وقفت في مكاني لوقتٍ طويل بينما كان “جايها” يربت عليّ بهدوء.
وكأنه يفهم تمامًا ما أشعر به، دون أن أضطر لقول أي شيء.
ما إن شعرت بلمسة جايها، حتى بدأ قلبي يهدأ تدريجيًا.
ولعله أدرك أنني كنت أهتم بنظرات “جيهان” و”هوجين” ومن معهم، فقال إنه سينزل إلى صالة العزاء ليستقبل المعزين أولًا.
وأضاف لي أن أهدئ من روعي وأنزل ببطء بعد أن أستعيد توازني.
زفرتُ بهدوء وأنا أنظر إلى صورتي في مرآة الحمام.
كان مكياجي قد تلطخ حول عيني بسبب البكاء، فبدوت في حالة يرثى لها.
“هاه… فوضى حقيقية، فعلًا.”
كنت ممتنة لوجود جايها.
لو لم يكن هنا، لقضيت هذا اليوم غارقة في ألمٍ فظيع.
ما كنت لأتمكن حتى من البكاء كما أريد، ولبقيت أتصنّع التماسك وأكبت دموعي، أحرس صالة العزاء وحدي في عزلة.
كانت لمسة جايها التي تمر بهدوء على ظهري أبلغ من مئة كلمة عزاء.
شعرتُ وكأنه أكثر من يفهم حزني بعمق…
هل كان ذلك لأنه هو أيضًا مرّ بتجربة فقدان أحد أفراد عائلته الأعزاء؟
” حين بدأت مشاعري الحادة تهدأ ، تذكرت ما قاله جايها ذات مرة … أنه فقد والدته فجأة .
كنت قد سمعت أن والدته عانت من مرضٍ طويل.
لكن بسبب “هوجين” الذي أخفى العلاقة غير الشرعية مع السيدة “أوه” بإحكام، لم يُعرف أي شيء عن الأمر للعامة.
فجأة، تولّد لدي فضول تجاه جايها.
لماذا يريد الانتقام من مجموعة “هوجين”؟
أنا لدي دافع واضح للانتقام من “جيهان” و”سيورين”، لكن…
هل يكون دافع جايها هو السيدة “أوه” التي سرقت “هوجين”، و”جيهان”؟
(“سأسأله لاحقًا.”)
ربما أصبح بإمكان جايها الآن أن يخبرني بسبب رغبته في الانتقام.
وفي طريقي للخروج من الحمام متجهة إلى صالة العزاء، اعترض أحدهم طريقي.
رأيت طرف حذاء رجل غريب، فرفعت رأسي ببطء.
“……؟”
كان “جيهان” ينظر إليّ من فوق، لا أعلم منذ متى كان ينتظر هناك.
“ألا يمكننا التحدث قليلًا؟ لدي ما أود قوله لك.”
كان “جيهان” يبدو وكأنه يملك الكثير مما يريد البوح به، وهذا بدا غريبًا.
فلو كان يتصرّف كعادته، لأمسك بمعصمي دون تردد وسحبني، لكن نظراته وهو يحدق بي الآن توحي وكأنه يتحسس ردود فعلي، وهذا ما أثار استغرابي.
“سيو جيهان” يراعي مشاعري؟ لا يُعقل.
(“لم يكن هكذا من قبل.”)
لا أعلم إن كان يحاول مراعاة مشاعري بعد وفاة والدي، أم أن في نفسه شيئًا آخر، لكن هذه التصرفات لا تشبه “جيهان” المتغطرس والأناني الذي أعرفه.
مع ذلك، لم يكن لدي أي نية للدخول في حديث هادئ معه.
بصراحة، كنت أتمنى لو يختفي من صالة العزاء في هذه اللحظة.
“ليس لدي ما أقوله.”
وقد خرجت كلماتي حادّة، إذ كنت طوال اليوم متوترة وحساسة.
استدرت عنه وضغطت زر النزول في المصعد.
هل يظن حقًا أنني في حالة تسمح لي بالحديث الآن؟
تصرفاته الوقحة والأنانية جعلتني أفقد صبري.
وما إن وصلت المصعد وفتحت بابه، وهممت بالدخول، حتى أمسك “جيهان” بمعصمي أخيرًا.
“اتركني.”
“لن يستغرق الأمر طويلًا.”
“لا أريد أن أقابلك ولو لثانية واحدة.”
نزعت يدي من قبضته لم يكن لدي أي طاقة لأعطي هذا الرجل دقيقة واحدة من وقتي.
لكن “جيهان” لم يُبدِ أي نية للتراجع، بل عض شفته السفلى بصمت.
