بعد مغادرة يوجين، ظل الاثنان صامتين لفترة طويلة.
تنهد جيهان وقد تجمدت ملامحه ببرود، فشعرت سورين بأن قلبها يهوي من مكانه.
منذ اللحظة التي رأت فيها الاثنين معًا، اجتاح سورين شعور بعدم الأمان لا يمكن كبحه.
كان من الأفضل لو قال شيئًا، لكن صمت جيهان زاد الأمر سوءًا.
“أوبا!”
أسرعت سورين لتعترض طريق جيهان، الذي بدا وكأنه يهمّ بمغادرة ميدان الرماية.
“لـ، لحظة فقط! أوبا، دعنا نتحدث قليلًا.”
“عن ماذا نتحدث؟ ها، بحق السماء وأنتِ لستِ حتى في وضع يسمح لك بالتجول، ما الذي فكرتِ به لتأتي إلى هنا؟”
“أنا…….”
ارتعشت سورين قليلًا أمام سؤال جيهان الحاد.
في الحقيقة، لم تكن تنوي القدوم إلى هنا من الأساس.
لو سارت الأمور وفقًا لما خُطط له في الصباح، لما اضطرت لذلك!
استعادت سورين ما جرى في وقت سابق من ذلك اليوم.
فقد امتنعت عن الذهاب إلى موعدها مع يوجين، وجلست في المنزل تقضم أظافرها بقلق، في انتظار اتصال من السيد “جونغ”.
ظنت أنه سيبلغها بأن المهمة انتهت بنجاح قبل الظهيرة، لكن السيد “جونغ” لم يتصل حتى بعد منتصف النهار.
وعندما رأت المكالمة في وقت متأخر من بعد الظهر، أدركت فورًا أن الأمور سارت على نحو خاطئ.
— أنا، سيدة، لقد حدثت مشكلة في المهمة التي أمرتني بها.
“مشكلة؟! أي مشكلة؟!”
— هل أنتم متأكدون من أن رقم السيارة 0000 الذي ذكرتموه يعود للسيدة “يون يوجين”؟
“هل تعتقد أنني لا أميز؟ نعم، إنها سيارة يوجين ما الذي حدث بالضبط؟ ولماذا لم أتلقَ أي اتصال حتى الآن؟!”
صاحت سورين بغضب تجاه السيد “جونغ”، لكنه ظل صامتًا رغم سيل الأسئلة الذي أمطرته به.
“ألم تسمعني؟!”
بعد لحظة طويلة من الصمت، جاء صوته خافتًا ومنخفضًا:
— صحيح أن حادثًا وقع، لكن الشخص الذي نُقل إلى غرفة الطوارئ لم تكن تلك المرأة.
ماذا؟!
“ما، ما الذي تقوله؟ تحدث بوضوح كي أفهم!”
— سيو جايها ، كان هو من يقود سيارة السيدة يون يوجين رأيت الحادث بعيني، وتتبعنا المصاب إلى المستشفى، فكان هو من نُقل متأذيًا، الرئيس سيو جايها.
عندما سمعت أن المصاب كان جايها، انهارت سورين وسقطت جالسة في مكانها.
رغم أنها سمعت الأمر بأذنيها، لم تستطع تصديقه.
ولا تزال تتذكر بوضوح مشاعرها في تلك اللحظة عندما أخبرها السيد جونغ بذلك.
خفق قلبها من جديد وكأنه سينفجر.
الرئيس سيو جايها هو من أُصيب؟!
كانت قد علمت عبر موظف مكتب التحري أن “سيو” لديه جدول خارجي في ذلك اليوم.
لذا، خططت لتدبير الحادث ضد “يوجين”.
(لماذا كان ذلك الشخص في سيارة أختي؟)
وبعد أن عرفت بأن الضحية كان جايها، أمرت فورًا موظف التحري بتعقّب “يوجين”.
وكان المكان الذي توجهت إليه الأخيرة هو ميدان رماية في ضواحي المدينة.
بشيء من الشك، استجوبت مساعدها كيم لتتأكد، وبالفعل كان جيهان هناك أيضًا.
لم يكن هناك شك، لا بد أنها جاءت للتحقق من حادث جايها.
ولهذا جاءت سورين مباشرة إلى هذا الميدان.
ولا تزال تشعر بالخوف كلما تذكرت تلك اللحظة.
وخاصة عندما رأت جيهان مبللًا بالماء، شعرت وكأن قلبها توقف.
