سألني “جيهان” بوجه وقح إن لم يكن لديّ ما أقوله له.
“لا.”
لا يمكن أن يكون هناك ما أودّ قوله أكثر من هذا.
وحين التفتّ عنه وأجبته بحزم، أمسك “جيهان” بمعصمي.
“لا، لا بد أن يكون لديكِ ما تقولينه.”
شعرت بنظرات المارة تمرّ بنا باستغراب.
نظراته الحادّة التي توحي بعدم نيته تركي جعلتني في النهاية مضطرة لأن أتبعه.
إثارة الانتباه أمام مبنى البث لم تكن بالأمر الجيد.
وحتى وصولنا إلى سيارته المتوقفة داخل ساحة المبنى، لم يتبادل أيٌّ منا كلمة واحدة.
وما إن جلسنا في السيارة، حتى كسر “جيهان” الصمت وتحدث أولًا:
“تريدين العودة إلى العمل؟”
“نعم أريد ذلك.”
“ولماذا؟ ألم تقرري الاستقالة من محطة البث؟”
تذكرت أن قراري بالاستقالة جاء بسبب رغبة أهلنا في أن أتفرغ لدعم زوجي.
لأنني في حياتي السابقة لم أكن أعلم شيئًا، لذا كان ذلك قرار “أنا” السابقة.
وحين التفتّ بجسدي نحوه، بدا وجهه الغاضب وهو ينظر إلى الأمام.
“لقد غيّرت رأيي.”
“ولماذا لم تخبريني بهذا الأمر؟”
كان صوته حادًا وكأنه لا يزال غاضبًا من حديثنا السابق.
“حتى حضورك اجتماع المساهمين… كل هذا.”
بدا عليه الانزعاج وكأنه لا يستطيع فهم تصرفاتي الأخيرة.
“أنتِ غريبة مؤخرًا وكأنك أصبحتِ شخصًا آخر في لحظة.”
هذا متوقع لأن المرأة التي كنت تعرفها قد ماتت بالفعل أمام المحكمة.
وبعد مغادرتنا مبنى البث، بدا أنه يقود السيارة نحو منزلنا الزوجي.
وأثناء توقف السيارة عند الإشارة، أدار وجهه ناحيتي وهو يحدق في الطريق.
“أعرف جيدًا مدى تعلقك بمنصب المذيعة الذي قبلته رغم معارضة عائلتك.”
كان يعرف ذلك؟
“لكن الأمر لم يعد كما كان.”
يبدو أنه قد درس ماضيّ قبل زواجنا بشكل دقيق.
“الأنظار مسلطة عليكِ بالفعل لا أريد أن تصبح زوجتي مادة للحديث بين الناس.”
كانت نظراته إليّ حادة ولامعة بشدة.
رغم أنه حاول تغليف كلماته بلطف، إلا أن الحقيقة كانت واضحة: يريدني ألا أفعل شيئًا.
“سيد “جيهان”، سأهتم بأموري بنفسي.”
“كيف تكون أمورك وحدك؟ أنتِ الآن وجه “هوجين” أيضًا لا تتحدثي بكلمات غير مسؤولة.”
حين نطقتُ بكلامي بعد صمت طويل، تجمد وجهه على الفور.
ومن نافذة السيارة رأيت المنظر المألوف للمجمع السكني.
قبل أن أنطق بكلمة، اهتزّ الهاتف في يدي وأضاءت شاشته.
ظهر اسم مألوف: عمي “هيونيك”.
أنهى “جيهان” ركن السيارة، ونظر بلا مبالاة إلى الشاشة التي أضاءت بسبب الرنين.
ورغم أنه رأى الاسم، تظاهر بأنه لا يعرفه وسأل:
“لن تردي؟”
“سأتصل به لاحقًا.”
وما إن تجاهلت المكالمة، حتى وصلتني رسالة قصيرة بعد قليل.
“تتواصلين كثيرًا مؤخرًا مع المحامي “بارك”، أليس كذلك؟”
لم يعد يرفع صوته، بل استعاد هدوءه المعتاد.
وحين رفعت رأسي عن شاشة ، كان يحدّق بي وكأنه يحاول أن يكتشف ما يدور في داخلي
“إنه المستشار القانوني لمجموعة دبيلو.”
أخذت حقيبتي وخلعت حزام الأمان.
وحين مددت يدي لأفتح باب السيارة، سمعته يناديني بصوته المنخفض:
“لحظة.”
