1
“سيرو، هل أنتِ تكتبين مُجددًا تلك التفاهات العشوائية؟”
اخترق صوت مُعلمتي أُذنيّ، قاطعًا حبل أفكاري بعنف. صرخة تأنيب حادّة، مُبطّنة بذلك الازدراء الذي طالما عرفته.
أعلمُ أنها تكره كتاباتي، تعتبرها بقعة سوداء في سجل طالبة يفترض بها أن تكون “مُهذبة”. لكن،…
“أنا هنا لأُدرسّكِ الآداب والفن، أيّ أمور راقية، لا أشياء عشوائية لن تحتاجيها في حياتكِ كسيدة مجتمع راقية. تفهمين؟”
آه، “سيدة مجتمع راقية”، “آنسة مُهذبة”… أكثر الكلمات التي تتساقط من أفواه مُعلمات هذه المدرسة كأوامر صارمة. ولكن لماذا؟ لماذا لا يمكنها أبدًا إنهاء جملتها سوى بـسؤال يُرغم على الموافقة؟
أُعيد غلق دفتري بعناية كما لو كان صندوق كنوز. كان هذا وحده وقودًا كافيًا لإشعال غضبها لتقول و هي تكاد تشتعل
“هل أنتِ الآن تتجاهلينني؟ هل هذا من الآداب؟ تجاهل الأكبر سنًا؟ تتصرفين كما لو تفهمين كل شيء… فتاة وقحة! والآن، أريني كيف ستتجاهلينني. اكتبي ثلاثين مرة هذه العبارة لنرى كيف ستكونين وقحة بعد اليوم!”
بريشة من الطباشير القاسي، خطّت المُعلمة على السبورة ما يشبه الحكم:
“العشوائيات والكتابة لن تكون أبدًا طريقة لأصبح سيدة مجتمع راقية ومهذبة.”
ثلاثون مرة. ثلاثون محاولة لتجريدي من شغفي. لكن كل كلمة أكتبها ستكون إعلان حرب صامت.
ثم تجمّدت أصابعي على طرف الطاولة الخشبي الباردة. كان هدوء الفصل المُفاجئ بعد عاصفة المُعلمة “كارسيه” اسمها يشبه الكرسي مقعد ههه اوه صحيح الهدوء أشدّ قسوة من صراخها نفسه.
عشرون زوجًا من العيون، عيون زميلاتي “المهذبات”، كانت تثقب ظهري بالشفقة تارة وبالسخرية المُبطّنة تارة أخرى.
كنّ كالعادة يلتزمن الصمت، يؤدين دور طالبات هذه المدرسة الراقية التي تُقدّس الالتزام بالقواعد حدّ التجمّد.
تنهدتُ تنهيدة عميقة أخفيتها في صدري آآآآآآه ثلاثون مرة ثلاثون سطرًا لإدانة شغفي.
سحبتُ دفتري للأسف ليس صندوق كنوزي الممنوع بل دفتر الدراسة الممل، فتحته على صفحة جديدة. رُغم كل شيء،
و قد كانت اللمسة الأولى للقلم على الورق بمثابة لمسة حنان، وعدٌ سري بأن هذا التمرد لن يموت.
بدأتُ.
-
العشوائيات والكتابة لن تكون أبدًا طريقة لأصبح سيدة مجتمع راقية ومهذبة.
ماذا تعني كلمة “عشوائية” على أي حال؟
هل يعني ذلك أن الأفكار يجب أن تكون مُرتبة مثل خط سير الحافلات؟
مُنظمة مثل حفل شاي ملكي؟ لا يوجد شيء عشوائي حقًا؛ كل كلمة كتبتها هي نتيجة لملايين الأحاسيس والتجارب. -
العشوائيات والكتابة لن تكون أبدًا طريقة لأصبح سيدة مجتمع راقية ومهذبة.
لقد كذبتُ في هذا السطر كذبتُ على نفسي قبل أن أكذب على المُعلمة.
هذه السطور و الكتابات هي طريقتي لأصبح شيئًا آخر غير تلك “السيدة الراقية النمطية ” الباهتة التي تريدها لي. أنا لا أريد أن أكون انعكاسًا باهتًا لأحد. -
العشوائيات والكتابة لن تكون أبدًا طريقة لأصبح سيدة مجتمع راقية ومهذبة.
عند هذه النقطة، تسللت همسة صغيرة إلى أُذنيّ، همسة من “جوزفين“، الطالبة الهادئة الجالسة بجانبي.
“سيرو، اكتبيها بسرعة. لا تجعليها تنتظركِ أكثر.”
رفعتُ نظري إليها، كانت عيناها الجميلتان تلمعان بالخوف. الخوف من عواقب كسر القواعد. ( ・_・) -
العشوائيات والكتابة لن تكون أبدًا طريقة لأصبح سيدة مجتمع راقية ومهذبة.
في المرة الرابعة، لم تعد الكلمات تبدو كعقوبة، بل كتعويذة. كل حرف كان يُفقد معناه الأصلي ويتحول إلى رمز صامت لمقاومتي.
هي تُجبرني على كتابة ما تريد وأكره، وأنا أُحوّل ما أكتبه إلى ما أُحبّ.