فالأجواء بينهما لم تكن عادية، هذا ما أدركته بمجرد رؤيتهما.
لا، عليّ أن أهدأ ربما لا تعرف يوجين أنني أنا من دبرت الأمر.
لكن إلى أي مدى كانت يوجين على علم؟
بما أنها جاءت مباشرة إلى جيهان بعد الحادث، فلا بد أنها تشتبه به.
لكن لا يمكن أن تكون تعرف “جونغ”.
فـجونغ كان الشخص الذي توصلت إليه سورين من خلال جهاز التنصت الذي زرعته في مكتبة جيهان.
عندما فكرت بذلك، شعرت ببعض الراحة.
(صحيح، لا بد أنها لا تعرف بعد لكن فقط لأتأكد، لِم لا أختبر أوبا قليلًا؟)
نظرت سورين بطرف عينها نحو جيهان الذي كان يحدق بها.
“سألتكِ، لماذا جئتِ إلى هنا؟”
تزامن صوته مع نظرتها، فأجابت سورين بصوت متحشرج، محاولة أن تبدو متأثرة قدر الإمكان:
“هو… هو هوجين ، كان يركل كثيرًا، كأنه يريد رؤية أوبا كما أنني أردت أن أتنفس بعض الهواء النقي بعد مدة طويلة.”
“…….”
“لكن، ما الذي حدث لك، أوبا؟ لماذا تبدو مبللًا هكذا؟”
اقتربت منه بابتسامة مصطنعة، تحاول أن تبدو متماسكة.
وأخرجت من حقيبتها منديلاً لتجفف قطرات الماء العالقة على وجهه.
“كفى.”
دفع جيهان يدها جانبًا.
أحست سورين بالحرج، فأنزلت يدها المتجمدة في الهواء ببطء.
“أه، لقد أتيت فجأة، أليس كذلك؟”
قدمت له المنديل هذه المرة بشكل حذر.
وربما لأن رفض المنديل بدوره سيكون مبالغًا فيه، فقد أخذه منها.
لكن وجهه اليوم بدا أكثر برودة من المعتاد، مما زاد من قلقها.
(هل من الممكن أنه عرف بشأن الحمل… لا، لا أظن ذلك.)
لو عرف أن حملها كذبة، لما كان واقفًا أمامها بهذا الشكل.
رغم محاولاتها لإقناع نفسها بذلك، لم تستطع التخلص من التوتر.
وهي تراقب خطوات جيهان من الخلف، سألته بحذر:
“ما الذي جلب “أوني” إلى هنا؟”
“…….”
“هل حصل بينكما شيء سيء؟ أوبا ، تبدو منزعجًا جدًا……”
ورغم أنها كانت تطرح الأسئلة، إلا أنها لم تتوقف عن مراقبة تعابير وجهه بقلق.
ذكرت اسم يوجين، لكن لم يظهر أي تغيير واضح في ملامحه.
ياللراحة يبدو أنها لم تخبره بشيء بعد.
رغم أن الأجواء كانت باردة، إلا أنه لم يبدو عليه أنه عرف بأمرها بعد.
“ولماذا أنتِ فضولية إلى هذا الحد؟”
توقف جيهان فجأة عن السير.
وعندما استدار فجأة، تفاجأت سورين دون أن تشعر.
“ماذا؟ أـ، أعني، فقط لأني لم أظن أنكما ستلتقيان على انفراد.”
“قيل لي أن أحدهم عبث بفرامل السيارة التي كان يقودها أخي.”
شهقت سورين لا إراديًا، وقبضت بقوة على المنديل.
“سألتني إن كنت أنا من فعل ذلك، فنفيت الأمر.”
“…….”
“لأنه لا يوجد سبب يدفعني للمخاطرة بحياتي لأقتل ذلك الشخص.”
وكان محقًا.
فالحادث الأخير دبرته سورين وحدها.
“نـ، نعم لا يمكن أن تخاطر بحياتك أنت وأنا وهوجين من أجلي، أليس كذلك؟ من غير المعقول أن تفعل شيئًا كهذا.”
ضحكت سورين بأقصى ما تستطيع لتبدو طبيعية.
لكن في داخلها، كانت على وشك الانفجار من القلق.
هل عرف أن ما حدث من تدبيرها؟
ابتسم جيهان ببرودة أمام تأكيدها المليء بالثقة.
“صحيح ولهذا…”
ثم وضع يده على كتفها.
