في قلب “مدينة الخبز الفضي” الفاخرة، والتي اكتسبت اسمها من لون المباني الرخامية التي تتلألأ تحت شمس الظهيرة، كان مكتب ضخم يطل على زحام أرستقراطي هادئ. كانت الغرفة فخمة، بجدران مُغطاة بالخشب الداكن وسقف عالٍ مزخرف، لكنها كانت مليئة بالفوضى التي توحي بعبقرية مُشتتة: أكوام من المخطوطات، كتب مفتوحة على صفحات عشوائية، وفناجين شاي فارغة على طاولة خشبية قديمة.
يجلس شاب مُتربعاً خلف المكتب الضخم. كان نور الشمس يلامس خصلات شعره البني الفاتح فتبدو كالذهب الباهت، وعيناه الزرقاوان، رغم عمقهما الثاقب، كانتا تحملان سأم العارف، تعبيراً عن ملل من عالم يبدو أصغر من أفكاره. يرتدي سترة غير مُزرّرة وقامته معقودة بإهمال فني، وكأنه يرفض أن يُقيّد حتى بأناقته. إنه نواه آبلين. كان يقلّب صفحات مخطوطة دون اهتمام حقيقي.
في هذه الأثناء، دخل ناثانيال توبايس، أنيقاً كعادته بـ ترتيبه المدروس وابتسامته الهادئة التي لم تفارقه. رمى حقيبته الجلدية الثقيلة على كرسي قريب وجلس مقابل نواه.
“هذا هو المكان المناسب للبحث عن الإلهام، أليس كذلك؟” قال ناثان بتهكم وهو يُشير إلى فوضى المكتب.
رفع نواه عينيه، وتمطّى على كرسيه الجلدي بصوت مزعج. “الإلهام؟ الإلهام يهرب من هنا خوفاً على سمعته. ‘مدينة الخبز الفضي’، يا له من اسم مُبتذل! يعكس تماماً تلك الرغبة السخيفة في الجمع بين الفخامة الجوفاء والضروريات البسيطة. إنها ليست خبزاً حقيقياً، بل قطعة حلوى مُزخرفة، تلمع لكنها تفتقر إلى أي قيمة غذائية. هذا المكان، يا ناثان، كله قشور مُنمقة وأرواح مُفرغة.”
“لكنها مريحة للعمل، على الأقل”، حاول ناثان أن يدافع عن اختياره للمكان.
“مريحة؟” ضحك نواه ضحكة جافة. “إنها مُريحة للموت الهادئ. هنا، لا يوجد صراع حقيقي، لا فقر يلهب الأفكار، لا شغف يُشعِل الإبداع. هنا، كل شيء مُرتب ومُجمَّل ومُغلف. الروح تُجفف هنا. إنني بالكاد أجد نفسي قادراً على كتابة نُبذة عن شاعر ميت. والآن، أنت تخبرني قاد لتخبرني أنك فشلت في مهمتك الصغيرة؟ “
ابتسم ناثان ابتسامة واسعة، وربما كان هذا ما يجعل نواه يرغب برمي فنجان الشاي عليه. “لم أفشل. لقد بدأت للتوّ، يا نواه. تلك الفتاة… سيرو، إنها مُحيّرة كقصيدة غير منقّطة. لديها حُجة قوية ضدنا جميعاً، نحن الرجال.”
عبس نواه، ورمى القلم باتجاه ناثان “حُجة؟ ما هي حُجتها؟ أنها تكره الكائنات الذكورية؟ هذا ليس جديداً. جميع النساء العباقرة يبدأن بمرحلة كره الذكور، ثم يتزوجن في النهاية من رجل ممل يعتقدن انه يقدرهن وهو لا يملك فلسا. “ تجنب ناثان القلم فاخذ نواه نفسا عميقا ثم قال بتأمل “أخبرني الان بالأهم : رأيتَ المخطوطات؟ هي حقاً موهوبة؟”
“لم أرَ شيئاً.” اعترف ناثان. “لقد رفضت تماماً. وصفتك بأنك ‘رجل وقح ولا يعرف حدوده’، وأصرّت على أنها ليست مادة لمؤرّخ. يا إلهي، يا نواه، إنها تعتقد أننا نحاول اكتشافها أو تحليلها بدلاً من أن نُساعدها.”
ضحك نواه ضحكة جافة وقصيرة. “ألم أقل لك؟ نموذج كلاسيكي. تُبالغ في حماية فكرها لأنها لا تزال غير واثقة مما تملك. الموهبة الحقيقية تتطلب جُرأة على الفضح. لكنها كاذبة في جزء من كلامها، يا ناثان.”
“ماذا تقصد؟” سأل ناثان، وهو يميل للأمام بفضول.
“عندما التقيتها في إحدى ندوات الجامعة… تلك المرة التي رأيتها تُدوّن ملاحظاتها… لقد وصفتها بأن لديها ‘فوضى الأفكار الخلاقة’ و’جُرأة التعبير’. لذا غالبا هي لا تكره كلامي، بل تكره صدقه. إنها خائفة من أن تكون قريبة مني، لأنها تشعر أنها تشبهني في بعض الجوانب” استند نواه إلى الخلف بعمق، وتسلل لمعة مكر إلى عينيه.
“إنها متوهجة، يا ناثان. مثل نجم سينفجر قريباً. ولهذا السبب بالتحديد يجب أن نصل إليها قبل أن تخنقها و تجعلها تذبل تلك المدرسة المُصممة لإنتاج ‘زوجات صالحات’ ومُنسقات زهور.”
تنهد ناثان، لكنه ابتسم. “حسناً، هي الآن مقتنعة تماماً بأننا مجرد صيادون للمواهب، وأننا نراها كـ ‘مادة’. سأحتاج إلى خطة مختلفة تماماً لأصل إلى تلك المذكرات، وسأحتاج إلى وقت. لا يمكن إقناع العاصفة بالهدوء في بضع دقائق.”
نظر إليه نواه بمزيج من التقدير والسخرية. “الوقت هو الشيء الوحيد الذي ليس لدينا الكثير منه. ابحث عن كتابها بأي ثمن يا ناثان. يجب أن تُنشر هذه الأفكار. هي تُعاقَب على التفكير، كما تقول. وعقوبتها ستكون الصمت، إذا لم نتدخل.”
( تعبت و انا افكر انشر الفصل و لا لا المهم ممنوع تحبو اولادي .)
التعليقات لهذا الفصل " 5"