2
بعدما تخلّصتُ من عقوبة الأسطر المُستنسخة، التي تحوّلت بمهارة إلى أختام صامتة لرفضي. لم تَعُد عبارة: “العشوائيات والكتابة لن تكون أبدًا طريقة لأصبح سيدة مجتمع راقية ومُهذبة” سوى لحن أجوف يُردده قلمي، بينما كانت روحي تعزف سيمفونية التمرّد على الهوامش. أقفلتُ الدفتر، صندوق أسراري، وقدّمتُه لكارسيه بنظرة مُحايدة، بينما كانت أناملي ترتجف لا من الخوف، بل من الغضب المكبوت.
“جيد. لا أريد أن أرى هذه العشوائيات مُجدداً، سيرو. اذهبي الآن، ولتكن هذه آخر مرة تقضين فيها فسحتكِ في غرفة الصف.”
قالتها كارسيه بلهجة الواثق من قدرته على كسر إرادتي، ولكنها لم تعلم أنّها قد كسرت القيود فحسب.
اندفعتُ خارج الفصل، خُطاي كانت سريعة كمن عاد من غربته مشتاقاً لوطنه. كنت أتّجه إلى المكتبة، وحين وصلتُ إلى بهو المدرسة الكبير، لم يكن الممر خالياً كالعادة؛ كان هناك ظل طويل غير مألوف يقف عند المدخل الحديدي للحديقة المُرتبة، تلك التي لا تُفتح إلا عندما يأتي ضيوف مُهمون.
شاب، في مقتبل العشرينيات، يقف هناك بثبات هادئ. ملابسه مُرتبة وليست مُتكلفة، بألوان هادئة، في تباين صارخ مع الرخام البرّاق وأصوات الحذاء الجلدي الرسمي التي اعتدتُ سماعها. كان يحمل كتاباً قديماً ذا غلاف سميك بلون القهوة الراسخ، ويُهيّئ لي أن له رائحة الورق العتيق والتاريخ. كنت أُحلل مظهره بدقة.
“أنتِ سيرو؟”
سأل، وصوته لم يكن حاداً ولا آمراً، بل كان خفيضاً ورخيماً، وكأنه مُتسلّل في ليلة ساكنة يخشى أن ينتبه له أحد.
توقفتُ فجأة، مُستغربةً من معرفته باسمي، ومِن جرأته على مناداتي دون رسميات أو ألقاب.
أجبتُ بحذر:
“أجل، أنا سيرو. ومَن أنت أيها السيد؟”
شددتُ على النبرة الرسمية التي تفرضها المدرسة لأترك حدودا.
ابتسم ابتسامة خفيفة لم تَطُل عينيه، بل اكتفت بتحريك زاوية فمه قليلاً. نظر إلى الكتاب الذي في يده ثم إليّ.
“أنا ناثانيال توبايس. يمكنكِ أن تُناديني ناثان.”
“ناثان؟ وما الذي تريده مني يا سيد توبايس؟”
ضحك ناثان ضحكة مكتومة، لكنها كانت صادقة، هزّت كتفيه قليلاً.
“إذًا هكذا، آنسة كارتييه. كما تعلمين آنستي، هذه المدرسة كلها أشبه بحديقة مُهندسة بعناية، لا يُسمح فيها بالخطأ والهجائن. وأنا، حشيش بري لا يليق بهذا المكان، للأسف.” أمال رأسه كما لو كان يسخر.
شعرت وكأنه يقصدني لا نفسه، ككلمة “عشوائيات” التي ألقتها كارسيه. وأحسست بفضول غريب نحو صراحته المُعلنة.
“إذن، كيف ضلّ الحشيش طريقه إلى قلب حديقة الآداب الراقية هذه؟”
سألتُ، وقد خففتُ من حِدّة نبرتي، وكان فضولي واضحاً تجاهه.
أشار ناثان برأسه نحو الباب المغلق خلفه، وعيناه تلمعان بنوع من التحدي الهادئ. “أتيتُ لأجل الكتاب. جئتُ لإعطاء شيء، أو ربما لاسترداد شيء. ويبدو أنني بحاجة إلى لقاء مديرة المدرسة أو مَن ينوب عنها.”
“أتيتَ إلى هنا… لأجل كتاب؟ سيد توبايس؟” كررتُ باستغراب. كل شيء في هذه المدرسة يتم إنجازه عبر رسائل رسمية تُرسَل في بريد مُعطّر، وليس بزيارات مُفاجئة لغرباء يرتدون ثيابًا هادئة وليست مُبهرجة.