“إن كنتِ تفكرين بي وبالطفل، فلا تفكري بأمور لا داعي لها.”
كانت جملة عادية بطريقته المعتادة.
لكن بالنسبة إلى سورين، لم تكن أبدًا أقل من تهديد صريح.
***
ها هو ذا الاتصال من جايها يأتي مرة أخرى كالمعتاد منذ دخوله المستشفى، زادت وتيرة اتصالاته بشكل ملحوظ.
بدأ سؤاله المعتاد بـ:
“ألن تأتين اليوم؟”، ولم يتوقف بعدها عن السؤال.
– لقد أصبحتِ لا تزورين المستشفى هذه الأيام، إن كنتِ قد انتهيتِ من عملكِ فتعالي.
“اليوم مشغولة قليلاً…”
– حقاً؟ إذاً لا بد أن أخرج من المستشفى.
مع معرفتي بطبعه، شعرت أنه إن لم أذهب اليوم فعلاً، قد يخرج من المستشفى كما قال.
ولهذا السبب قصدت المستشفى مباشرة بعد انتهاء الدوام.
كنت بالكاد أدخل من بوابة المستشفى عندما وردني اتصال من العم هيونيك.
– لا تعرفين اسمه بالكامل، لكنكِ متأكدة أنه الشخص الذي يوكل له المدير سو الأمور غير القانونية، صحيح؟
“نعم، لقبه جونغ أرجوك تحقق من سيرته ومن حوله، بل وحتى نقاط ضعفه إن أمكن.”
– نقاط ضعف؟ تقصدين مثل ماذا؟
“أقصد شيئاً مثل نقطه ضعفه الأكبر …لأستخدمه في التهديد.”
ضحك العم بعدما سمع كلامي كاملاً.
– هاها، لم أكن أظن أني سأسمع مثل هذا الكلام من فمكِ يا يوجين على كل حال، طالما الأمر عاجل، سأحاول أن أرسل لكِ التفاصيل قبل ظهر الغد.
رغم انشغاله بأمور مجموعة “W”، إلا أنه وافق بصوت دافئ.
“شكراً لك يا عمي، حقاً، لو لم تكن إلى جانبي، لكنت في غاية الضياع.”
– لا عليكِ. أنا مدين كثيراً لرئيس “يون”، وأريد أن أفيه الدين من خلالك، فلا تشغلي بالكِ كثيراً بالمناسبة، هل السيد جايها بخير؟
حين سألني العم، تخيلت جايها ينتظرني الآن في غرفته.
لا بد أنه سيعاتبني ما إن أصل الغرفة، ويسألني لماذا تأخرت.
“نعم، لا يزال في المستشفى ويجري فحوصات مستمرة، لكن باستثناء كدمة في الذراع، لا يبدو أن هناك مشكلة كبيرة.”
– هذا جيد لكن، هل يعرف السيد جايها عن خطتك؟
“لا، لم أخبر جايها بعد.”
استمعت إلى كلام العم عن أهمية إخباره مسبقاً، ثم أنهيت المكالمة.
كنت أعلم أنه عليّ أن أخبره، لكنني كنت أخشى رده فعله .
خشيت أن يؤدي إخباره بالخطة إلى تعرضه للخطر من جديد.
سرت بخطًى مثقلة بالمشاعر المتضاربة.
…
كان الليل قد تجاوز الحادية عشرة بوقت طويل فتحت الباب بحذر خشية أن يكون “جايها” نائماً.
كانت الغرفة مضاءة بالكامل.
في العادة، كان ينهض فوراً عند سماعه خطواتي، لكن الآن لم يتحرك.
اقتربت بهدوء من سريره، دون أن يبدُ منه أيّ حراك.
هل نام فعلاً؟
وقعت عيناي على شعره الأسود المبعثر.
اقتربت أكثر وأنا أنظر إلى وجهه النائم.
في الآونة الأخيرة، كنت مشغولة بالتحقيق في سبب حادث جايها.
أقضي النهار في محطة الأخبار لتقديم النشرات، وفي الليل أضع الخطط مع العم هيونيك لإثبات جريمة جونغ.
لذلك، أصبحت زياراتي لغرفة جايها نادرة.
ربما بسبب ذلك بدأ يشعر بالاستياء دون أن يعرف كل التفاصيل.
لم يكن لدي خيار.
رغم تفهمي لمشاعره، إلا أن كشف جريمة سورين كان أولوية قصوى.
