عضضت شفتي بقوة.
كنتُ في طريقي لأخذ “جايها” الذي قال إنه سينتهي متأخرًا.
كنت متحمسة لفكرة العودة إلى المنزل معًا، وإنهاء اليوم بتناول العشاء سويًا.
لكن مكالمة هاتفية واحدة غيرت وجهتي.
لم أنسَ صوت “هيونيك” العمّ، المرتجف وهو يخبرني بأن والديّ في حالة حرجة.
قالوا إن أمي بدأت تتحسن بعد أن كانت تدخل وتخرج من العناية المركزة في الأيام الماضية…
«كلاهما في حالة حرجة…؟»
لا أعرف بأي عقل وصلت إلى المستشفى.
وعندما وصلت أخيرًا إلى أمام غرفة والديّ، كان العم يقف هناك بوجهٍ كئيب.
“يوجين…”
صوته المرتعش وهو يناديني باسمي.
داخل الغرفة، كانت أجهزة إزالة الرجفان وسائر المعدات الطبية متناثرة ومضطربة.
كانت تُظهر بوضوح مدى خطورة الوضع قبل أن أصل.
«لا… لا يمكن أن يرحلا هكذا…»
لكن منظر الغرفة أعاد إليّ شعورًا مألوفًا، وكأنني مررت بهذا من قبل.
حاولت التماسك رغم الهواجس، لكن شعور القلق لم يزد إلا تضخمًا.
تجاوزتُ العم، الذي كان ينظر إليّ بعينين تملؤهما الشفقة، ودخلت الغرفة.
وكلما اقتربت من حيث يرقد والديّ، خفق قلبي وكأنه سينفجر.
الطاقم الطبي الذي كان يعيق طريقي تنحى جانبًا، وكأنهم يعرفون من أنا.
وفي اللحظة التي رأيت فيها السرير بين الناس، انهارت قواي وسقطت جاثية.
فقد رأيت القماش الأبيض الذي يغطي وجهي والديّ.
“الدكتور كيم” الذي وصل متأخرًا، اقترب مني بوجهٍ كئيب.
كان هو من أخبرني أمس أنني ربما عليّ الاستعداد نفسيًا، بسبب النزيف الدماغي.
لكن أن يرحلا معًا هكذا… هذا لا يُعقل…
كنت أنوي المجيء مع السيد “جايها”…
“كما كنتِ تعلمين، لقد تدهورت حالتهما فجأة…”
وعند سماع إعلان الدكتور كيم، أصبحت الدنيا من حولي بيضاء تمامًا.
مهما قال، لم أعد أسمع شيئًا سوى صوت طنينٍ يملأ أذنيّ.
“آنسة…”
ناداني الدكتور كيم مرة أخرى.
«هاه…»
لكن شيئًا ما بدا وكأنه يعترض حلقي، فلم أستطع أن أنطق بكلمة.
عضضت شفتي بإحكام كي أقاوم الدموع التي كانت تغمرني قسرًا.
«لم أتمكن حتى من حضور لحظة وفاتهما مجددًا…»
قلبي تمزّق لأنني لم أستطع البقاء بجانب والديّ بعد عودتي.
ثم سمعت وقع خطوات مضطربة، وكان رئيس مجلس الإدارة ونائبه يقتربان.
“دكتور كيم! ما الذي يحدث هنا؟”
شعرت بنظرات رئيس مجلس الإدارة موجهة إليّ، لكن لم يكن لدي الوقت للتفكير بها.
عقلي بدأ يفقد توازنه، ولم أعد أستوعب نظرات الناس.
ثم فقد الرئيس كلماته عندما رأى والديّ يُنقلان إلى غرفة التشييع.
كان الدكتور كيم يقترب من الرئيس ليشرح له الوضع على ما يبدو.
«ماذا أفعل الآن…؟»
عقلي كان مكتظًا بالأفكار، يكاد ينفجر.
وفي خضم هذا الظلام، عندما أغمضت عيني بقوة، اخترق أذني صوتٌ مألوف.
“هيا، انهضي.”
رغم أذنيّ المُثقَلتين، إلا أن صوته وصلني بوضوح.
