في منتصف الحديقة كان مفرشاً “طريق العذراء” المُصَنَّع من الديباج الثمين، وفي نهايته قوس مزين بالزهور الطبيعية ومُنصة مُعدَّة.
كانت المُنصة مكوَّنة من درجات ليمكن الكاهن الصعود عليها.
وعلى المُنصة نقوش عاجية مُرصَّعة بالجواهر تصوِّر “نايت”.
كانت الحديقة مزينة ببذخ وروعة.
على جانبي الحديقة نافورتان من الذهب، وفي أرجائها تحف منقوش عليها صور ملائكة.
لقد كان واضحاً لأول نظرة مقدار ثراء صاحب القصر.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد جُهِّز في أحد الأركان مظلة تحمي من المطر.
لأن صيف “ريوبيرن” يتقلب بشكل لا يمكن التنبؤ به.
ما أن رأى ماركيز “بينشيتريت” والد العروس، “دينيس” يدخل الحديقة حتى هرع إليه وأمسك بيده.
“أهلاً وسهلاً بك، سموُّك.”
“أهنئكم بمناسبة الزفاف.”
“كما أشكركِ لحضوركِ، سموُّ الأميرة.”
“لا داعي للشكر.”
“بعد انتهاء المراسم سيكون هناك حفل استقبال سيكون شرفاً عظيماً لنا إن تفضلتم بالبقاء حتى ذلك الحين، سموُّكم.”
“بالتأكيد، أيها الماركيز سأشارككم الفرحة بكل سرور”
كانت الحديقة مليئة بالضيوف.
كانوا يلتفتون حولهم متسائلين إذا كانوا سيرون ابنة ماركيز “بينشيتريت”، موضوع الإشاعات.
“أيها الضيوف الكرام، رجاءً تفضلوا بالجلوس سنبدأ الآن مراسم الزفاف المقدسة تحت رعاية الإله ليتقدَّم العريس.”
صعد الكاهن إلى المنصة وبدأ المراسم.
بدا العريس أنيقاً في معطف الصباح المصنوع من جلد الغزال الفاخر، وربطة العنق الحريرية البيضاء والزرقاء، وجبهته المكشوفة.
تقدم “جيروم” بخطوات واثقة ووقف أمام المنصة.
ثم نادى الكاهن العروس.
تقدمت “سونيا بينشيتريت”، التي كانت تنتظر في غرفة الاستعداد، بحذر لتنهي “طريق العذراء”.
تجمعت أنظار الضيوف على العروس.
لم تكن ملامح وجه العروس المخفي تحت الحجاب واضحة تماماً.
وهمس الحضور فيما بينهم.
“أليسوا يقولون إنها قبيحة؟”
“حقاً؟ لا أستطيع رؤيتها بوضوح… ألم يقولوا إنها مضطربة العقل؟”
“تبدو طبيعية بالنسبة لي…”
وكأنها لا تسمع هذه الثرثرة، مشت سونيا برفقة وصيفاتها على “طريق العذراء” ووقفت بجانب “جيروم مراد”.
استمرت خطبة الكاهن الطويلة.
“نحن شهود على اتحاد رجل وامرأة في ظل نعمة الإله ليحلف الاثنان، من الآن إلى الأبد، وفقاً للعقيدة، على الحب والرعاية المتبادلة.”
“أنا، جيروم مراد، أقسم باسم الإله.”
“ولتحلف العروس أيضاً.”
“أنا، سونيا بينشيتريت، أقسم باسم الإله.”
“وبهذا يصبح الاثنان واحداً رجاءً انضموا إليّ في تمنياتكم الطيبة لمستقبلهما معاً لتبدأ مسيرة طريق العذراء.”
ما أن أمسكت العروس بذراع العريس، حتى بدأ الزوجان مسيرتهما.
وصفق الحضور مجتمعين مباركين لهما.