أوقفني قبل أن أنزل ثم مدّ جسده نحو المقعد الخلفي وأخرج شيئًا منه.
“هذا…”
كانت خاتم الزواج الذي لم يتمكن من وضعه في إصبعي يوم الزفاف.
أخرجه من العلبة ووضعه في إصبع البنصر.
“يُقال إن معظم العرائس يشعرن بالتوتر قبل الزفاف.”
نظر إليّ نظرة عابرة وأكمل:
“يقولون إن العرائس العاديات يشعرن بذلك، فكيف بكِ، وقد مررتِ بتجربة صعبة؟”
لكن هذا ليس السبب الحقيقي…
كيف يمكنك التظاهر بأنك تهتم بي وتفهمني؟
“أنا حقًا أخشى أن تتأذي وسط كل هذه العواصف.”
“جيهان” نظر إليّ بنظرات مشفقة وكأنه أكثر شخصٍ يتألم من أجلي.
“يمكنكِ أن تبقي هكذا، دون أن تفعلي شيئًا، يا “يوجين”.”
هل ناداني بهذا اللطف من قبل؟
رغم معرفتي أن هذه الكلمات هدفها هدم حذري تجاهه، إلا أنني شعرت بالدوار.
ظننتُ أنني أصبحت قوية، لكن بمجرد رؤية هذا الخاتم، انهارت كل قوتي من جديد.
“ابقَي كما أنتِ، زهرة دفيئة لا تعرف شيئًا، في مكانكِ هذا تمامًا.”
“كي يسهل عليّ أن أنتزعكِ.”
كان “جيهان” الذي سلب مني كل شيء في حياتي السابقة، يهمس لي بلا انقطاع.
وهو يبتسم لي، كنت أشعر نحوه بالاشمئزاز.
لأني أعلم ما تخفيه كلماته الرقيقة من نوايا.
“استندي إليّ، وارتاحي.”
.
.
.
عدتُ إلى المنزل، وفي داخلي غضب لا يهدأ، ففتحت خزانة النبيذ.
أمسكت بزجاجة كانت لا تزال ممتلئة إلى النصف، وشربتها مباشرة دون توقف.
تسلل النبيذ عبر حلقي حتى تبللت بلوزتي.
“هاه…”
شربت الزجاجة كلها حتى آخر قطرة دون أن أترك شيئًا.
لكن العطش، والحرارة التي غمرت جسدي، لم تهدأ.
كنت أتمنى أن أسكر، لكن وبدلًا من ذلك، ازداد وعيي صفاءً.
حين انحنيت وأتكأت على الطاولة، لمعت خاتم الزواج في إصبعي.
كانت تحفة فنية من تصميم أحد المصممين المشهورين بقطع ماسية دقيقة، لا يوجد لها مثيل في العالم.
رأيت “جيهان” في ذاكرتي وهو يضع نفس الخاتم في إصبعي في حياتي الماضية.
وكنت أستمدّ العزاء من هذا الخاتم.
“لماذا وثقتُ بك… لماذا…”
تذكّرت نفسي في ذلك الوقت، فانفطر قلبي وجعًا.
لماذا لم أتمكن من رؤية هذا التمثيل الواضح وهذا النفاق؟
الخاتم الذي كان يتلألأ ببريق باهر لم يعد سوى قيدٍ في إصبعي.
وكأنه يهمس لي: “ستتنازلين عن كل شيء شيئًا فشيئًا.”
رحت أئنّ وأنا أحدّق في خاتم الزواج.
منصب المذيعة، ومجموعة دبيلو … في هذه الحياة، لن أتنازل لأحد عن أي شيء.
“لن أترك الأمور تمضي كما تريدون.”
اهتزّ ضوء شاشة الهاتف الموضوع على طاولة المطبخ.
“مرحبًا.”
كان “جايها”.
اتصل بي بعدما قرأ رسالتي التي طلبت فيها مقابلته.
لم أتوقع أن تتواصلي فجأة هكذا، هل تريدين رؤيتي الآن؟
“نعم. أريد مقابلتك إن أمكن اليوم.”
وحين سمع كلمة “اليوم”، صمت قليلًا على الطرف الآخر من السماعة.
هل تناولتِ الطعام؟
“لا، ليس بعد.”
إذًا، هل تودين الخروج؟ لنتناول شيئًا معًا.
كان صوته العميق يأتي عبر الهاتف.