ملامحه، التي عكست حالته النفسية المعقدة، كانت تزعجني.
“عليّ العودة إلى صالة العزاء توقف عن هذا.”
دخلت المصعد، لكن “جيهان” كان يضغط الزر من الخارج، مما منع الباب من الإغلاق.
لم تكن لدي الطاقة أو السعة النفسية للتجادل معه داخل المصعد.
زفرتُ تنهيدة طويلة وأنا أنظر إليه واقفًا أمامي.
(“نعم، لا يمكن أن يكون هذا الشخص قد تغيّر.”)
تصرفاته التي خُيّل إليّ للحظة أنها مراعية، كانت مجرد وهم.
وفي اللحظة التي كنت فيها على وشك تجاوزه بينما لا يزال واقفًا أمام الباب المغلق، قال:
“لم آتِ إلى هنا من أجل أحسن صورتي أمام الآخرين.”
صوته العميق الذي وصل إلى أذني أوقفني في مكاني.
“قد تظنين أنني شخص لا مشاعر له، لكن… حين مددت يدي في غرفة المستشفى، لم يكن بدافع الشفقة.”
“…….”
“لقد فعلت ذلك… لأنك كنت تهمّينني.”
(“ماذا؟”)
كلمات “جيهان” غير المتوقعة جعلتني أستفيق فجأة.
كان يحدق بي بصمت وكأن كلامه نابع من قلبه.
لم أعد أجد حتى ما أسخر به.
هل حصل على شركة “إنتيك” فأصبح لديه فسحة من الوقت؟
ما هذا الجنون الذي يسرده بهدوء تام؟
“الآن ليس وقت أن تهتم بي، أليس كذلك؟”
“……؟”
أليس عليه أن يستعد لمستقبله القريب بدلًا من ذلك؟
ما قاله لم يعد يستحق حتى أن أستمع إليه.
“سأنزل الآن ارفع يدك عن الزر.”
ويبدو أنه قرأ عزيمتي الواضحة على عدم التحدث، فرفع يده عن الزر.
وأُغلقت أبواب المصعد ببطء.
***
كانت صالة العزاء التي يُفترض أن تكون هادئة في هذا الوقت المتأخر من الليل، تملؤها الضوضاء من المدخل.
“ولِمَ عليّ العودة وحدي؟!”
سمعت صوت امرأة حادّ تشتكي، فتوجهت نحوه.
رأيت “جايها” يحدق بشخص ما بوجهٍ متجهم.
ولما شعر بوجودي، نظر ناحيتي للحظة، ثم أعاد التفت إلى الصوت العالي.
“الجميع هنا! الرئيس، نائب الرئيس، السيدة نفسها! بل حتى والد طفلي لا بد أن يكون هنا، فلماذا تطلب مني فقط أن أعود؟!”
شعرت أن الصوت مألوف بشكل ما.
ثم رأيت من بين الناس “سيورين” تتجادل مع مدير الأعمال “كيم”.
“آنسة سيورين، هذا مكان يضم جثمان الفقيد ليس هذا وقت إثارة الضجيج.”
“أين جيهان؟ نادوا والد الطفل! ما هذا الطرد المهين؟”
حينما وقف المدير كيم أمام المدخل مانعاً مرورها، ازدادت سيورين غضباً.
والآن، بدأت أنظار الناس تتوجه إليها شيئاً فشيئاً بسبب صوتها المرتفع وهي تنادي على جيهان.
كيف عرفت بمكان العزاء أصلاً؟
أنا لم أُخبر سيورين بخبر وفاة والديّ.
“أنا أيضاً من المعزين وأنا أيضاً فرد من هذه العائلة! أين السيدة؟”
“آنسة سيورين لا يجب أن تفعلي هذا…”
وضعت يدي على جبيني بسبب الصداع الذي بدأ يضغط على رأسي.
منذ لحظة تأكدي أن سيورين هي سبب هذه الفوضى، بدأ التوتر يغمرني.
هززت رأسي لجايها، الذي بدا وكأنه سيتحرك لتهدئة الوضع، إشارةً مني بألا يتدخل.
لم يكن علينا أن نتدخل لا داعي لذلك.
وأعتقد أن جيهان سيلحق بها قريباً.
ويبدو أنني كنت على حق، إذ اقترب جيهان من جانبها.
وبمجرد أن تأكد أن سيورين هي مصدر الفوضى، تغيرت ملامحه إلى البرود والحدة.
“ما الذي تفعلينه هنا الآن؟”
“أوبا!”
بدا أن وجه سيورين أشرق فجأة كما لو أن من سينقذها قد ظهر أخيراً.
