خيم صمت مُقزّز على مكتب نواه في “مدينة الخبز الفضي” بعد اعتراف ناثان بحاجته إلى خطة جديدة. كان الهواء في الغرفة ثقيلاً، مشبعاً برائحة الحبر القديم والغرور المكتوم.
كان نواه آبلين، الذي لا يزال جالساً كأنه تمثال من اليشم المُضطرب، يحدق في كوب شاي فارغ. لم يعد يهتم بـ تَفاهات الحديث العادي.
ناثان توبايس، الذي كان يُعيد ترتيب أغراضه بدقة مُذهلة في حقيبته الجلدية، رفع رأسه فجأة، وعيناه تلمعان بـ فضول مُتكبر. لقد تحول اهتمامه من المُذكرات إلى الفتاة نفسها.
“سيرو…” تمتم ناثان، وكأنه يختبر رنين الاسم. “إنها لا تكره الرجال فقط، بل تكره كل ما يُمثّل النظام. هذا يتجاوز مجرد ‘العبقرية المتمردة’، يا نواه. بصفتي مؤرخاً، يثيرني خيط العائلة. هي ليست من العوائل الكبرى، لكنها تحمل ذلك الكبرياء الأصمّ.”
“ماذا يهم؟” قال نواه بصوت مُنخفض، وكأنه يخرج من شرنقة أفكاره. “تاريخها العائلي لن ينشر كتابها. كتابها هو الشيء الوحيد الذي يستحق عناءنا.”
تجاهل ناثان ملاحظة نواه، وأخرج دفتراً صغيراً من جيب سترته، وبدأ يُقلّب صفحاته بسرعة. “لا يا صديقي، الأمر ليس كذلك. إن الفتاة التي تعتقد أنها ‘تُعاقب على التفكير’ في مجتمعنا، لابد وأن لديها جذوراً مُظلمة لهذا الاعتقاد. العصاب الفيكتوري لا يظهر من فراغ. لقد بحثتُ عنها فوراً بعد اللقاء.”
توقف ناثان عند صفحة معينة، ومال للأمام نحو نواه، متحدثاً بنبرة أكثر همساً وكشفاً: “لقبها الكامل هو سيرو كارتييه-مونتفورت. عائلة قديمة جداً، ولكنها انطفأت اجتماعياً بعد فضيحة والدها منذ عقدين. كان والدها، وهو محامٍ لامع، متهماً بـ احتيال مُعقّد في أسهم شركة ‘فاتروث’. لقد أفلت من القانون، ولكنه فقد كل شيء. سُمعة، ثروة، وكل ما يربطه بالمجتمع الراقي.”
تأرجح ناثان بابتسامة ماكرة. “تخيّل! فتاة تنتمي لطبقة مُنحدرة، محبوسة في مدرسة لـ ‘السيدات النبيلات’ تتلقى دروساً في تنسيق والخضوع ، بينما هي تحمل جمرة التمرد ضد كل من يردعها. هي ترى فيك وفيّ كل رجل يحاول أن يُحللها، انعكاساً لفساد عائلتها القديمة.”
نظر نواه، وقد ارتفعت حواجبه قليلاً، وهذا كان إشارة نادرة لـ تأثره. “حسنًا، هذا يضيف بعض العمق المأساوي إلى المخطوطة المُنتظرة. إنها ليست مجرد كاتبة، بل شاهدة مُطالبة بالفداء على انهيار طبقة.”
“بالضبط!” أكد ناثان، وهو يضرب سطح المكتب بخفة. “إنه كنز أدبي وتاريخي إذا نُشر. لذا، خطتي الجديدة بسيطة: لن أطلب منها المُذكرات مجدداً. بدلاً من ذلك، سأستخدم مهاراتي في التأريخ لأصل إليها بطريقة غير مباشرة. سأبحث في تاريخ جامعتها، تاريخ حديقتها. ربما أجد شيئاً يربطها بقضية والدها. لا يمكن إقناع العاصفة بالهدوء، لكن يمكن استخدام الرياح لصالح الشراع.”
تنهد نواه، وعاد إلى التحديق في الفراغ، بـ لامبالاة مُتعبة. “افعل ما تراه مُناسباً، أيها المؤرخ. لكن لا تُضيّع وقتي في البحث عن أسهم قديمة. أنا أبحث عن الألماس، وليس عن بقايا مسرحية مُميتة.”
أغلق ناثان دفتَرِه الجلدي بـ فرقعة هادئة، ثم ارتفعت على وجهه ابتسامة مُتحدة بين المؤرخ والمُغامر. لقد حسم أمره.
التعليقات لهذا الفصل " 6"