عندما خرج من الغرفة، اقترب منه سيلبانغ الذي كان ينتظره.
كان دينيس يستقبل تحيات الحاشية المارّة بالممر بإيماءات خفيفة من رأسه.
“كيف حال سموك؟”
“بخير. أكنت قلقاً؟”
“كلا. لكن يبدو أن سموّك قلِق…”
أوهى سيلبانغ صوته عند نهاية الجملة.
“بهذا القدر نستطيع إخماد شائعات النزاع.”
هز دينيس الورقة الصفراء التي كان يحملها.
“ماذا؟”
قال سيلبانغ وكأنه يسمع شيئاً للمرة الأولى.
“ألم ترَ؟ يبدو أنني قد أُطلّق قريباً.”
نقر دينيس بإصبعه على الورقة الصفراء ضاحكاً.
“سأقدم احتجاجاً للصحفي الذي كتب المقال.”
قال سيلبانغ منحنياً برأسه.
“لا حاجة لذلك إذا كان الصحفي ينشر في صحيفة صفراء رخيصة من الدرجة الثالثة فهو مكشوف اتركه كما هو.”
“…حسناً سأفعل.”
“ما هو الموعد التالي؟”
“السيّد ريتشارد ينتظرك في مكتب العمل.”
رفع دينيس حاجبيه مرة واحدة.
“حسناً.”
في ساعة متأخرة من الليل، خلع دينيس نظارته وأمال رأسه للخلف.
كانت جفونه ثقيلة، لكن ليس لدرجة أن يغفو.
كان يكتب رسالة يوجهها لشخصٍ ما.
كان واثقاً أنه حتى في الوضع المعقد، بمساعدة هذا الشخص يمكن تخطي الأمر.
كان متأكداً أن ذلك الشخص سيساعده لا محالة.
توقف عن إكمال الجملة، وأمسك بالقلم ساكناً حتى سقطت منه قطرات الحبر على الورقة.
انتشر الحبر الأسود على الورقة البيضاء.
كان لقاؤه مع ريتشارد في وقت سابق من النهار قد أربك أعصابه.
ريتشارد، ذاك الذي هو أخ زوجته.
كانت كلماته كافية لزعزعته.
بل إنه كان بالفعل شجرة ضعيفة تتزعزع بأدنى نسمة ريح قبل ذلك.
والريح التي تزعزعه كانت تلك المرأة.
ابنة الشخص الذي تسبب في موت أمه، والتي احتلت المكان بجواره، وزوجته التي لم تتردد في فعل الأمور القذرة لتعليه على العرش.
وفي الوقت نفسه، كانت هي الملاذ الذي يهدئه، والتي تحتضن جراحه غير المعلنة بصمت، والتي كانت أحياناً سبب أرقٍ له.
كان يشعر أن الأمور الواضحة تتبدد دائماً أمام تلك المرأة.
لو تذكر أمه التي رحلت عن العالم بشكل مأساوي، لما كان ينبغي له أن يقترب من تلك المرأة.
أليس من الأجدر أن يقطع ذلك العنق الأبيض النحيف ويشعر بالارتياح؟
لقد وضع يده مرة على عنق تيريز النائمة بهدوء.
كان الليل قد انتصف، ولم يكن هناك أحد في الممر.
لو قتلها لاستحق العقاب، لكنه كان ليرضى بذلك.
كان سيفرح بأنه انتقم لأمه.
لكنه لم يتمكن من الإمساك بقوة وتوقف.
العنق الأبيض النحيف الذي يكاد يملأ كفه، والدفء النابض تحت أصابعه، جعلتا يده تتوقف فجأة.
هذه المرأة… كانت حية.
كانت حقيقة يدركها من جديد.
خشي ذلك الضعف الذي يبدو قابلاً للانكسار.
كما لو كانت زهرة تذبل إذا قُطِعت.
شعر حقاً أنه لو أمسك بقوة، لانتزع حياتها دفعة واحدة.
ولهذا كان الخوف أكبر.
حتى وهو يمسك عنق تيريز، لم يستطع كسره فذرف الدموع بصمت.
آه…
لم يعرف أسماء تلك المشاعر المتشابكة داخله.
أمه، الملكة شارل، كانت تحتضنه وتغني له أغنية هادئة عندما يعود إليها وعيُها.
رغم أنه كان في عمر يستطيع فيه النوم بمفرده.
لكن شارل كانت لا تزال عالقة في الوقت الذي كان فيه يخطو خطواته الأولى.
كانت تربت على ظهره بيدها النحيفة كغصن شجرة يابسة وتغني له.
كان يحتضن أمه كطفل رضيع.