أثناء مشاهدتها للزوجين، تذكرت تيريز زفافها الخاص.
ذلك اليوم الذي جاء بعد سنة كاملة من التحضير عقب حفل الخطوبة.
كان يوماً ربيعياً مختاراً بعناية من المعبد كيوم سعيد، لكن القدر شاء أن تهطل أمطار غزيرة جداً.
تذكرت كيف كان حفل الاستقبال معداً في الهواء الطلق، ولكن لأن المطر تسرب حتى من خلال الخيام، اضطرروا في النهاية لفتح القاعة الداخلية لاستقبال الضيوف.
كانت تلك الأوقات مشوشة لدرجة أنها لم تستطع حتى تذكر كيف مرت.
وعندما عاد دينيس بعد تقديم الشكر للحاضرين، كانت تفوح منه رائحة مطر خفيفة.
لأنه كان في الخارج يودع الضيوف.
كلما تذكرت زفافها، شعرت وكأن رائحة المطر الخفيفة تلك لا تزال تطفو حول أنفها.
“هل أنتِ متعبة؟”
سألها دينيس بهدوء.
كان حفل الاستقبال قد بدأ، وكان العريس والعروس يؤديان رقصتهما الأولى.
“كلا. كنت أفكر قليلاً في شيء آخر.”
هزت تيريز رأسها بالنفي.
“في زفافنا؟”
نظر إليها ضاحكاً بهدوء.
“… نعم زفافنا.”
جاءها الشعور بأنه و”هي” مرتبطان بكلمة “نحن” من جديد.
“في ذلك اليوم، بكيتِ، أليس كذلك؟”
“لم أفعل ولكن…”
همّت تيريز بالقول إنها كانت تفكر في والدتها الراحلة، ثم أطبقت شفتيها.
فموضوع والدتها كان بمثابة تابوت بينه وبينها.
“كنتِ جميلةً في ذلك اليوم تيريز.”
رفعت تيريز عينيها ونظرت إليه.
كانت عيناه الخضراوان مشرقتين.
“شكراً لك.”
لم تملك تيريز الطاقة لإخفاء وجنتيها المحمرتين، فأطرقت رأسها.
شعرت بأن آذانها احمرت حتى أطرافها.
لم تكن لديها مناعة ضد مثل هذه الكلمات.
“حسناً، لقد ارتديتِ أغلى فستان في فالوا، إذاً من الطبيعي أن تكوني جميلةً، أليس كذلك؟”
مرر دينيس بأطراف أصابعه على وجنتيها الدافئتين.
“لم يكن الأغلى فأغلى فستان كان لملكة فالوا الرابعة الملكة ماريان…”
حاولت تيريز على عجل تصحيح المعلومة الخاطئة، لكن دينيس كان ينظر إليها مبتسماً ابتسامة عريضة.
لقد كان يمازحها مرة أخرى.
“سموُّ الأمير.”
“نعم؟”
“لا شيء، لا شيء.”
لم تفعل تيريز سوى أن أطلقت تنهيدة.
“نعم. وأنا أيضاً.”
ربت دينيس على يديها المقبوضتين بإحكام.
لم تستطع تيريز تحديد ما إذا كان يجب أن تغضب منه أم لا.
انتهت رقصة العروسين الأولى.
تبع ذلك تصفيق الحضور، وبدأت الفرقة الموسيقية بعزف موسيقى رقص مرحة.
حان وقت رقص الضيوف.
“يا زوجتي يدكِ.”
أمسك دينيس بيدها وتقدَّم للأمام.
تبعته تيريز.
وعندما وقفا في وسط قاعة الاستقبال، أفسح الناس لهما مجالاً.
“لنُلقِ الزيت على نار شائعات الخلاف، أليس كذلك؟”
“حسناً، سموُّ الأمير.”
تحت قيادة دينيس، بدأت تيريز ودينيس بالتحرك ببطء.
جذب ظهرها تجاهه بيده بحميمية.
