كان يبدو أنه يتجه إلى مكانٍ ما، لكنه لم يذكر أي شيء عن الوجهة.
إلى أين نحن ذاهبون؟
وبعد وقت طويل، لمحت مستشفى “داجين” يقترب تدريجيًا، وعندها فقط أدركت وجهتنا.
ما هذا؟ المستشفى الذي يرقد فيه والداي؟
“لو كنتَ تنوي المجيء إلى المستشفى، لقلت لي مسبقًا.”
لا اعلم إن كان قد سمع همستي، لكن شفتي “جايها” ارتسمت عليهما ابتسامة رقيقة.
…
تحدث الدكتور “كيم” بإيجاز عن حالة والديَّ ثم غادر غرفة المرضى.
رأيت أمامي ملامحهما التي لم تتغير.
لم يتحسن وضعهما، ولم يسُؤ أيضًا.
وعندما سألته إن كانت هناك إمكانية للتعافي، لم يستطع سوى أن يهز رأسه نافيًا، بعجز.
ربما كان مجرد بقائهما على قيد الحياة حتى الآن بحد ذاته معجزة.
ففي حياتي السابقة، لم يمر وقت طويل على وفاة جدي حتى لحق به والدَي.
أن يكونا على قيد الحياة وهما بالكاد يتنفسان… وتُسمى هذه أفضل حالة ممكنة؟
كيف يمكن أن يكون هذا هو الأفضل؟
ومع ذلك، لم يكن أمامي إلا أن أشعر بالامتنان لوجودهما بجانبي على هذا النحو.
تذكرت حينها اقتراح الدكتور بأن هناك احتمالًا ضئيلًا للنجاح في إجراء عملية جراحية.
لكن لم يكن بمقدوري المخاطرة بحياة والديَّ من أجل فرصة لا تختلف عن المقامرة.
“أنا آسفة… لستُ مستعدة بعد لأودّعكم أمي وأبي…”
ربما كان هذا مجرد نوع من الأنانية، خوفي من أن أبقى وحدي.
أنانية ابنة ضعيفة لا تستطيع إلا أن تتشبث بوالديها حتى بهذا الشكل.
كنت أحدّق في يدي المرتجفتين وأشد قبضتي عندما—
دررررك—
سمعت صوت فتح الباب، وعاد “جايها” بعد أن كان قد غادر الغرفة قليلًا.
كان يحمل مزهرية فيها زهور، لا أعلم متى اشتراها.
متى أعدّ هذا؟
وضع المزهرية على الطاولة بين سريري والدي.
في تلك اللحظة، رأيت مظهره الأنيق ببدلته الرسمية التي ارتداها منذ الصباح الباكر.
كنت أتساءل إلى أين كان ينوي الذهاب مرتديًا ذلك، واتضح أنه ارتدى ذلك لرؤية والدي.
“لو أنك أخبرتني إلى أين سنذهب، لعرفتُ ما الذي يجب أن أرتديه.”
قال لي بينما كنت واقفة أمام غرفة الملابس أفكر في ما ألبسه.
“آه، فقط ارتدي شيئًا أنيقًا نحن ذاهبون لرؤية أكثر من أكن لأجلهم الاحترام في هذا العالم.”
لم أتوقع أن أولئك الذين تحدث عنهم بإجلال كانوا والديَّ.
كنت مشغولة بالتحضيرات المفاجئة للزفاف، فلم يخطر ببالي أن آتي معهم لرؤيتهم.
كنت أنوي أن آتي وحدي…
في الفترة الأخيرة، بدا “جايها” مشغولًا أيضًا، ففكرت أنني سأزورهم وحدي.
لكن لم يخطر ببالي أنه سيأتي بنفسه إلى المستشفى.
في حياتي السابقة، حتى “جيهان” لم يأتِ معي إلى المستشفى قبل الزواج.
حتى زوجي حينها لم يفعل ذلك.
لكنه، على ما يبدو، لم يكن يخطط فقط لزيارة المرضى.
بعد أن وضع المزهرية، اقترب مني “جايها”، الذي كنت أقف على مسافة بعيدة أراقبه.
ثم أمسك بيدي وسار بي إلى جانب سرير والدي.
“سيدي، سيدتي… لقد زرتكما عدة مرات، لكن لم أعرّف عن نفسي رسميًا أنا سو جايها.”
“……”
“لقد حددنا موعد زفافنا سيكون في نهاية هذا الشهر، بل في الأسبوع المقبل لذا جئت لأعرّف عن نفسي رسميًا وإن تأخرتُ في ذلك، فأرجو المعذرة…”
نظرت إليه بدهشة من كلماته التي لم أكن أتوقعها.
ورغم أنه شعر بنظراتي، إلا أنه تابع حديثه بأدب تجاه والدي.
“أعلم كم كنتم قلقين من أن تبقى ابنتكم الوحيدة في هذا العالم بعد وفاة رئيس ‘يون’.
الدكتور ‘كيم’ قال إن وقتكما محدود… وربما ما يجعلكما تصمدان هكذا هو القلق على ‘يوجين’.”
يبدو أنه سمع من الطبيب عن أن والدي لن يصمدا طويلًا ما لم تُجرَ العملية.
وربما شعر أيضًا بما أعانيه من شعور بالذنب تجاههما…
“لن تكون ‘يوجين’ وحدها سأكون معها لذا أرجوكم، لا تقلقوا عليها.”
امتلأ صدري بشعور خانق.
ربما شعر “جايها” بارتجاف يدي المشبوكة في يده، فالتفت ناظرًا إليّ.