لكني لم أكن في مزاج لتناول الطعام، فجلست على الكرسي، أحدّق في زجاجة النبيذ أمامي.
“لا حاجة للطعام.”
رغم أنني شربت حتى ظهرت قاع الزجاجة، لم أشعر بأي سُكر.
كنت أريد أن أسكر بما يكفي لأنسى كل شيء.
وحين نظرت إلى خاتم الزواج الذي يتلألأ بلون فريد، نزعته من إصبعي ووضعته على الطاولة.
“هل نحتسي كأسًا من الخمر؟”
***
بدأت سيارة “جايها” التي كانت تسير بصمت تُبطئ من سرعتها، وكأنها وصلت إلى وجهتها.
«فندق؟»
نظرتُ إلى “جايها” من داخل السيارة التي توقفت ببطء عند مدخل الفندق.
ولكنه نزل من السيارة وكأن الأمر لا يستدعي الاهتمام، ثم اقترب من المقعد الأمامي وطرق على النافذة.
«انزلي.»
«هل تقترح أن نشرب الخمر هنا؟»
فتحتُ النافذة وسألته مشيرةً إلى الفندق خلفه.
ابتسم “جايها” ابتسامة كسولة وهو ينحني إلى داخل النافذة المفتوحة قليلاً، وكأنه فهم ما وراء سؤالي.
«إذاً، ماذا كنتِ تنوين أن تفعلي؟»
أشرتُ إلى الفندق وأنا أنظر إليه وقد ارتسمت في عينيه نظرة ذات مغزى.
«لا، المكان فقط…»
«المكان هنا جميل انزلي، الوقت قد حان.»
فهو فندق خمس نجوم، فلا شك أن أجواءه جميلة.
وفي النهاية، دون أن أجد ما أقوله، تبعتُه إلى داخل الفندق.
على الرغم من أن الموعد كان مفاجئًا، بدا وكأن كل شيء كان مُعدًّا مسبقًا.
«هل حجزتَ أيضاً؟»
كانت ردهة الفندق مزدحمة بأناس كثيرين يجلسون، لأن الوقت كان وقت العشاء.
وأثناء تجولي بنظري، سألت “جايها” الذي كان يسير أمامي بلطف.
«نعم، حجزت لا يمكنك الدخول إلى هنا بدون حجز وانظري إلى الوقت.»
استدار “جايها” إليّ وكأن سؤالي بديهيّ لا يُسأل.
«إنه وقت الذروة.»
«إنك صارم حقاً…»
«أنا كذلك فعلاً.»
كلامه صحيح، لكني لم أستطع إلا أن أضحك بمرارة من تصرفه الخالي من أي تعبير.
ابتسم “جايها” ابتسامة خفيفة ثم توجه إلى موظف في بار النبيذ.
«هل أنت السيد “سو جايها”؟»
«نعم.»
تبعناه حتى توقفنا عند طاولة قريبة من النافذة الزجاجية العريضة، وقد كُتب عليها “محجوز”.
كانت شمعة صغيرة تنير الطاولة بضوء خافت.
«هذه هي الطاولة المحجوزة للسيد “سو جايها” نتمنى لكما وقتًا ممتعًا.»
كان موقع الطاولة رائعًا، يطل على أضواء السيارات التي تسير بمحاذاة نهر الهان، خلف النافذة الواسعة.
طلب “جايها” النبيذ وبعض المقبلات البسيطة، ثم التفت إليّ ونظر نحوي أخيرًا.
ولم تمضِ فترة طويلة حتى وضعت أمامنا كأسين مع زجاجة نبيذ.
«آه، كأس واحدة تكفي.»
ثم أعاد أحد الكأسين إلى الموظف.
«لن أشرب.»
«…لن تشرب؟»
«نعم.»
أجابت كلماته الحاسمة فأربكتني دون قصد.
فقد ظننتُ أنني جئت إلى هنا لأشرب معه.
وبينما كنت أتساءل إن كان عليّ تغيير المكان الآن، سمعت صوته من جديد.
«لديّ سيارة، والوقت متأخر، ولا يمكنني تركك وحدك.»
أشار برأسه نحوي وقال كلماته بلا مبالاة، لكنها جعلت قلبي يرتجف.
وعندما انسحب الموظف، ظلّ “جايها” يحدق بي بصمت وكأنه يسألني ما الخطب.