“كل كلمة إدانة تنقلب إلى كلمة قوة.” - العشوائيات والكتابة لن تكون أبدًا طريقة لأصبح سيدة مجتمع راقية ومهذبة.
في أسفل السطر على الهامش، وبخط دقيق لا يكاد يُرى، أضفتُ تعديلاً صغيراً جداً، كجرعة سُمّ خفية:
“لكنها طريقة لأصبح سيرو.”
كنتُ أضحك بداخلي. ضحكة صامتة، متمردة، تهزّ أركان الفصل المُقيّد.لم تكن كارسيه تراني أتجاهلها؛ كانت ترى فتاة تكتب بانتظام. لكنني كنت أتجاهلها ببراعة، في الوقت الذي ألتزم فيه بالقاعدة حرفياً. وهكذا، لم تكن تلك الثلاثون مرّة محاولة لتجريدي من شغفي، بل كانت الحبر الذي رسم حدودي.
حين أنهيت السطر الخامس عشر كنت قد أكملت نصف العقوبة، ونصف روحي باتت تشتعل. لم أعد أشعر بثقل الكلمات، بل بوزن الإرادة التي تدفع القلم.
كانت المُعلمة كارسيه تترصدني من مكتبها، نظرتها كصقر يُراقب فريسة، لكن عينيها لم تتمكن من اختراق حاجز الورق والهامش الضيق الذي زرعت فيه بذرة تمرّدي.
جوزفين، التي كانت ما زالت تكتب واجبها بتركيز مُنهك، دفعت قلمها فجأة.
“يا إلهي، يدكِ ترتعش، سيرو. هل أنتِ بخير؟”
لم تكن يدي ترتعش من الإجهاد، بل من الكتمان.
كان كل سطر أكتبه يضخّ دماء جديدة في عروقي. لو أخبرت جوزفين أنني أدسّ تعديلي الخاص في كل خامس سطر، لربما أغمي عليها من الرعب.
فالالتزام المطلق هو أكسجين هذه المدرسة. ╮(︶︿︶)╭
16. العشوائيات والكتابة لن تكون أبدًا طريقة لأصبح سيدة مجتمع راقية ومهذبة. كم مرّة سأضطر لسماع هذه الجملة قبل أن يستنكرها العالم؟ و تصبح شيء من التقيد و الجهل؟
-
العشوائيات والكتابة لن تكون أبدًا طريقة لأصبح سيدة مجتمع راقية ومهذبة.
في هذه اللحظة، رنّ جرس نهاية الحصة كالطلقة النارية.
نهضت الأخريات في الفصول المجاورة، وسُمعت أصوات الكراسي وهي تُسحب، إيذاناً بانتهاء فترة التعذيب الفكري.
لكن بالنسبة لي، لم ينتهِ الأمر بعد.
“سيرو!”
نادت كارسيه بصوتٍ حاد، وهي ترفع نظارة القراءة على شعرها المُصفف بإتقان.
“أين تذهبين؟ انتهِ من عقابكِ الآن. أنتِ ستقضين استراحتك هنا.”
ساد صمت الفصل مُجدداً.
نظرت إليّ جوزفين بحسرة، تمنت لي بصرخة صامتة حظاً أوفر،
وغادرت مع زميلاتها، تاركاتني وحيدة في صالة العرض الفارغة هذه.
جلستُ مجدداً، تحت شعاع الشمس الباهت الذي تسلل من النافذة.
و قد كانت السطور المتبقية الآن تبدو كأنها دعوة مفتوحة، فرصة للكتابة دون عيون مُتربصة.
-
العشوائيات والكتابة لن تكون أبدًا طريقة لأصبح سيدة مجتمع راقية ومهذبة.
وصلت إلى العشرين. هنا، بدأتُ في الكتابة على الهامش بجرأة أكبر. لم أعد أضيف جملة، بل أضفتُ بيتاً شعرياً قصيراً، متصلّاً بالسطر الذي كتبته للتو:
… ومهذبة.
الهامش هو المكان الذي تنمو فيه الحقيقة، حيث الرفض ينسج خيوط العنفوان.
لم تكن الكلمات موجهة للمُعلمة. كانت موجهة لي،
لروحي التي تخشى أن تذبل. لم تكن هذه تفاهات عشوائية؛ كانت البناء المُتأنق للهوية.
(ง’̀-‘́)ง رفعتُ رأسي، ورأيتُ كارسيه تقرأ ورقة ما على مكتبها،
وقد ادارت ظهرها لي. كان هذا هو الوقت المُناسب.
هذا الدفتر، وهذا القلم، و دقائق الخلوة هذه، هي ساحة معركتي الوحيدة.
سأُكمل الثلاثين، لكنني سأنهيها كما أريد أنا.
( لقد وصلنا لنهاية الفصل الأول من روايتي الأولى أمل أنكم استمعتم أفيدوني برأيكم على المنتدى أو في التعليقات سعيدة (oّ・ェّ・o)
Chapters
Comments
- 1 - رغم كل الصراخ و الأنوف منذ 17 ساعة
التعليقات لهذا الفصل " 1"