“ماذا أفعل؟ التوقيت الآن مناسب جدًا…”
سورين كانت تقضم أظافرها وتمشي وذهابًا وإيابًا في غرفة المعيشة.
ثم خطرت ببالها صورة يوجين وهي تبتسم بسعادة في حفل الزفاف، فعضّت شفتيها بأسنانها العليا.
في الزفاف، تلاقت أعينهما بدقة.
ولم تكن نظرات يوجين العاتبة، التي كانت مليئة بالازدراء، شيئًا يمكن نسيانه رغم مرور يوم كامل.
ولم يكن ذلك كل شيء.
“سأذهب أولًا.”
حدق جيهان طويلًا في يوجين، ثم غادر قاعة الزفاف أولًا.
ولم يسألها حتى السؤال المعتاد إن كانت ستغادر معه.
نظراته الحائرة وهو يحدّق في خطيبته السابقة…
في تلك العينين، كانت تتشابك آلاف المشاعر.
(‘أمره يثير قلقي ، يقلقني لدرجة أني أكاد أجن!’)
رغم أنها انتقلت للعيش في منزل جيهان كما أرادت، إلا أنها بالكاد تراه إلا في لحظات الذهاب والإياب من وإلى العمل.
صحيح أن المسافة الجسدية أصبحت أقرب، لكن شعورها بأن المسافة بين قلبيهما تزداد يومًا بعد يوم كان يثقل صدرها.
وبكثرة ما فكّرت، بدأت تظن أن السبب في هذا التباعد هو يوجين.
ومع تدفّق الأفكار كما يندفع الماء من السد، مرّرت سورين أصابعها بشعرها بغيظ.
(‘هل يهتم لأمر يوجين؟ هل بدأ يشعر بشيء تجاهها بعد أن فسخا خطوبتهما؟’)
لا، هذا مستحيل، لا يمكن أن يكون…
إذًا، ما السبب بالضبط؟
ذهبت سيرين تقضم أظافرها بعصبية وقلق.
وأثناء انغماسها في التفكير، نظرت نحو الحاسوب المحمول المفتوح على الطاولة.
“لست أنا السيئة هنا كل ما في الأمر أنني أحاول حماية ما هو لي، أليس كذلك؟”
كان هناك موقع إلكتروني مفتوح في نافذة الإنترنت، وهو الموقع الذي كانت سورين تتابعه.
(‘أي شخص لو كان في موقفي، كان سيفعل الشيء نفسه…!’)
نعم، كل هذا بسبب جيهان، الذي جعلها تشعر بعدم الأمان ودفعها إلى هذا الموقف.
بدت سورين وكأنها عزمت أمرها فجأة، فجلست على الكرسي أمام الطاولة.
ثم، دون تردد، أمسكت بالهاتف الموضوع فوق الطاولة وأجرت اتصالًا هاتفيًا.
وبعد رنين قصير، سُمع صوت غريب من الطرف الآخر، فسألت سورين:
“هل يمكن التركيب فورًا؟”
سألت مباشرة دون مقدمات، وبدأ الطرف الآخر بشرح طويل.
لكن سورين قاطعت الكلام في المنتصف وسألت:
“لا داعي للشرح سأركّبها في منزلي سأدفع ما يلزم، لذا أرجو أن تتم العملية بسرعة.”
ثم، وكأنها تذكرت شيئًا فجأة، خفّضت صوتها وأضافت:
“ويجب أن تأتوا دون أن يلاحظكم أحد هذا ضروري.”
***
نظرات جيهان الحادة التي صوّبها نحوي في الزفاف ما زالت حاضرة في ذهني.
نظرة امتلأت بالخيانة، والغضب، والتوتر… اختلطت مشاعره لدرجة أن ملامحه بدت مشوهة.
“أكره هذه النظرة ، نظرة تمقتني!”
“كل هذا القسوة فقط لأني خنتك قبل الزواج؟! هذا عقاب قاسٍ جدًا، بحقك!”
كان جيهان يصرخ بتلك الكلمات غاضبًا.
لكن، هو لا يعرف لا يعرف لماذا أكنّ له كل هذا الحقد.
(‘لأني متّ على يدك ثم عدت للحياة بالكاد.’)
فكرت بالمسار الطويل حتى هذا الزفاف، فارتسمت على شفتيّ ابتسامة ساخرة.
كان زفافًا فاخرًا، لكنه معقّد ومليء بتشابكات المصالح والعلاقات.
بينما كنت سارحة في أفكاري، سمعت صوت جايها يعيدني إلى الواقع.
“في ماذا تفكرين هكذا؟”
وعندما استدرت، رأيت جايها يقترب نحوي، وقد عاد من السكن ليحضر شيئًا.