فتحتُ عيني ببطء، فرأيت “جيهان” واقفًا يمدّ يده إليّ.
كنت أتمنى لو أنه مرّ من دون أن يلاحظني.
لم أرد أن أبدو ضعيفة، لذا قاومت دموعي بكل قوتي.
رغم الضوضاء حولي، كان صوته واضحًا تمامًا.
لماذا أشعر بعدم الارتياح تجاه هذا الرجل؟
أعلم أن موت والديّ ليس خطأه…
لكنني شعرت وكأن عودتي إلى الماضي، ومروري بموت والديّ مجددًا، بسببه.
“الجميع يراقب.”
عندما لم أتحرك، وضع يده على كتفي.
“تمسكي بيدي وانهضي لا تملكين القوة للنهوض وحدك.”
بينما أحدّق فيه، بدأ عقلي المتشتت يستعيد وعيه تدريجيًا.
“……لا داعي.”
أتظن أنني سأمسك بتلك اليد؟
دفعت يده الممدودة إليّ بحدة.
بسبب صوت الدفع الذي كان أعلى مما توقعت، نظر بعض أفراد الطاقم الطبي إلينا.
رغم أنني بالكاد أستطيع الوقوف، لم أرغب بأن أُظهر ضعفًا أمام هذا الرجل.
اقترب “العم هيونيك” وساعدني على النهوض.
سحب “جيهان” يده التي كان قد مدّها، بوجهٍ ازداد قتامة.
لماذا أتيت إلى هنا؟
لم أتوقع أن “جيهان” سيأتي إلى هذا المكان.
ربما كان مع الرئيس ونائبه حين وصلهما خبر الوفاة.
كان من الأفضل ألا يأتي أصلًا.
كل ما أردته هو أن أختبئ في مكان لا يراني فيه أحد.
وحين هممت بالخروج من الغرفة، أمسك “جيهان” فجأة بمعصمي.
“إلى أين تذهبين؟”
“إلى أي مكان أذهب، ليس من شأنك يا سيّد سو جيهان.”
“ماذا؟”
عندما قلت ذلك بنبرة مليئة بالحدة، تجهم وجهه فجأة.
عندما توفي جدّي، لم يحضر حتى مراسم الوداع لأنه كان مع “سورين”.
والآن يأتي ليُظهر شفقة كاذبة… هذا يجعلني أختنق.
حين كنت وحدي في حياتي السابقة، ليتك نظرت إليّ بتلك النظرة.
ليس الآن…
لم تعد تملك حتى حق شفقتك عليّ.
“لا حاجة لشفقتك التافهة.”
“شفقة؟ أنا فقط قلِقتُ علي—”
“كفى.”
قاطعته، إذ لم أرغب في سماع المزيد.
أن أسمع كلمة “قلق” تخرج من فمك… لا أصدق.
“أظنك أتيت لتحسين صورتك العامة، لكنني منزعجة إن كنت قلتَ كل ما لديك، فرجاءً غادر في أسرع وقت.”
الأمر واضح.
لقد أتيت فقط لتستعيد صورتك كوريث بعد أن تدهورت إثر الخلاف مع أخيك حول صفقة “إنتيك” وفسخ الخطوبة.
نظرت إليه ببرود، وتجاوزته.
وفي الممر، سألت “العم هيونيك” الذي كان يتبعني:
“عمي، أين مكان العزاء؟”
بكل صدق، أردت فقط أن أحتضن والديّ وأبكي بكاءً مريرًا.
في مواجهة موت والديّ، ما أهمية نظرات الناس؟
لكنني تماسكت بقوة لأنني لم أرد أن أُظهر ضعفًا أمام “جيهان”.
أحسنتِ، لا بأس…
رغم أنني حاولت أن أبدو طبيعية، لم أستطع إخفاء ارتجاف صوتي.
منذ لحظة التخلي عن خيار العملية، كنت أحاول تحضير نفسي نفسيًا…
لكن عندما أتى ذلك اليوم، كان من الصعب عليّ تقبّل موت والديّ.
أكثر مما تخيلت…
“لا ، يجب أولًا إبلاغ مجلس الإدارة.”
“……”
“أرجوك، راقب السيد سو جيهان عن كثب.”
