123
انهار كلٌّ من ليليانا وڤيولا بجانب القديسة الراحلة، وبدأنّ بالبكاء بحزنٍ شديد.
لم تكن دموعهنّ بدافع الشفقة.
ولا حتى بدافع التعاطف.
بل كان بدافع الشعور بالذنب والندم، تجلّت عواطفهنّ في دموعهنّ على الخطيئة التي ارتكبنّها بحق القديسة.
‘لماذا أشعر بغضبٍ شديد؟’
حتى لو قام بتمزيق الشياطين والمتعاقدين معهم الذين كانوا السبب في وصول القديسة لهذه الحالة، وحتى لو ألقى بالعائلة المالكة المسؤولة عن هذا إلى الوحوش لتلتهمهم، فإن غضبه لن يهدأ.
– السماء جميلةٌ للغاية.
لماذا يظهر وجهها، هي التي ابتسمتْ لهُ بصدقٍ لأول مرة، في ذهنه الآن؟
‘الأمر لم يعد ممتعًا.’
لم تعد معاناة البشر وصراخهم تمنحه أيَّ شعورٍ بالفرح.
حتى عندما سحقَ رؤوسَ الحمقى البائسين الذين ركعوا أمامه وتوسّلوا للبقاء على قيّد الحياة، لم يشعر بأيِّ راحة.
‘هذا ممل.’
منذ وفاة القديسة، أصبح كل شيءٍ مملًا من جديد.
لا، بل وكأن هناك ثقبٌ في زاويةٍ من قلبه، تاركًا إياه بشعورٍ من الفراغ القاسي الذي لم يعهده من قبل.
“ما كان يجب أن تموتِ.”
وقف أمام قبرها، متحدثًا، لكن لم يكن هناك من يسمعه.
لن تعود القديسة أبدًا.
مرر أديليو أصابعه بلطف على الاسم المنقوش على شاهد القبر.
“ديزي ليڤيان.”
للمرة الأولى، نطق اسمها بصوتٍ عالٍ.
أن يحلّ اسمها محل لقب “القديسة” على شفتيه جلب إحساسًا غريبًا ومثيرًا.
لقد اخترق هذا الشعور الثقب الموجود بقلبه.
“ديزي، ديزي، ديزي.”
ومع ذلك، فإن مجرد تكرار اسمها لم يملأ الفراغ داخله.
لو كانت ديزي، أو بالأحرى القديسة، هنا، لكانت قد فتحت عينيها على اتساعهما بصدمةٍ لمجرد سماع اسمها.
كان ليسخر منها قائلًا إن الأمر لا يستحق كل هذا الذهول.
وبعدها، مثلما فعلا دائمًا، كانا سيقضيان الوقت معًا، فقط هما الاثنان، بلا أيِّ تدخلٍ من أحد.
“ما هذا؟”
تفاجأ أديليو بالدموع التي بدأت تنهمر فجأة من عينيه.
دمعةٌ تلو الأخرى انهمرت دون توقف.
“آه.”
رغم أنه تظاهر بعدم الملاحظة حتى النهاية، إلّا أنه لم يعد يستطيع إنكار الحقيقة.
“أنا …. أشتاقُ إليكِ.”
حاول إخراج الكلمات التي توقفت في حلقه، وقالها بصعوبة.
“ديزي، لقد …. افتقدتكِ.”
لكنها، بكل قسوة، لم تجبه بشيء.
“لو التقينا مجددًا، لن أسمح لكِ بالموت.”
ركع أمام قبرها، ممسكًا بشاهد القبر، وهمس بصوتٍ مرتجف وسط دموعه.
“أريد أن أبدأ من جديد.”
كانت السماء ملبدةً بالغيوم منذ أن جاء.
وبدأت السماء تمطر قليلًا، ثم اشتد المطر بغزارة كبيرة.
لكن أديليو، الذي كان جسده مبتلًا تمامًا، لم يهتم، واستمر في الإمساك بالقبر والبكاء بهدوء.
“صديقتي، كما قلتِ، ربما من الأفضل أن نبدأ كأصدقاء.”
بدأ ضوءٌ خافت يتسلل إلى الظلام من حوله، لكنه لم يلحظ واستمر في التحدث مع نفسه.
“إذا بدأتُ من جديد، سأكون أول من يأتي إليكِ. سأحميكِ من كل الجروح التي تسببتْ بها أختاكِ.”
كان يعرف جيدًا كم كانت طفولتها حزينة، بعد أن سمع عنها في غياب ليليانا وڤيولا.
لو كان بيده الأمر، لحرص على ألا تشعر بذلك أبدًا.
كان سيرفع ثقتها بنفسها ويمنعها من الشعور بالألم.