شعر دينيس بالحزن والسعادة معاً وهو في حضن أمه.
حتى لو كانت على هذه الحال، فذلك يكفي يا أمي.
نام دينيس في حضن أمه نوماً عميقاً لا يقتحمه أحد.
و…
كما في حضن أمه التي كانت تحتضنه وتغني له، لم يستطع أن ينام براحة إلا في حضن تيريز.
في تلك الأيام، كان يصعب عليه مواجهة عيني أمه، كما لو كان ينظر إلى عيني سمكة ميتة.
عينا أمه التي كانت تموت قليلاً كل يوم في القصر المقفر المنعزل.
العينان السوداوتان الميتتان لم تعكسا شيئاً.
عندما تتجسد تلك العينان فجأة في ذهنه، كان دينيس يجد صعوبة في تحمّل الغضب والحزن المتصاعدين.
لقد فقد أمه بشكل مأساوي، بينما يقضي كل ليلة مع ابنة من تسبب في ذلك.
كان تناقضاً.
كان وضعه مضحكاً للغاية.
حدّق دينيس في الورقة الملطخة فوق الجملة غير المكتملة.
نهض من مكانه واتجه إلى النافذة.
كانت نافذة في نهاية مكتب العمل تُطل على الحديقة التي تقضي فيها تيريز وقتاً طويلاً.
فتح النافذة قليلاً، وأخرج سيجاراً من علبة السجائر وأشعله.
دخلت رائحة العشب الرطب، المبلل بندى الليل، إلى أنفه.
في الوقت نفسه، انتشرت رائحة السيجار القوية واللاذعة في الغرفة.
كان سيُعاقب أولئك الذين قتلوا أمه من أجل الجلوس على العرش، وكان سيتخلص منها بوحشية.
هكذا كان سينتقم لأمه.
لكن على هذه الحال…
“……”
شعر دينيس فجأة بالاشمئزاز فأطفأ السيجار سحقاً.
ثم عاد إلى غرفة نومه الباردة وهو يعرف أنه لن ينام أبداً.
يبدو أنه سيقضي الليلة وحيداً هذه المرة.
كما لو كان عقاباً يُنزلُه على نفسه.
***
على طاولة الشاي المُعدّة في حديقة قصر فابريس، كان فابريس وامرأة جالسين.
كان الجو متوتراً كما لو كانا ينسقان الآراء مع طرف في صفقة.
“أرغب في إقامة حفل الزفاف الملكي بعد فترة خطوبة تمتد حوالي عام، سمو الأمير.”
قالت النبيلة جيزيل من عائلة لوماسينغ، الجالسة بوضعية مثالية ككتاب تعليم الآداب.
“فكرة جيدة، سيدتي.”
“وأرغب في صياغة عقد يوثّق هذه المحتويات.”
“…هل تريدين ذلك؟”
نادراً ما كان فابريس يمدّ الكلام.
“نعم، سمو الأمير مع اعتذاري عن وقاحتي، لكن عائلتنا لا تنخرط في الأمور التي تُسبب الخسارة.”
“بالطبع.”
مرر فابريس يده على ذقنه كما لو كان يفكر ملياً.
“لذا يجب أن يكون هذا الأمر مفيداً لنا جميعاً.”
رفعت جيزيل ذقنها بعد أن أنهت كلامها.
بدت منها وضعية رجل الأعمال الذي لا يتراجع بسهولة في المفاوضات.
أزعج فابريس تَشامُخ جيزيل وثقتها بنفسها.
كيف تتجرأ، وهي من أصبحت نبيلة بشراء اللقب، على التصرف بتعجرف أمامه صاحب السلالة النبيلة الأصيلة.
مسح فابريس خصلة شعره المتساقطة بشكل طبيعي، وأخفى تعبيره المتجهم بمظهر لطيف.
“كلامٌ منطقي.”
“لهذا كتبت مسودة لعقد الخطوبة مسبقاً، سمو الأمير.”
“…حسناً.”
وافق فابريس بسلاسة.
“لكن…”
حدّق فابريس في جيزيل.
كوحش لا يريد أن يفقد تفوقه.
“أحتاج أيضاً إلى وقت لمراجعته، أليس من الأفضل أن نناقشه بالتفصيل في المرة القادمة؟”
“بالطبع، سمو الأمير.”
رفعت جيزيل فنجان الشاي كما لو لم يعد لديها ما تقوله.
جلس فابريس أيضاً صامتاً.
كان هناك جفاء لا يليق بشخصين خطيبين.
بعد انتهاء وقت الشاي، عاد فابريس إلى مكتبه وخلع معطفه بخشونة.
