لم يكن المركيز بنشترايت قد أعلن بعد تأييده صراحةً لـفابريس، بل كان يمشي على حبلٍ مشدودٍ في صمت.
التفتَ نحو الأميرة، فوجدها ترفع كوب الشاي بهدوءٍ لتتناول رشفة.
لقد كان للتو قد اطَّلعَ على تقرير فحص منجم بوي مايه.
لو كان الدخل القادم من المنجم مضمونًا، لحتى بعد وفاته، لتمكنت سونيا من مواصلة دراستها دون مشقَّة.
لكن مع ظهور متغيرٍ جديدٍ هو إِنلاند، بدأ سعر حجر الكوبالت من بوي مايه في الانخفاض.
كان الماركيز في حيرةٍ من أمره.
لو لم يكن منجم بوي مايه في الصورة، لما احتاجَ إلى تأييد الأمير الثاني، ولبقيَ محايدًا كما هو الآن، راعٍ دور المركز الرئيسي للإقليم الأوسط.
بينما كان غارقًا في التفكير حول كيفية التعامل مع هذا الأمر، جاءه الحلُّ الذي يحتاجه على نحوٍ غير متوقعٍ من أميرة ولي العهد.
“إنه ابن البارون المُتوج حديثًا طلبه الوحيد هو دخول مجتمع ليوبرين وبناءً على اتفاقنا، سيؤيد الأمير الأول فور حصوله على اللقب لكنه في نظر المجتمع الأرستقراطي ما يزال مجرد نبيلٍ دخيلٍ اشترى لقبه سيكون صعبًا عليه الاندماج في المجتمع الأرستقراطي.”
“إذاً، فهو يريد أن يتقرَّب عبر خطبة ابنتي، من عائلة النبلاء القدامى، ليستقر في مجتمع ليوبرين الأرستقراطي؟”
جلس الماركيز وقد ضمَّ ذراعيه.
لم تكن كلمات الأميرة موثوقةً تمامًا بالنسبة له.
لقد رأى عددًا لا يُحصى من أولئك الذين يطمعون في ثروته.
“بالتأكيد، لكنّ هذا لا يخلو من فائدةٍ لك أيضًا، أيها الماركيز.”
بدأت الأميرة تُقنعه برقَّةٍ ولُطف.
“لأنه الرجل المنشود الذي كنتَ تبحث عنه.”
“وكيف أنتِ متأكدةٌ من ذلك؟”
ردَّ الماركيز راغبًا في سماع ما ستقوله.
أخذت الأميرة تعدُّ فوائد هذا الزواج للمركيز واحدةً تلو الأخرى:
“أولاً، بما أن ثروة آل مراد البارونية تفيض، فلن يطمع في ثروتك كماركيز أليست هذه أهم مسألة؟ ثانيًا، بما أن بارون مراد من الجنوب، فليس له علاقاتٌ كثيرةٌ في العاصمة وهذا يعني أن سونيا بعد الزواج لن تضطر للظهور في المناسبات الاجتماعية كما تفعل الآن حتى لو بقيت في القصر للدراسة، فلن تنتشر أي إشاعاتٍ عنها في ليوبرين وأخيرًا…”
وصلت الأميرة إلى هنا وابتسمت ابتسامةً خفيفة.
“أخيرًا، بما أن طرف البارون هو الأكثر رغبةً في هذه الزيجة، يمكنك أن تضع شروطك كما تشاء مسبقًا، أليس كذلك؟ مثل عقد ما قبل الزواج، على سبيل المثال.”
عقد ما قبل الزواج.
استقرت الكلمة الأخيرة في نفس الماركيز بنشترسيت.
“وهل سيوافق البارون على عقد ما قبل الزواج؟”
“طبعًا. ضع الشروط التي ترغب بها.”
أجابت الأميرة بكل سرور.
“وما الذي سيكسبه البارون مقابل كل هذا؟”
قال الماركيز، الذي بدأ يستسلم لكلام الأميرة.
“لن يحصد هو الثمرة، بل ذريته من بعده سيغرس بذرة القرابة مع آل الماركيز، وهو الآن مجرد بارون، وستقطف الأجيال القادمة الثمار.”