“لن أسمح لكِ أبدًا بأن توقظِ قواكِ المقدسة من أجل إنقاذ أولئك الأوغاد. لن أدعكِ تصبحين قديسةً على الإطلاق. حينها، لن تُساقِ إلى ساحات القتال، ولن تعاني، ولن تموتِ.”
كان هذا ندمه على الماضي، وأمنيته أيضًا.
“لن أسمح أبدًا بأن تموتِ.”
بدأ الضوء الخافت الذي كان يحيط به يزداد قوةً ويضيء المكان حوله.
فقط عندما أصبح النور أكثر سطوعًا، لاحظه أديليو وبدأ يبحث عن مصدره.
كان الضوء ينبعث منه.
أو، بشكلٍ أدق، من قطعة قلادة لــ ليڤي المكسورة التي كان يرتديها حول عنقه.
“ما هذا…؟”
توقفت كلماته فجأة عندما اجتاح عقله ألمٌ شديد، ثم ملأ كل أفكاره. بدأت رؤيته تتلاشى، ومع أنه حاول جاهدًا البقاء واعيًا، شعر وكأن وعيه يُنتزع منه قسرًا.
أغمض عينيه.
وعندما فتحهما مجددًا، وجد نفسه أمام لحظةٍ من الماضي، في زمنٍ قد عاشه سابقًا.
“لقد عدت.”
بعد سلسلةٍ من التخمينات، أدرك أنه عاد بالزمن إلى الوراء، وارتسمت ابتسامةٌ على وجهه.
حالما تأكد من عودته للماضي، كان أول ما فعله أديليو هو الاطمئنان على ديزي.
ديزي لم تكن قديسة.
أو بالأحرى، لم تصبح قديسةً بعد.
لكن هذا وحده كان كافيًا ليملأ قلب أديليو بالفرح.
لم يهتم كيف عاد أو من الذي أرجعه بالزمن إلى الوراء.
كان هناك شيءٌ واحد فقط يهمه.
ديزي.
في هذه الحياة، لن تموت ديزي بسهولة.
بل لن يسمح لها بالموت أبدًا.
لم يكن يعرف أيُّ طريقٍ هو الصحيح، لكنه كان واثقًا من شيءٍ واحد:
لقد عاد بالزمن فقط لينقذ ديزي.
✲ ✲ ✲
كان يحدّق بفراغ في المكان الذي اختفت فيه ديزي، ثم أطلق ضحكةً ساخرة.
– أديليو، أنت تحبّني.
عندما تذكّر كلمات ديزي الصريحة، بدأ وجهه بالإحمرار.
لم يستطع أن يحدد ما إذا كان هذا الدفء الذي يغمره بسبب المشاعر التي تجتاحه أم بسبب خجله من إدراكه لتلك المشاعر متأخرًا.
لكن ما كان واضحًا، وبشكلٍ يكادُ يكون مثيرًا للسخرية، هو أنه استمر بإنكار مشاعره طوال الوقت ليصل أخيرًا إلى فهمها الآن.
مشاعر أديليو تجاه ديزي لم تكن مجرد فضول.
أديليو أحبَّ ديزي.
كانت هذه الحقيقة الصادمة كافية لتتركه مذهولًا.
وفي تلك اللحظة، اجتاحه شعورٌ بالخزي عندما أدرك أنه، الشخص الذي كان دائمًا يدّعي الذكاء، كان في الحقيقة الأكثر غباءً.
ومع ذلك، لم يستطع التوقف عن التفكير في ديزي.
كان يرغب في رؤيتها.
أراد أن يلمس وجنتيها الناعمتين، أن يمسك يديها بلطف، وأن يُقبّل شفتيها، وأخيرًا يعترفَ بحبه لها.
‘بالطبع، هذا لا يعني أنني أنوي الاستسلام.’
نهض أديليو وكأنه لم يشعر بالحرج مطلقًا.
حتى لو سمح لها بالهرب بسهولة، لم يكن ينوي السماح بذلك مجددًا إذا التقيا مرة أخرى.
إذا كانت مشاعره تجاه ديزي حبًّا خالصًا وليس تعلقًا مريضًا، فبإمكانهما البدء من جديد.
“سأذهب لرؤيتها.”
كانت تلك البداية المتأخرة لحبٍ مذهل، واللحظة التي ستُغيّر علاقتهما.
✲ ✲ ✲
بعد أن غادرت قلعة ملك الشياطين دون التوقف في القرى القريبة أو أخذ قسطٍ من الراحة، وصلت إلى المعبد في الليلة التالية.
وكما هو متوقع، لم تستطع الإفلات من التوبيخ.