كان لابد من إيقافها قبل أن ترتكب خطأً أكبر بدافع القلق أو الخوف.
حتى بلباس المستشفى، ما زال يبدو وسيماً.
رغم ارتدائه زي المرضى البسيط، بدا مميزاً بهيئته.
حين نظرت إلى وجهه النائم طويلاً، لاحظت شيئاً عالقاً على خده.
هاه؟ هناك شيء على وجهه؟
اقتربت منه برأسي أكثر، فظهر لي غبار صغير.
لم ينتبه له؟، لم يكن هذا من عادة جايها الحريص.
تسللت ابتسامة إلى شفتيّ.
ربما بسبب الجبس في يده اليمنى، أصبح حتى الاغتسال صعباً عليه.
“حتى أنت يا جايها، إنسان في النهاية… لم تنتبه حتى لذرة الغبار هذه.”
مددت يدي لإزالة ما كان عالقاً على خده، وفي تلك اللحظة…
مد جايها يده فجأة وجذبني من خصري نحوه بقوة.
“آه، آه!”
فقدت توازني وسقطت على سريره.
“كنت تتظاهَر بالنوم؟”
وعندما استعدت وعيي، كانت عيناه السوداوان تحدقان في وجهي.
– كنت نائماً للحظة، لكن يوجين أيقظتني.
“……”
– لماذا أصبحت رؤيتك صعبة إلى هذا الحد؟
يبدو أن النوم قد زال تماماً عن عينيه، وأظهر استياءه وهو يعبس بشفتيه.
نظرت إليه، وشعرت بالذنب يغمرني.
فكل هذا، من احتجازه في المستشفى بجسدٍ متألم، إلى قلّة زيارتي، كان بسبب ما فعلته أنا.
فوجئت بأن ملامحي قد غيمت دون أن أشعر.
“ أن ……”
ةفي اللحظة التي هممت فيها بالاعتذار تحت وطأة الشعور بالذنب، ضغط جايها بشفتيه على شفتيّ بلطف.
“ممنوع قول آسفة على كل حال، ما الذي كنتِ تفعلينه حتى تأخرتِ هكذا؟ السكرتير هان قال إنه أوصلكِ أمام المستشفى قبل الحادية عشرة.”
“آه، كنت أتحدث مع العم قليلاً في الخارج قبل الدخول.”
“همم…”
ضيّق عينيه وكأن في الأمر ما لا يعجبه، ثم نظر إليّ بتركيز.
شعرت بالحرج من نظراته المباشرة، فأدرت رأسي بعيداً.
حتى لو سألت، لا يمكنني أن أخبرك.
كنت أتعمّد أن أخفي عنه ما أخطط له، خشية أن يتصرف بتهوّر إذا علم.
حين حولت نظري تلقائياً، رأيت أن الساعة تشير إلى منتصف الليل.
“لقد أصبحت الساعة الثانية عشرة عليك أن تنام الآن سأحاول المجيء أبكر قليلاً غداً.”
وهممت بالنهوض من قرب جايها ، الذي أصبح وجهه قريباً لدرجة أن أنفينا يكادان يتلامسان.
لكنه، وكأنه شعر بنيتي في الابتعاد، شدّني نحوه بقوة أكبر من ذي قبل.
“أنتِ لا تفكرين في الرحيل الآن، أليس كذلك؟ أتيتِ متأخرة.”
رغم أنه شدّني بيده اليسرى فقط، إلا أنني لم أستطع الإفلات.
نظرت إليه مبتسمة، وقد بدا واضحاً أنه لا ينوي تركي.
“عليّ أن أذهب باكراً إلى العمل إن نمتُ هنا، فستشعر بعدم الارتياح يا جايها.”
عبّرت عن رغبتي في العودة، لكن جايها ابتسم بتكاسل، وكأن الأمر لا يهمه.
“حتى لو كان غير مريح، فلا بأس.”
لا، سيشعر بعدم راحة كبيرة.
“على أي حال، عندما أبدأ التحضير للعمل، ستستيقظ من نومك.”
وفوق ذلك، لم يكن لديّ ما أرتديه للعمل صباحاً.
كان “جايها” يتأمل ملامح وجهي المترددة، ثم شدّني نحوه أكثر من ذي قبل.
“المكان واسع هكذا، والسرير كبير أيضاً.”
“……”
“ألا يمكنكِ فقط التظاهر بأنكِ مغلوبة على أمرك، وتنامين هنا؟”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 86"