نظر الماركيز إليها صامتًا.
بينما نظرت الأميرة إليه وابتسمت.
كان لكلامها منطقٌ.
لم يكن البارون يطمع في المنفعة الحالية.
بل أراد الاستقرار بنجاحٍ في ليوبرين، وأن تبقى ذريته في الأجيال القادمة تحمل في عروقها دماء آل الماركيز.
بهذا، سينتقل فجأةً من مجرد نبيلٍ من الجنوب ليصبح عضوًا في عائلةٍ أرستقراطيةٍ نافذةٍ في العاصمة.
هكذا كان مسار زواج سونيا وجيروم.
تزوجت سونيا من رجلٍ التقت به ثلاث مراتٍ فقط، لكن يبدو أنها معجبةٌ بزوجها.
كان جيروم لا يزال يتحدث مع الناس.
ووصلت حتى إلى هنا نسماتٌ من روحه المشرقة والمرحة.
نظرت سونيا إلى جيروم بحنانٍ وقالت:
“قلبه طيِّب، ووجهه أجمل.”
“حقًا!”
اضطرت تيريز للابتسام أمام صراحة سونيا.
“قلتُ له أيضًا أني سعيدةٌ لأنه يناسب ذوقي في المظهر لو لم يكن كذلك، لما وافقت على الزواج حتى لو دفعني أبي إليه.”
“إنه محظوظٌ لقد ورَّث البارون مراد ابنه صفاتٍ جيدة.”
“أجل أشكرك، سيِّدتي.”
“أتمنى لكما حياةً سعيدة عليَّ الذهاب الآن.”
“شكرًا لك أتمنى لكِ طريقًا آمنًا.”
أدَّت سونيا تحيتها لها بأداءٍ غير متقن.
***
عادت تيريز إلى القصر بمفردها.
مع صعودها إلى العربة، بدأ المطر يهطل، بعد أن ظلَّ متوقفًا حتى نهاية حفل الزفاف.
فتحت تيريز نافذة العربة قليلًا.
ارتفع ضبابٌ بسبب وابل المطر الغزير.
لم تستطع رؤية الطريق أمامها ولو لشبر.
استمعت إلى صوت المطر يقرع سقف العربة وغطَّت في خواطرها.
لأنها تذكَّرت ما قاله دنيس.
كلامه بأن تترك الأمر.
حدَّقت تيريز بحذائها.
الحذاء الأسود الذي صُنع ليتناسب مع طول قامته.
الذي ارتدته عند ذهابها إلى الملجأ.
شعرت أن تلك اللحظات السعيدة، المليئة بالبهجة، تبدو كماضٍ بعيد.
هل ستمر هذه اللحظة أيضًا هكذا؟
أغمضت تيريز عينيها تحت وطأة التعب الذي انقضَّ عليها.
شعرت أن مناقضتها، إذ تمنَّت السعادة للعروس الجديدة وهي نفسها غير سعيدة، أمرٌ مضحك.
***
في تلك اللحظة.
بعد حديثه مع الماركيز بنشترسيت في غرفة العمل وعودته إلى مكان جلوسه، أدرك دنيس أن تيريز قد اختفت.
“أين ذهبت الأميرة؟”
“عادت سيِّدتنا إلى القصر.”
كانت هذه إجابة الفارس الحارس للمدخل عندما سأله.
“……”
حدَّق دينيس في المكان الذي كانت تجلس فيه.
ثم نظر إلى الزوجين اللذين تَزوَّجا للتو.
كان الزوجان ممسكين بأيدي بعضهما، ضامَّين للأذرع، يضحكان بمرح.
فجأة، بدأ المطر يهطل بغزارة.
“أسرِعوا بالدخول إلى الداخل! يا جيروم!”
“افتحوا المظلة!”
“المطر غزيرٌ جدًا يا رئيس الخدم!”
في لحظة، امتلأت الحديقة بالمياه المتدفقة.
انتهى حفل الزفاف تقريبًا عندما انهمر المطر.
في النهاية، انتهى الزفاف بشكلٍ فوضوي دون أن تُفتح المظلة.
كان طقس ليوبرين في هذا الوقت من العام أشبه بمهرةٍ جامحةٍ تعبث كما تشاء.