حتى دون أن ألتفت، شعرت بنظراته الحارقة تلاحقني.
لعله كان يُنصت لحديثي مع العم.
رغم أن ساقي كانت ترتجف بشدة، قاومت كي أمشي باستقامة.
فقط كي لا أبدو ضعيفة أمام “جيهان”.
“عمي؟”
لاحظت أن العم لم يعد بجانبي.
كان قد توقف عن المشي، واكتفى بالنظر إليّ بصمت.
“يوجين، سأهتم بكامل إجراءات الجنازة، فلا تقلقي وكذلك أمور المجموعة.”
عندما وقعت عيناي على نظراته الحنونة، تفجّرت الدموع التي كنت أحبسها.
رغم أنه يعلم أنني أتظاهر بالقوة أمام “جيهان”، كان ينظر إليّ بقلق صادق يتجاوز هموم شركة “دبليو”.
نظرت إليه، وعلقت الكلمات في حلقي.
“……إذن، أرجو أن تتولى الأمر.”
***
كان في المستشفى صالة مخصصة للجنازات، ولهذا تم إعداد بيت العزاء بسرعة.
وكان ذلك بفضل عمّي هيونيك، الذي ساعدني في إجراءات الجنازة نيابة عني وأنا في حالٍ من الذهول.
لمّا رأيت بيت العزاء وقد تم ترتيبه، خرجت من باب الطوارئ بحجة أن لدي مكاناً أذهب إليه.
وما إن وصلت إلى الدرج، حتى خارت قواي وسقطت جالسةً في مكاني.
“هاه……”
منذ اللحظة التي دخل فيها جيهان غرفة المرضى وحتى لحظة تجهيز بيت العزاء، لم أتمكن من إرخاء توتري ولو لثانية.
كنت خائفة من أن يستغل لحظة غفلتي ليسحبني إلى الأسفل بطريقةٍ ما.
وحين تُركت وحدي، انهارت رباطة جأشي التي كنت أتمسك بها بالكاد.
كان رأسي مزدحمًا بالأفكار المتشابكة والمعقدة.
من المؤكد أن مجلس الإدارة سيتحرك بعد سماعه بخبر وفاة والديّ.
لم أتوقع أبداً أن يحدث هذا قبل أن أُنهي صفقة “إنتِك”.
“ما الذي…… يُفترض بي أن أفعله بعد أن ترحلوا هكذا؟ كيف ترحلان معًا بهذه البساطة؟”
أحسست بسخونة في عيني.
لم تكن هذه المرة الأولى التي أودع فيها أحدًا، ومع ذلك، اجتاحتني مشاعر فقدٍ أكبر من أي مرةٍ سابقة، مع شكوكٍ متزايدة في كل شيء.
في حياتي السابقة، حين توفي والديّ، بكيت كأنني فقدت العالم كله.
أما الآن، فلا أستطيع حتى أن أُظهر ضعفي.
لأني لا أريد أن أبدو هشّة، أصبحت جبانة حتى عن تقبّل حزني.
“كان عليّ أن أبقى بجانبهما…… لقد كنت عمياء بسبب رغبتي في الانتقام…… أنا……”
كان والدَيّ يصارعان للبقاء على قيد الحياة، وكانا في حالة حرجة منذ وقتٍ طويل.
كنت أعلم ذلك، لكنني كنت منشغلة فقط بالانتقام.
أخذت شائعات الناس عني، تلك التي تقول إنني أتجاهل والديّ المريضين من أجل عملي، تتردد في رأسي.
وربما…… ربما كانوا على حق.
ربما لو لم أكن مهووسة بالانتقام، ولو بقيت بجانبهما، لما رحلا.
مجرد التفكير بذلك كان كافيًا ليسحقني تحت وطأة الشعور بالذنب.
كانا دائماً يعتنيان بي بحنان باعتباري ابنتهما الوحيدة.
حتى عندما أصريت على أن أكون مذيعة بدلاً من تولّي إدارة المجموعة، احترما قراري في النهاية.
كنت أظن أنهما سيظلان إلى جانبي إلى الأبد.
لمَ أنا غبية هكذا؟
حالتي، وأنا لا أستطيع حتى أن أحزن بحرية على رحيل والديّ، كانت تدعو للأسى والشفقة.