وجدت تيريز نفسها تقريباً في أحضانه.
كانت تيريز قد استجمعت شتات وجهها الذي احمرّ للتو بسبب مزحة دينيس.
ولكن الآن، بينما ترقص قريبة من صدره، بدأ قلبها يخفق بقوة.
كان حضنه دافئاً ومطمئناً.
على الرغم من أنها كانت ترقص معه فقط، إلا أن قلبها لم يستقر بسهولة.
على الرغم من أنها شاركته أفعالاً أكثر حميمية من هذا بكثير.
“بالمناسبة، هل هذا أيضاً من صنيعكِ؟”
همس في أذنها في اللحظة التي اقترب فيها منها مرة أخرى بعد أن أدارها دورة كاملة.
أدركت تيريز أنه يشير إلى ماركيز “بينشيتريت” والبارون “مراد”.
“نعم.”
اعترفت تيريز بهدوء.
“يبدو أنكِ لا تستطيعين الوثوق بي وتكليفي بالأمر، أليس كذلك؟”
“……”
لم تجب تيريز.
كان سؤالاً لا يمكن الإجابة عليه.
عندما مد ذراعه، دارت تيريز مبتعدة عنه.
“عدم الإجابة عندما يكون الموقف غير ملائم ليس عادة جيدة، يا زوجتي.”
“أعتذر.”
همست تيريز بكلمات غير واضحة.
“أتمنى ألا تفعلي شيئاً، يا زوجتي.”
“ماذا؟ ماذا تعني…”
أربكتها كلماته التي جاءت كالصاعقة.
لقد عرفت مسبقاً أنه يكره تدخلها.
لكن هذه كانت المرة الأولى التي تسمع فيها ذلك صراحة من فمه.
“توقفي، سأتولى الأمر من الآن فصاعداً.”
في تلك الأثناء، انتهت موسيقى الرقص، وترك دينيس يد تيريز.
كان ذلك متزامناً مع قوله “توقفي”.
ثم، بأدب لا تشوبه شائبة، انحنى دينيس لها تحية.
وبينما كانت تيريز مرتبكة بعد أن ترك يدها، ردت التحية له.
نفض طيات معطفه مرة واحدة، وتحدث مع شخص ما اقترب من الخلف، ثم غادر بخطوات واثقة.
نظرت تيريز إلى ذلك المشهد في حيرة.
“……”
لم تستطع الفهم.
ألم يكن واجبها أن ترفعه إلى العرش؟
ولكنه يقول لها توقفي.
هل هذا ما يريده حقاً؟ أم أنه لم يعد بحاجة إليها بعد الآن؟
وقف العريس والعروس ليحييا الضيوف.
بينما كانت تيريز تحاول اكتشاف نية دينيس، اقتربت منها العروس سونيا.
“شكراً لحضوركِ زفافي المتواضع، سموُّ الأميرة.”
قطعت تيريز سلسلة أفكارها، واستقبلت سونيا ورحبت بها.
“لا تقولي ذلك لقد كان حفلاً جميلاً ورائعاً للغاية اليوم.”
“أليس أنتِ من قدمت زوجي المستقبلي لوالدي، سموُّكِ؟”
أشارت سونيا بعينيها إلى حيث كان جيروم يقف ويتحدث مع بعض الأشخاص.
بدا جيروم يضحك بحرارة، وكأنهم كانوا يتحدثون عن شيء مضحك.
“لقد كانت مجرد إشارة في الوقت المناسب مع الشخص المناسب لم أفعل شيئاً آخر لقد كان عملكما أنتما الاثنين.”
قالت تيريز بلهجة حاسمة.
لم ترد سونيا بكلمة أخرى، بل ابتسمت ابتسامة هادئة.
سونيا بينشيتريت. الابنة الوحيدة لماركيز “بينشيتريت” الذي يحكم المنطقة الوسطى.