البعض فتح مظلاته، والبعض هرول إلى الداخل، والبعض احتمى تحت الأشجار، وبين هذا وذاك، كان الخدم والإماء يتلفتون حائرين باحثين عن أسيادهم.
وقف دينيس في ذهولٍ كطفلٍ ضائع.
“سمو الأمير.”
لم يردَّ دينيس.
عندما يغرق في التفكير العميق، كان أحيانًا لا يسمع حتى عندما يُنادى.
هزَّه سيلبانغ برفقٍ ليوقظه من شروده.
“سمو الأمير. ملابسك تبتل من الأفضل أن تعود إلى القصر الآن.”
“نعم. يجب ذلك.”
ارتفع ضبابٌ في الحديقة التي فرغت من الناس كالمدّ الجزر.
اختلطت المراوح والشرائط الصغيرة التي نسيها الناس، والأطباق الفارغة والقمامة، وزينة الأزهار معًا.
شعر المرء بإحساسٍ بالخراب والجفاف، لا يمكن تخيُّل أن هذا المكان كان مليئًا بالناس قبل قليل.
“……”
عاد دنيس أخيرًا إلى عربته وهو يسحب حذاءه المبتل.
لأن العربة التي أتيا بها معًا كانت قد عادت بـ تيريز، استقلَّ العربة التي أعارها إياه الماركيز بنشترسيت.
أحضر سيلبانغ مظلةً عبر أحد الخدم.
لكن بما أن ملابس دينيس كانت قد ابتلت تمامًا، لم تكن ذات فائدة.
عوضًا عن ذلك، لفَّ سيلبانغ جسد دنيس ببطانيةٍ كانت معدةً في العربة.
لا يدرى إن كان الماركيز قد أعاره أفضل عرباته، لكن العربة كانت واسعةً ومريحة.
لكن دينيس بدا غارقًا في تفكيرٍ عميق.
راقبه سيلبانغ ثم ناداه:
“سمو الأمير ماذا قلت للأميرة قبل قليل؟”
“ماذا؟”
“عندما كنتما ترقصان معًا بعد ذلك، لم تكن ملامح الأميرة جيدة.”
“ولماذا تهتم يا سيلبانغ بزوجتي؟”
كانت نبرة دينيس حادة.
“ليس الأمر كـذلك…”
قال دنيس بلا مبالاة:
“قلتُ لها: اتركيني و شأني.”
ارتبك سيلبانغ للحظة ولم يتمكن من قول أي شيء.
“لماذا فعلت ذلك؟ خطط الأميرة مفيدة لك إنها تساعدك.”
نظر دنيس إلى سيلبانغ وهو يبتسم، ووجهه شاحبٌ من المطر.
“ألديك، أيها المستشار، حق استجوابي عن أسبابي؟ لم أكن أعلم.”
“كان ذلك تجاوزًا للحدود، أعتذر.”
أدار دنيس رأسه.
انحنى سيلبانغ برأسه أيضًا ولم يعلق بأي شيء.
***
عندما نزل من العربة، كان المطر الغزير لا يزال يتساقط.
خرج خادمٌ حاملًا مظلةً لاستقباله.
“هل عدت، سموك؟”
دخل دنيس القصر بخطواتٍ كبيرة.
“هل ترغب أولاً في الاستحمام بماءٍ دافئ؟ إذا بقي هكذا، ستصاب بنزلة برد.”
“افعل ذلك.”
كان صوته منخفضًا بشكلٍ ملحوظ.
إضافةً إلى أن شفتيه فقدتا لونهما وبدتَا شاحبتين.
أدرك الخادم أن مزاج دينيس ليس جيدًا، فذهب مسرعًا ليأمر بإعداد ماء الاستحمام.
***
طَقْ.. طَقْ.
سقطت قطرة ماء متكاثفة على السقف فأصدرت صوتًا.
كان الحمَّام الذي يوجد فيه دينيس مليئًا بالرطوبة لدرجة عدم القدرة على الرؤية.
انغمس دينيس في الماء الذي يبرد تدريجيًا، فتذكر لقاءه الأخير مع ريتشارد.
“ما الذي أتى بك؟”
قال دينيس لـ ريتشارد حالما جلس.