وقفت ليليانا ويداها على خصرها، غاضبةً حقًا.
“لو كانت لديه نوايا سيئة، لربما كنتِ، بما أنكِ القديسة، في خطرٍ كبير.”
كانت ليليانا تؤنبها بنبرةٍ صارمة ولكن مدروسة، بينما أومأت ڤيولا برأسها بتعابير محايدة، وكان ثيودور غير قادرٍ على إخفاء غضبه.
حتى چيوفانا، الذي عادةً ما يراقب بهدوء، بدا منزعجًا هذه المرة.
رغم أنها لم تندم على مرافقة أديليو، شعرت ديزي بالذنب لأنها أقلقت أولئك الذين يهتمون بها بصدق.
“ديزي، هذه الخطة كانت متهورةً منذ البداية. لو حدث خطأٌ ما، لكان ذلك سيُشكلُّ خطرًا كبيرًا عليكِ.”
عند كلمات ليليانا، هزت ديزي رأسها نفيًا.
“لا، هذا ليس صحيحًا.”
وببساطة، شرحت لهم ما حدث معها.
“لم يكن أديليو هو من اختطفني. كان أحد أتباعه هو من تصرف دون إذنه. في الواقع، هو من جاء لإنقاذي.”
كلما استمرت في شرح القصة، ازداد صمت الأربعة، مظهرين تعبيراتٍ من الشك وعدم التصديق.
“لقد تبعته لأنني كنت واثقةً من أنه لن يؤذيني.”
“هممم. ما الذي جعلكِ تشعرين بهذه الثقة؟”
سأل چيوفانابحذر.
ترددت ديزي للحظة، متسائلةً عما إذا كان من الحكمة أن تكون صادقة، لكنها قررت ألّا تخفي الحقيقة.
“لأن أديليو يحبني.” – ثقة ديزي مادة يجب دراستها في المدارس يا جماعة 😭😂-
ملأ الصمت الغرفة وكأن ماءً مثلجًا قد سُكب على الجميع.
متجاهلةً الصدمة التي تملّكتهم، تابعت ديزي حديثها.
“أعتقد أن هناك كاردينالًا من المعبد أبرم عقدًا مع الشياطين. كنت أريد التحقق من ذلك، وقد ساعدني أديليو.”
أخرجت الكتب التي حصلت عليها منه، متذكّرة كيف فوجئت بمدى سهولة إعطائه لها دون أيِّ تردد.
“هذا لا يعني أنني أثق بــ أديليو تمامًا أو أنني أقفُ في صفه، لكني أريد فقط أن أوضح أنه لم يؤذني، بل ساعدني.”
ضمن الكتب، كانت هناك عقودٌ مقدسة صُنعت من جزءٍ من شجرة العالم. وكان اسم الشخص المكتوب على أول عقد واضحًا تمامًا.
“الكاردينال فيلهلم.”
كان هو أكبر طفيليٍ ينخر في المعبد من الداخل.
رغم استمرار الارتباك على وجوه الأربعة، أخذوا الكتب بهدوء وربّتوا على كتفها بلطف.
“لا بد أنكِ مرهقة. استريحِ الآن.”
“لنواصل الحديث غدًا.”
“أحلامًا سعيدة.”
“أراكِ غدًا، ديزي.”
غادر الجميع الغرفة واحدًا تلو الآخر، ليليانا وڤيولا بوجوهٍ مذهولة، وثيودور بتعبيرٍ متصلّب، وچيوفانا بابتسامةٍ باهتة.
‘لقد أخذتُ قسطًا كافيًا من الراحة بالفعل.’
تنهدت ديزي بعمق، مستلقيةَ على سريرها. شعرت بالاختناق من أحداث اليوم. ربما القليل من الهواء النقي سيساعد.
توجّهت إلى الشرفة الملحقة بغرفتها، حيث استنشقت النسيم البارد الذي يملأ الليل.
أو ربما… كانت تنتظر.
السماء التي كانت مضاءةً بضوء القمر قبل قليل أصبحت مظلمةً بسبب ظلٍ ضخم.
مع صوت رفرفة الأجنحة، ظهر كائنٌ ضخمٌ أمام شرفتها.
“لم يمضِ سوى يومٌ واحد، ولكن يبدو وكأنها فترةٌ طويلةٌ للغاية.”
لم يكن هناك جواب.
نظر أديليو إليها بصمت، يتفحصها من رأسها إلى أخمص قدميها كما لو كان يتحقق من أنها بخير. كانت نظرته تجعلها تشعر ببعض الحرج.
“هل راودتك أحلامٌ سعيدة، أديليو؟”
[ يُتبع في الفصل القادم …… ]
– ترجمة خلود