شخصية أنتجت الكثير من الإشاعات بسبب عدم ظهورها في المجتمع رغم بلوغها سن الرشد.
قال البعض إنها قبيحة، وقال آخرون إنها مريضة، لكن لم يكن أي من هذه الأسباب صحيحاً.
كانت سونيا ذكية بشكل استثنائي.
في سن الثالثة، أتقنت لغة فالوا الرسمية ولغة “إنلاند”، وفي السابعة، لم تحفظ تاريخ فالوا بأكمله فحسب، بل أتقنت أيضاً اللغة القديمة المعقدة التي لا تضاهى عبر الدراسة الذاتية.
كان ماركيز “بينشيتريت” فخوراً ومبتهجاً بلا حدود أن عبقري القرن هو ابنته.
لكنه لم يستطع التباهي بذلك علناً.
وذلك لأن سونيا كانت فتاة.
غرق الماركيز في الحيرة.
هل يعرض سونيا على العالم أم لا؟ كانت هناك أكاديميات عدة يمكن لبنات النبلاء الالتحاق بها.
لكن معظمهن كن يذهبن للأكاديميات من أجل التحصيل الثقافي والتواصل الاجتماعي.
‘سونيا، هل تريدين الالتحاق بأكاديمية؟ أم تفضلين البحث في المنزل؟’
أجابت سونيا على سؤال الماركيز دون تردد.
‘لقد فات الوقت لتعلم شيء من الأكاديمية أفضل البحث بمفردي، أبي.’
قبل ماركيز “بينشيتريت” قرار سونيا.
عادةً ما كانت بنات العائلات الأرستقراطية تعتبر الزواج بعد تلقي دروس التأهيل للزوجة ومساعدة أزواجهن أعظم نجاح في حياتهن.
ولكن إن كان هناك فرق بين سونيا وبنات الأسر النبيلة العاديات، فهو أن ماركيز “بينشيتريت” دعم ابنته دون تحفظ.
كان لدى ماركيز “بينشيتريت” السلطة والمكانة والثروة التي تسمح له بتوفير ما تريده لابنته الوحيدة.
لم يكن بحاجة لإرسالها للزواج، أو إجبارها على دروس الزوجة التي تكرهها.
تحت دعم والدها، نشأت سونيا كفتاة ذكية ولكن غير ماهرة تماماً في الآداب، وشقية بعض الشيء.
وكان ماركيز “بينشيتريت” سعيداً حتى بذلك.
بحجة أن عدم القدرة على شيء ما ليس سيئاً.
عندما بلغت سونيا الثامنة عشرة، وانهمكت في البحث لاكتشاف نظرية جديدة، وعاشت في عزلة دون الاحتفال ببلوغها سن الرشد، كان ذلك أيضاً برغبة الماركيز.
لكنه لم يستطع العيش مع ابنته الوحيدة إلى الأبد.
مع تقدم سونيا في العمر يومًا بعد يوم، بدأ الماركيز يشعر بالخوف.
لن يتمكن من حماية ابنته إلى الأبد.
عندما يلفظ أنفاسه الأخيرة، قد يقتحم أتباع الأسرة الماركيزية كقطيع من الذئاب ويضايقون سونيا.
كان على سونيا أن يكون لديها شخص يحميها.
كانت هذه النتيجة المنطقية.
كان عليه أن يجد زوجاً مناسباً يستطيع حماية ثروة أسرة الماركيز دون أن يتعارض مع رغبات سونيا.
بدأ بوضع شروط والبحث سراً عن زوج مناسب. وفي يوم من الأيام، زارته الأميرة الأولى، تيريز.
‘أيها الماركيز، أتبحث عن زوج للآنسة، أليس كذلك؟’
‘كيف عرفتي ذلك؟’
‘هناك شخص يناسب شروطك تماماً، هل تريد مقابلته؟ لكن بشرط.’
التعليقات لهذا الفصل " 16"