نظر مباشرة في عينيّ، وكأنه يقرأ الأسطر المائلة التي خبّأتها للتو في دفتري. “ليس أي كتاب، سيرو. كتاب يتعلّق بالوجود، كتاب… لا تملكه مدرسة أوريليوس.” قال ذلك بهدوء ثم أردف: “ولكن، يبدو أنهم لا يرغبون في مُقابلتي، فحسب قولهم هم مشغولون وربما بعد ساعتين سيلتقون بي. يا آنسة، هل أنتِ مُهتمة بمعرفة كيف أعرفكِ؟ أو ربما تُطلعينني على مُذكّراتكِ؟”
احمرّ وجهي، فقد كان يتحدث عنها، عن تمرّدي الذي شعر به دون أن يراه. “لا أعلم ما الذي تقصده، وعن أي مُذكّرات تتحدث. نحن في مدرسة راقية سيدي، ويُعاقب مَن يترك دروسه ليكتب التفاهات.”
“عقاب؟” رفع ناثان حاجبه في دهشة زائفة. “هل يُعاقبونكِم على التفكير؟ على التدوين؟”
سحبتهُ إلى زاوية أبعد قليلاً عن البهو الكبير، وأجبتُ بهمس مُتهكّم: “نعم، فمنذ قليل عُوقبتُ لأنني أكتب ‘عشوائيات’ لا تليق بسيدة مجتمع راقية ومُهذبة. هذا هو جرمي.” كان واضحاً نفاذ صبري ومَلَلي من القواعد.
هزّ ناثان رأسه في إنكار وتفهُّم لم أعهده من أي أحد قبله. “هم يريدون الظاهر، وأنتِ تريدين الجوهر، الفارق شاسع. ولكن، ألا تعلمين أن العشوائية هي الوجود الأكثر صدقاً؟”
شعرتُ وكأن ناثان يفهمني، يدرك ما أقوله، يشعر بمشاعري. لأول مرة، شعرتُ أن هناك من يفهم أن تلك “التفاهات العشوائية” إنها الفوضى الخلاقة التي تُولد منها كل الآداب وكل الفنون الحقيقية.
“هل أنتَ… كاتب؟” سألته سيرو وعيناها الرماديتان تبرقان بالفضول والإرادة، الفضول الذي حاول الكثيرون إطفاءه مرات عديدة.
نظر ناثان إلى كتابه القديم بابتسامة غامضة. ثم قال برويّة كما لو كان يسرد شرفاً عظيماً: “أنا جامعُ أفكار، وراصدُ مشاهد. أُدوِّن كل ما أراه. لست كاتباً يكتب من وحي خياله، لكنني مُؤرخ. يمكنكِ قول ذلك، إنني مُؤرّخ، لست كاتباً، أطمح لأن أكون كاتباً.”
نظرت سيرو بشك: “إذًا مؤرخ، لم ألتقِ قط بمؤرخ، إنه لشرف لي لِقاؤك سيد توبايس. والآن هلا أخبرتني كيف تعرفني؟”
“كيف أعرفك؟ نعم نعم أنا أعرفك… صراحةً ليس بالأمر سر كبير، لقد أخبرتني الآنسة جوزفين عنكِ، وأنكِ مُعاقَبة في الداخل لأنكِ تكتبين مُذكّراتكِ. لذا أعرف.”
“آه جوزفين آه.” نظرت له سيرو بانزعاج. لقد ظنّت أن خلف معرفته لها قصة مُثيرة، لكن ظهر أنها مجرد معلومات من جوزفين.
“هل يمكنني أن أطلب منكِ شيئًا بما أنكِ تكتبين؟” قال ناثان بحذر فقد بدا أن سيرو ستفقد أعصابها عليه، لقد شوّقها لسرّ معرفته بها.
“هل ترى أن لك الحق في فعل ذلك سيد توبايس؟ حقًا حقًا ما فعلته وقح ولا يليق برجل نبيل.”
حك ناثان أرنبة أنفه بخجل: “أعتذر، يا آنسة.”
“أمي مُحقة، أنتم الذكور لا يجب أن نثق بكم، مجموعة من الأوغاد المُخادعين. ورغم كل هذا، هذه المدرسة تُريد جَعلي سيدة مجتمع راقية ومُدبّرة منزل جيدة لأكون زوجة صالحة!”
“مهلاً مهلاً، سيرو. ما شأن هذا بهذا؟” قال ناثان مُرتبكًا.
Chapters
Comments
- 4 - ليس مبررا ،كونها غاضبة منذ 32 دقيقة
- 3 - تتشابهان منذ ساعة واحدة
- 2 - حشيش بين بستان المثالية منذ 9 ساعات
- 1 - رغم كل الصراخ و الأنوف 2025-11-18
التعليقات لهذا الفصل " 2"