لكنه لم يبادر بالكلام، فبدت لي تصرفاته كأنها مراعاة منه، فابتسمت بخفة.
«في الحقيقة، كنتُ أشرب النبيذ وحدي في البيت اليوم.»
«…؟»
ة«هناك منصب أود استعادته، لكن الأمر لا يسير على ما يرام.»
هل كان بسبب أجواء المكان؟ أم لأننا كنا نجلس أمام شمعة وحيدة تنير الظلام من حولنا؟
وجدت نفسي أحكي له قصتي دون أن أشعر.
«لماذا؟»
«قالوا إن المنصب محجوز بالفعل.»
أمسك بكأس الماء، وتغيّر تعبير وجهه بشكل غريب حين سمع كلمة “محجوز”.
«هل ترغبين في العودة إلى العمل؟»
سألني “جايها” بنبرة هادئة وهو يضع الكأس على الطاولة.
أُصبتُ بالدهشة حين سألني عن رغبتي في العودة حتى قبل أن أنطق بها.
«كيف عرفت…؟»
نظرتُ إليه بعينين متسعتين.
وقبل أن أتابع كلامي، نظر “جايها” خلفي فجأة، ثم اختفت ابتسامته.
وكأنه قد لمح شيئًا فجأة.
«ما الأمر؟ هل هناك شيء؟»
«“سوجيـهان”.»
نظرتُ إلى الجهة التي يحدق بها “جايها” بوجه متجمد، فإذا بي أرى رجلاً مألوفًا يحدق نحونا.
كان “جيهان”.
التقت نظراتنا للحظة، وقد ظهر عليه الارتباك.
ثم ظهرت “إنيونغ” من خلفه، بعد أن سُمع صوتها الرقيق تناديه.
«أوبا، أين الطاولة؟»
استدرتُ برأسي وكأنني أرفض التصديق.
وفي داخل البار المزدحم بالكامل، رأيت بطاقة “محجوز” على الطاولة المجاورة لنا، كانت الوحيدة.
«هاه.»
«قالوا إنها بجانب النافذة…»
ثم قطعت “سورين” كلامها فجأة حين رأتني جالسة على الطاولة المجاورة.
تركت يد “جيهان” بسرعة وقد بدا عليها الارتباك.
«قل شيئًا، سواء تبريرًا أو توضيحًا، يا “سوجيـهان”.»
كانت عينا “جيهان”، التي اتسعت قليلًا في البداية بسبب الصدمة، تهدأ ببطء.
بل إنه رفع رأسه ونظر إليّ بثبات، بكل وقاحة.
لم يقدّم حتى مجرد توضيح عابر، ولا حتى عذرًا واهيًا.
كدت أن أطلق شتيمة فظة دون أن أدرك.
أحكمت قبضتي بصعوبة كي أتمالك نفسي، وارتسمت على شفتيّ ابتسامة مرتجفة لكبح ارتجاف زاوية فمي.
«أنتم الاثنان، لماذا أنتما معًا؟»
تظاهرت بالجهل وسألت خطيبي الذي كان واقفًا بلا حراك.
ماذا تفعلان هنا؟
رغم الابتسامة التي رسمتها مجاهدةً للحفاظ على رباطة جأشي، كانت نظراتي قد بردت تمامًا.
كنت أعلم مسبقًا من خلال الصور والتقارير، لكن مواجهتهما وجهًا لوجه جعل الأمر أكثر قسوة.
شعور بالخيانة موجّه للرجل الذي كان زوجي، وإهانة تتدفق دون توقف.
على عكس “سورين” التي بدا عليها الارتباك الشديد، لم ينطق خطيبي بكلمة وقد واجهني بوجه خالٍ من أي تعبير.
تذكرتُ بوضوح حين وضع في إصبعي خاتم الزواج، وشعرت بالغثيان.
«أبعد كل ما قلته لي، تأتي إلى فندق؟»
«جئتُ لأتحدث معها على مهل ونحن نشرب كأسًا.»
أخيرًا، وبعد أن ظل صامتًا لفترة، تكلّم “جيهان” وهو يشير بذقنه إلى الطاولة المحجوزة، مكتفيًا بشرح موجز للموقف.
ثم نظر إلى “جايها” الجالس أمامي، وظهر شرخٌ طفيف في نظرته.
«بل أنا من يجب أن يسأل… لماذا أنتِ مع أخي؟»
وهذه المرة، كان هو من وجّه السؤال.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 8"