“أتيتُ للتحية.”
وضع ريتشارد فنجان الشاي ببطءٍ ثم نظر إليه.
“أفهم أن بيننا ما يستدعي التحية.”
“بالتأكيد، فأنا الأخ الشقيق لـ تيريز.”
ردَّ ريتشارد على دينيس دون تراجعٍ وابتسم ابتسامةً عريضة.
“رجاءً، اذكر طلبك أولاً، ليس لديَّ الكثير من الوقت.”
“اطلق سراح تيريز، طلِّقها.”
“ها! لقد قدَّمتموها لي، والآن تطلبون الطلاق؟”
رفع دينيس حاجبيه.
“لن يدع الماركيز إنجليغر تيريز وشأنها اطلق سراحها قبل ذلك.”
ظهرت على وجه ريتشارد، الذي نادى والده بـالماركيز، صرامةٌ حازمة.
“حسنًا… هذا لا يبدو رأيًا جيدًا من الأكثر أمانًا أن تكون الزوجة تحت حمايتي.”
لكن ريتشارد هزَّ رأسه.
“أنت تعرف جيدًا أن تلك الفتاة تحاول بكل السبل الباطلة أن تضعك على العرش كلما تلوثت تيريز أكثر بأوحال هذ البلاط، كلما وجدت نفسها عاجزةً عن الخروج من معركة الوحل هذه.”
ثم تابع كلامه وكأنه يتألم:
“والماركيز… الماركيز رجلٌ ينفذ ما يقول هو الآن ينتظر بصمتٍ أن تنجب تيريز وريثًا، لكن إن طال انتظاره دون أن يسمع خبرًا، فسيطردها.”
“هذا…”
“أقصد أن طفلها سيُستبعد إذا أصبح غير ضروري أنت تعرف جيدًا معنى “الاستبعاد” الذي أتحدث عنه، على طريقته.”
“……”
نظر دينيس إلى ريشار صامتًا.
“قبل أن ينفد صبر ذلك الرجل، انفصِل أنت عنها أولاً. ستكون هذه الطريقة الوحيدة لإنقاذ تيريز.”
***
توقَّفت الذكرى عند هذا الحد.
الطلاق… شيء لم يفكر فيه أبدًا.
لو أراد قتلها لقتلها، لكنه لم يفكر أبدًا في إخراجها من القفص.
لقد عرقل أحيانًا ما تفعله لإثبات أنها تستطيع وضعه على العرش بنفسها، لكن غالبًا ما تركها تفعل وهي تعلم.
بل الأصح أن نقول: لم يهتم.
كان يعرف جيدًا أنها تفعل أشياءً لا تناسب طبعها رغمًا عنها.
والحقيقة أنها تبدو قويةً لكنها ضعيفة من الداخل.
وإصابتها بالأرق دليلٌ على ذلك.
كانت تحب الجلوس بهدوءٍ وشرب الشاي، والتطلع إلى الحديقة.
وأيضًا تحب الغابة.
تذكر عندما ذهب في رحلة إلى الشرق سابقًا، أنها بقيت في الغابة طوال اليوم.
أراد دينيس أن يحدِّد مشاعره تجاه تلك المرأة.
جرب أن يعدد العلامات التي يمكن إلصاقها بها.
هل هي التجانس؟
اعتقد أن بينه وبين تلك المرأة نقاط تشابه كثيرة.
مثل فقدان الأم في الصغر، وحب الهدوء، والمعاناة من الأرق.
أم الشفقة؟
ربما تكون الشفقة.
كانت الشفقة على شخصٍ تكرهه بحد ذاته كلامًا غير منطقي.
لكن الحقيقة أنه فكَّر مرارًا أن تلك المرأة تستحق الشفقة.
***
طَقْ.. طَقْ.
سقطت قطرة ماء متكاثفة من السقف إلى الأرض.
قطرة ماء مرت فوق حاجبه نزلت على خدِّه الأيسر.
كالدموع.
نهض دينيس وخرج من الماء.
كان الماء قد برد.
كطفلٍ أفاق فجأة من حلمٍ جميل، كان الواقع باردًا فحسب.
التعليقات لهذا الفصل " 17"