“فقط استعدت بعض الذكريات ماذا ذهبت لتحضر؟”
“شامبانيا فكرت أن نشربها ونحن ننظر إلى البحر.”
حرّك جايها الكأسين في يده بخفة، ثم قدّم لي أحدهما.
كانت أضواء ممشى الشاطئ تتلألأ على امتداد البحر المظلم تمامًا.
ورغم أن الوقت كان متأخرًا، لم يكن هناك أحد على الشاطئ سوانا.
“كنت أفكر في الشرب أصلًا لكن الشاطئ خالٍ تمامًا، ألسنا وحدنا هنا؟”
“لأن الوقت متأخر سمعت أن هناك حفلة عند المسبح الليلة الدي جي مشهور، على ما يبدو.”
أومأت برأسي حين تذكرت أنني رأيت منشورًا عن حفلة فقاعات.
وهي حفلة مشهورة تنظّمها إدارة الفندق، لذا لم أستغرب.
مشيت مع جايها على طول الممشى، ثم غمست قدمي في مياه البحر.
كانت المياه المنسابة باردة لدرجة تشعر بالألم، والنسيم المحمّل برائحة البحر المالحة دغدغ أنفي.
“منعشة جدًا! ألا تريد أن تدخل الماء؟”
سألته وأنا ألتفت إليه، فإذا به قد اقترب مني كثيرًا دون أن أشعر.
“آه، آه!”
تعثرت وكدت أسقط إلى الوراء، لكنه مدّ يده الكبيرة وأحاط خصري.
انتشرت رائحة جايها بقوة، وكان الآن أقرب إليّ من أي وقت مضى.
“ستسكبينها مجددًا.”
“لا، ليس هذه المرة شربت كل شيء بالفعل.”
قلبت كأس الشامبانيا الفارغة لأريه أنها خالية تمامًا.
أثناء المشي، كنت أحتسيها شيئًا فشيئًا حتى نفدت بسرعة.
ثم، فجأة، أدركت أن جايها كان قريبًا جدًا.
لدرجة أن أنفاسه كانت تلامس وجهي كلما تكلّم.
“جايها، يمكنك أن تتركني الآن هل رأيت البحر؟”
مددت يدي وأشرت إلى البحر في محاولة لتغيير الأجواء.
“أليس جميلًا جدًا؟”
ربما شعر بنيّتي فابتسم ابتسامة غامضة.
ثم أجاب دون أن ينظر إلى حيث أشرت:
“لكن من أمامي الآن أجمل بكثير.”
“توقف عن المزاح.”
لكن نظرات جايها المازحة بدأت تتعمّق، فحاولت إبعاد يده عن خصري.
كلما نظر إليّ بتلك النظرات المشاكسة، كان الجو يتحول بسرعة إلى لحظات مشحونة.
وكنت أعلم أنني كلما تبادلت معه النظرات، سيصعب عليّ التملص أكثر.
لكن، كلما حاولت الابتعاد، زاد جايها من إحكام ذراعيه حولي، معلنًا أنه لا ينوي تركي.
“أنا لا أمزح.”
“عينيك تقولان عكس ذلك ثم إن لمستك تثير الحكة، هل يمكن أن تترك يديك؟”
وحين طلبت منه أن يتركني، هزّ رأسه بنظرة ماكرة:
“أنا مرتاح هكذا.”
“أما أنا، فأشعر بالضيق والانزعاج.”
في العادة، لم أكن لأتحدث بهذه اللهجة القاسية.
لكن عندما رأيت أنه لا ينوي تركي، خرجت الكلمات من فمي بعكس ما أشعر.
ربما لاحظ جايها ذلك، فبدت نظراته أكثر حدة وتركيزًا.
“أنت دومًا تقولين العكس.”
“العكس؟”
“حتى الآن، قلت إنكِ منزعجة بلا سبب، أليس كذلك؟”
هل يقرأ أفكاري؟ شعرت وكأن كل ما بداخلي مكشوف أمامه، فاحمرّ وجهي.
فنظر إليّ وابتسم ابتسامة غامضة.
“أنا أفضل صراحتك.”
صراحة؟ متى كنت صريحة من قبل…؟
“لماذا أنت صريح إلى هذا الحد الليلة؟ تجعل الأمر صعبًا عليّ.”
وفجأة، تسللت إلى ذهني ذكرى مشوشة.
تلك الليلة التي شربت فيها وحيدة على الأريكة وغفوت حتى الصباح.
وقتها، كنت متهورة ولم أخفِ مشاعري.
(‘أفكر بهذا مجددًا…’)
ظننت أنني كنت مخطئة تحت تأثير الكحول.
لكن، ما إن بدأت أشك، حتى بدأت أسترجع المواقف الغريبة واحدة تلو الأخرى.