أسرعت إليه لتتشبث بذراعه برقة.
“أين كنت؟ بحثت عنك طويلاً!”
وأثناء حديثها إلى جيهان، لاحظت وجودي خلفه، فعبست قليلاً.
نظراتها المرتبكة تنقلت بيني وبينه وكأنها تتساءل: لماذا أنتما معاً؟
كان من السهل أن ألاحظ ارتباكها وتوترها الشديد.
ربما كانت تشعر بالتهديد لمجرد وجودي، لذا باتت تتصرف على هذا النحو المتوتر.
“سألتك، ما الذي يحدث هنا؟”
“ذاك… المدير كيم ظل يطلب مني أن أعود أنا جئت لأطمئن على أوني ولسنا غرباء، سنكون عائلة واحدة قريباً، أليس من الطبيعي أن أحضر أنا وهوجين”
وبينما كانت ترد على جيهان، واصلت النظر إليّ بطرف عينها، كما لو أنها تتعمد إيصال كلامها إليّ أنا.
عائلة واحدة… متى كنا قريبين كفاية لنُدعى عائلة واحدة؟
حينما التقت عيناها بعيني جيهان اللتين تجمدتا ببرود كالصقيع، ارتعشت قليلاً.
ويبدو أنها أدركت أخيراً أنها بالغت في تصرفها.
ويبدو أيضاً أن الهمسات والضوضاء التي كانت تتصاعد من الخارج أثارت انزعاج كبار العائلة.
فقد خرج كل من رئيس مجلس الإدارة ونائبه من الداخل إلى الخارج.
وعندما رأت سيورين كبار العائلة يخرجون، التفتت إليّ مباشرة.
وقد هدأت تلك العينان اللتان كانت تحدق بي بغضب قبل لحظات، وانخفضت زواياها بخنوع.
ثم نطقت بصوت رقيق تتعمد فيه الحزن:
“أوني، هل أنتِ بخير؟ كنت في البيت حين قرأت الخبر في الصحف، شعرت بصدمة شديدة.”
“……”
“لماذا لم تتصلي بي، أوني…؟ لو فعلتِ، لكنتُ أنا وجيهان هرعنا فوراً ربما لم يتمكن أوبا من إخباري لأنه كان قلقاً من حملي.”
أمسكت سيورين بيدي بكل حنان وعيناها تلمعان بالدموع.
لو رآها شخص لا يعرف حقيقتها، لانخدع بتلك التمثيلية الباكية.
لكن من الواضح أنها بدّلت أسلوبها فور أن رأت كبار العائلة يشاهدون.
تظن أنه بارتداء قناع الملائكة والتمثيل بهذه الطريقة سأخضع لها؟ تظن أنني سأسامحها؟
إن كانت تعتقد ذلك، فهي واهمة.
لست مستعدة للخضوع لأي من هذه المسرحيات الرخيصة.
ابتسمت بسخرية مريرة وأنا أحدق بها.
“سيورين، ألا تظنين أن هناك سبباً وراء عدم اتصالي بك؟”
“سبب…؟”
“تعمّدت عدم إخبارك ، أنتِ بالذات.”
ويبدو أنها لم تتوقع مني مواجهة مباشرة، فارتسمت الدهشة على وجهها.
كنت أعرف تماماً لماذا جاءت إلى هذا المكان رغم أنها لن تشعر بالراحة فيه.
لابد أنها شعرت بالتهميش لأنها لم تكن من بين الحاضرين، فقررت الحضور لإثبات أنها ما زالت تملك مكاناً في هذه العائلة.
لكن ما كان يجب عليكِ المجيء.
لو كنتِ إنسانة حقيقية، لعرفتِ أن هذا ليس مكانكِ.
كيف تجرئين على الحضور إلى جنازة والديّ؟
لأنني رأيت جيداً ما تخفيه من نوايا، ازددت غضباً منها.
“أنتِ لستِ من هذه العائلة.”
عند سماعها الجملة التي لم تكن تريد سماعها، ارتجفت شفتا سورين بقوة.
وبينما كانت تتجمد مكانها، اقتربت منها وهمست بصوت لا يسمعه سواها:
“وفوق كل ذلك، هذا ليس مكاناً تأتي إليه امرأة حامل عليكِ أن تعتني بالجنين، أليس كذلك؟”
“……يون يوجين.”
“إن حدث مكروه للجنين… فلن يكون هناك طريق للعودة بعد الآن لن تصبحي جزءاً من عائلة هوجين أبداً.”
وبعد سماع كلمتي الأخيرة، شحب وجه سورين تماماً.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 79"