخادعتي الحُلوة!
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات لهذا الفصل " 19"