نظرة جايها لي حين قلت إني لا أتذكر شيئًا في الصباح، وتلك الجملة الغريبة التي قالها…
(‘إن لم يكن حلمًا، فماذا يعني ذلك…؟ ما الذي فعلته بالضبط؟’)
كان الوضع مزعجًا بدرجة لا يمكن تجاهلها باعتباره مجرّد وهم.
“لديّ سؤال أود طرحه.”
“فجأة؟”
كان لا يزال واقفًا ملتصقًا بي، يهزّ رأسه كما لو كان يقول: “اسألي ما تشائين.”
فتحت فمي لأتحدث، لكنني لم أفعل سوى تحريك شفتيّ بلا صوت، لأني لم أكن واثقة إن كان ينبغي لي طرح هذا السؤال.
ألن أندم إن سألت؟
ارتسمت لمحة من الحيرة على وجه “جايها” وهو يحدق فيّ كمن يحاول فهم ما يدور في ذهني.
“لمَ كل هذا التردد في السؤال؟”
“الواقع أن… سؤالي محرج جدًا، كنت أفكر في عدم طرحه.”
وحين حاولت قول ما في داخلي، شعرت بالحرج فحرّفت وجهي عنه.
“أقصد… عن تلك الليلة…”
“تلك الليلة؟ بالكلام بهذه الطريقة، لا أفهم شيئًا.”
قطّب حاجبيه بسبب غموض عبارتي، ثم حاول أن يلتقي بعينيّ أكثر فأكثر.
كنت أعلم أننا سنظل هكذا طوال الليل إن لم أبادر، فترددت قليلًا ثم نطقت:
“رأيت شيئًا ما… لا أعلم، لا يفارق ذهني. تلك الليلة… هل ما حدث حقيقي؟”
“……؟”
صمت “جايها” للحظة، ثم، وكأنه أدرك أخيرًا ما أعنيه، ارتسمت على شفتيه ابتسامة مائلة.
“كنت أتساءل ما الذي ستسألين عنه بكل هذا التردد… نعم، صحيح ما حدث كان حقيقيًا.”
“م-ماذا؟ تقصد أن ما حصل تلك الليلة…؟ ظننت أنني كنت ثملة… خُيّل إليّ أنه كان حلمًا…”
“تلك الليلة؟ انتظري لحظة.”
رفع “جايها” يده في وجهي، يبدو عليه الارتباك.
‘ما الأمر؟ لماذا يبدو وكأننا نتحدث عن شيئين مختلفين تمامًا؟’
وبدا لي أنه لم يكن وحدي من شعر بالتشويش.
“هاه… ظننت أنك تغارين فقط أو شيء من هذا القبيل.”
“أغار؟”
همس بصوت يشوبه الخيبة.
أربكني استخدامه لكلمة “غيرة” في هذا السياق الغريب تمامًا.
“ظننتك تقصدين مقطع المقابلة، لكن يبدو أننا كنا نتحدث عن شيئين مختلفين تمامًا.”
“……”
“إن كنتِ تقصدين ما حدث تلك الليلة، الليلة التي فقدتِ فيها ذاكرتك بعد أن أسرفتِ في الشرب…”
رسم قوسًا على شفتيه وهو يجذبني إليه.
اقترب أكثر من أي وقت مضى، ثم رمقني بنظرات حادة وهو يتابع:
“نعم لم يكن حلمًا.”
“هذا لا يُصدَّق… تقول إنه لم يكن حلمًا؟”
حدّقت فيه مشدوهة، عاجزة حتى عن إغلاق فمي.
قوله إن الأمر لم يكن حلمًا جعل قلبي يخفق بجنون.
هذا جنون!
تداعت إلى ذهني بعض الصور الباهتة مما جرى، فاحمرّ وجهي كمن شبّت فيه النار.
شعرت أن وجهي سينفجر، فسحبت يدي من قبضته.
“لكن ألم تقل إنك جئت في الصباح؟!”
“قلت ذلك لأنك لم تتذكري شيئًا فقط سايرتك في كلامك.”
“وكنت قد صدّقتك!”
شعرت بخيبة أمل مريرة.
“هل ترغبين في أن أخبرك بما حدث فعلًا تلك الليلة؟”
“لا! لا داعي لذلك!”
لم أرغب في ذلك إطلاقًا.
حتى الذكريات المبعثرة التي لدي تكفيني لأشعر بهذا الإحراج لا أريد أن أتذكر أكثر.
لم أفكر سوى في الهروب من هذا الموقف المربك.
وحين حاولت التملص منه، شدّ خصري أكثر فأكثر حتى لا أستطيع الحركة.
“لماذا؟”
لماذا؟ وكأنه لا يعرف جيدًا ما حدث.
“هل تخافين أن تكون هناك أشياء لا ينبغي تذكرها؟”
سألني بابتسامة خبيثة مرتسمة على وجهه.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 70"