أنا… الابنة الوحيدة لهذين الشخصين، ولا أستحق حتى هذه المكانة.
“غبية… حمقاء… حمقاء…”
دفنت وجهي بين ركبتيّ، غارقة في شعورٍ ساحق بالذنب.
ظننت أن الهروب إلى مكان لا يوجد فيه أحد، سيسمح لي بالبكاء براحة.
لكن حتى البكاء شعرت أنني لا أستحقه.
بدأت أُوبّخ نفسي بأنني لا أستحق حتى الندم، فجفّت الدموع التي كانت تملأ عينيّ.
تبق تبق.
سمعت صوت خطوات تصعد من الطابق السفلي.
هل يكون سو جيهان؟ أو ربما شخص آخر قد يعرفني.
وقفت بسرعة، ومررت كفيّ على وجهي لأزيل أي أثر للدموع.
كنت أفكّر أن أغادر المكان قبل أن يراني أحد وأنا بهذا الشكل الفوضوي، وفجأة…
“كنت أبحث عنكِ طويلاً.”
صوت مألوف تردد في أذني.
وحين استدرت، كان أمامي جايها، الذي اشتقت لرؤيته بشدة، والذي كنت أحتاجه أكثر من أي وقت مضى.
هاه…
كل لحظة التردد والقلق التي مرّت كانت عبثية أمام شعور الطمأنينة الغامر الذي غمرني برؤيته.
ما هذا…… كيف تجرؤ على الظهور هكذا فجأة……؟
كنت على وشك الانهيار تماماً.
كان يبدو عليه الإرهاق من الركض باحثًا عني، إذ كان يتنفس بصعوبة.
وقف أسفل الدرج يتأملني بصمت، وعلى وجهه لمحة حزنٍ لرؤيتي وحيدة.
ثم، من دون أن يقول شيئًا، فتح ذراعيه كما لو أنه يقول: تعالي.
لم أتردّد، كنت سأركض إليه فوراً.
لكن ما إن خطوت أول خطوة حتى تداخلت ملامح وجهه مع صورة والديّ.
هل يحق لي…… أن أُلقي بنفسي في أحضانه؟
شعرت أنني لا أستحق حتى أن أتلقى مواساته.
ترددت، وتوقفت بلا وعي.
وحين لاحظ ترددي، ابتسم لي ابتسامة خافتة، كأنه يقول: تعالي، لا بأس.
……لا. أنا بحاجة إلى هذا الشخص.
حين رأيت تلك الابتسامة على وجهه، لم أحتج للتفكير.
أسرعتُ إليه، وارتميتُ في حضنه.
رفع يديه، وضمّ وجهي بين كفّيه بلطف.
كان وجهه ملتويًا بالألم وهو ينظر إليّ.
أنا من فقدت والديّ، فلمَ يبدو هو أكثر تألمًا مني؟
وبعد صمتٍ طويل، سمعته يقول:
“لن يأتي أحد.”
عبارة قصيرة، لكنها أثقلت قلبي بالحزن.
كأنه يقول لي: “لن يأتي أحد، لذا ابكي بارتياح.”
ضمّني إلى صدره بإحكام، كأنه يريد أن يحميني من كل شيء.
حين أحسست بدفء جسده، انفجرت دموعي التي كنت أحبسها.
“لماذا تأخرت؟ أنا…… كنت خائفة جدًّا خِك……”
حاولت أن أدفعه بعيداً، لكنه بدأ يمسح على ظهري برفق، كأنه يعلم كل شيء.
حتى عمّي هيونيك، وحتى الدكتور كيم، حاولوا مواساتي، لكن كلماتهم لم تكن كافية.
ملاذي الوحيد.
فقط في حضنه، استطعت أن أعود إلى ذاتي الحقيقية.
“أنا آسفة لقد تأخرت كثيراً، أليس كذلك؟”
“……”
“أحسنتِ ، لقد صمدتِ وحدكِ جيداً.”
تلك الجملة وحدها كانت كافية لتحلّ عقدة التوتر التي كانت تخنقني.
ثم، ظللتُ أبكي طويلاً في حضنه، بلا توقف.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 78"