كان الخادم في انتظاره.
“كيف كان اللقاء مع نبيلة لوماسينغ؟”
“ثرثارة وجريئة بشكل لا يصدق.”
أجاب فابريس بغضب ورمى ورقة مطوية نحو الخادم.
“انظر إلى هذا.”
“إنه عقد.”
“نعم عقد خطوبة.”
بعد أن قال ذلك، خلع فابريس ربطة العنق الفاخرة المطرزة بالفضة بكثافة والمربوطة بإحكام على عنقه على قطعة القماش الأرجوانية وألقى بها على الأرض.
ولم يكتفِ بذلك، بل فكَّ بعض أزرار قميصه التي كانت تخنق عنقه.
وكأن الربط المشدود كان يضايقه، مسح عنقه وعبس.
عاد حينها إلى مظهر فابريس المترهل المعتاد.
“أحضر لي الشراب مزاجي سيء.”
“لا يزال النهار ساطعاً، سمو الأمير ولديك موعد مع البارون باربييه قريباً.”
“أتُريد أن تختنق؟”
حدّق فابريس في الخادم.
أيك.
انحنى الخادم على عجل.
كانت عينا فابريس الآن كعيني شخص على وشك فعل شيء ما.
عرف الخادم تلك النظرة جيداً من خلال سنوات خبرته في خدمته.
أمر فابريس بأسلوب قاطع:
“الغي الموعد.”
“نعم سأفعل.”
خرج الخادم بصمت بعد أن أحضر الشراب وخرج من الغرفة دون إصدار صوت.
استلقى فابريس مطولاً على أريكة النهار، ثم ذوّب مسحوقاً أبيض في الخمر القوي الذي أحضره الخادم وشربه دفعة واحدة.
كان يعرف جيداً أنه في وقت يجب فيه الحذر في كل تصرف.
كانت كلمة واحدة أو حركة واحدة تكفي لتقلب موازين التأييد.
كانت الصحف تنشر يومياً تقارير تتوقع أي الأمير له اليد العليا، ومن سيكون الملك.
بالطبع، تأييد الناس سيكون عديم الفائدة أمام نية الملك الذي سيخلع التاج.
بدأ يشعر بنشوة الشراب وارتفاع مزاجه تدريجياً.
وكأن قلبه كان ينبض بسرعة.
كان يؤمن إيماناً راسخاً بأنه المرشح لعرش البلاد.
والده يحبه أكثر من الأمير الأول.
تلك حقيقة بديهية.
ألم يربطني بعائلة مؤثرة كخطيبة حتى بعد فسخ خطوبتي؟
بالإضافة إلى ذلك، فهو ابن الملكة ماريان النبيلة رفيعة المستوى، لذا من الطبيعي أن يحبه الملك أكثر.
لا يمكن حتى مقارنة أولئك من أصل عامي به.
كيف يتجرأ، وهو من يحمل دماً وضيعاً، أن يحلم بالعرش فقط لأنه ولد أولاً؟
كان فابريس يكره أخاه غير الشقيق أكثر من أي شخص في هذا العالم.
وكأنه نسي حتى حقيقة أنهما كانا قريبين جداً في الماضي.
ما لا يعجبني أتخلص منه فحسب.
لكن الوقت لم يحن بعد.
للقيام بذلك، يجب عليه جمع المزيد من القوى المؤيدة له.
عندما يصبح كل شيء مؤكداً، سيُنهي الأمر.
“ها.”
أريد قتله بسرعة.
ملأ الكأس بسائل ذهبي اللون حتى ارتطم بالأطراف.
كان من السهل تخمين أن الفضائح الأخيرة في القصر تسربت من ذلك الجانب.
وإلا لما ذهب كزافييه، الذي كان سليماً، إلى رجال الشرطة ليعترف بجنون.
كم كان مثيراً للشفقة عندما سُجن كزافييه الذي كان مظهره الخارجي سليماً.
ضحك فابريس بجنون.
كانت المخدرات تظهر مفعولها.
كانت آخر لحظات كزافييه تعاد بوضوح في رأسه.
منظره وهو يتبول على نفسه من الخوف.
‘أ، أم، أمير س، س، سمو أرجوك أع، عف، أعفو…’
قبل أن يكمل كلامه، ركل فابريس بطن كزافييه فسقط أرضاً مع صوت “آخ”.
‘خذوه وألقوه.’
لو لم تكن الفضائح، لما أُهين أمام تلك المرأة من لوماسينغ.
ترك الإهانة كإهانة لا يناسب طبعه.
بدأ يفكر بسعادة عن كيفية رد الإهانة.
[يتبع في الفصل القادم]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"