ثم شدّ قبضته حول يدي أكثر، حتى لا أستمر في الارتجاف.
“وأخيرًا، شكرًا لأنكم ربيتم هذه الفتاة بهذا الجمال وهذه الاستقامة.”
ذلك الرجل، الذي لا يخضع لأحد، ينحني بكل توقير أمام والدي.
امتلأ صدري بثقل لا يوصف من كلماته الجادة والمفعمة بالاحترام.
شعور يصعب وصفه بالكلمات ارتفع إلى حلقي، حتى عجزت عن الكلام.
لم أكن أتوقع أن يفعل كل هذا…
“يوجين، ألقي تحية أيضًا.”
وفور أن التقت عيناي بعيني “جايها”، اغرورقت عيناي بالدموع.
كانت عيناه تنظران إليّ بلطف ودفء يفوق أي نظرة رأيتها في حياتي.
شعرت بصدق مشاعره، ولعل ذلك ما جعل شكوكي تجاه الانتقام تتزايد من جديد.
لم أعد أعلم بعد الآن… هل ما أفعله هو الصواب؟
ربما كنت أرفض هذا الشعور من قبل لأنني خشيت أن أضعف.
لماذا عدت إلى تلك اللحظة، إلى لحظة الموت؟
هل عدت فقط من أجل الانتقام؟ أم أن هناك معنى آخر؟
ماذا لو أنني، عندما استيقظت في قاعة الزفاف، اتصلت بوالدي بدلًا من البحث عن “جيهان”،
هل كنت أنقذت عائلتي؟
ولو أنني تخلّيت عن الانتقام، كيف كان سيكون شكل حياتي الآن؟
توالت عليّ تساؤلات لا حصر لها أربكت أفكاري تمامًا.
شعرت بأنفي يلسع من البكاء، وكأن دموعي ستنهمر في أي لحظة.
“سأخرج قليلًا خذي وقتك في إلقاء التحية.”
ناولني “جايها” منديلاً بينما كنت أبحث عن مناديل، وغادر الغرفة.
ربما قصد أن يتركني وحدي بعدما لاحظ احمرار عينيّ.
مسحت دموعي بالمنديل الذي ناولني إياه، ثم اقتربت من والديّ.
أمسكت بأيديهما التي ما زالت تحتفظ ببعض الدفء.
“أمي، أبي، هل رأيتما الزهور التي أحضرها ‘جايها’؟
“قال إنها هدية لكما.”
“……”
“أنا لم أحضر شيئًا كهذا من قبل يبدو أن صهركما أفضل من ابنتكما ربما أنا ابنة عاقّة.”
كنت أريد التحدث إليهما بأحاديث خفيفة، لكن بمجرد أن رأيت الزهور، انفجرت دموعي.
لم أشعر بهذا الثقل في قلبي أبدًا حين كنت أنظر إلى “جيهان”.
طوال خمس سنوات من حياتي معه، كان أملي الوحيد أن نبني أسرة دافئة.
كنت أريد إنجاب أطفال والعيش كزوجين عاديين، لكن الأمر لم يكن سهلاً.
ومع “جايها”، كلما قضيت وقتًا أكثر، شعرت وكأنني أعيش الحياة الزوجية التي حلمت بها.
شعرت أنني أستطيع أن أكون سعيدة معه، لا كشريك للانتقام، بل كزوج حقيقي.
ولهذا لم أستطع أن أقترب منه أكثر.
كنت أخشى أن أُخدع مجددًا إن أظهرت له قلبي، أن أتأذى مرة أخرى.
لذا حاولت جاهدًة إخفاء مشاعري والحفاظ على المسافة.
لكن “جايها” الذي رأيته خلال هذا الوقت، لم يكن كالبقية.
بينما كان الآخرون يتصيدون الفرص ليطعنوني، كان “جايها” قلقًا عليّ إن تأذيت.
لم أكن أريد الاعتراف بذلك… لكن يبدو أنني أعتمد عليه كثيرًا.
بعد مرور عام، أصبحت أخاف الوحدة، لأنني أصبحت أتكئ عليه أكثر مما كنت أتخيل.
طالما أن زواجنا لا يزال قائمًا، فسيبذل قصارى جهده للوفاء بالوعد الذي قطعه لوالدي قبل قليل.
ولهذا السبب تماسكت بشق الأنفس وثبّتّ قلبي.
“سنتزوج الأسبوع القادم قال لي رئيس مجلس الإدارة سَو مووجين إنه سيسير معي على ممشى العروس.”
“……”
“لا تقلقا، سأكون سعيدة.”
مسحت بيدي على يدي والديّ، مكبوتة في صدري الكلمات التي لم أستطع التفوّه بها:
“عندما أنهي كل انتقام لي… حينها، سأصبح سعيدة حقًا.”
***
كانت “سورين” في طريقها إلى مقر إقامة “جيهان” منذ الصباح الباكر.
وأثناء قيادتها، تلقّت اتصالًا من المذيعة “كيم”.
كانت هي زميلة مذيعة مقربة كانت سورين قد زارتها في محطة البث في وقت سابق.
تذكّرت سورين حين تظاهرت بأن هاتفها قد فرغ من الشحن، فاستعارت هاتفها.
ظنّت أن الاتصال كان بسبب نشر قصة “يُوجين” على لوحة الإعلانات الداخلية للشركة من حساب كيم المذيعة.
“كيم، كيف حالك؟”
ماذااا؟ كيف حالك؟ هل قررتِ أن تُسقِطيني عمدًا؟! بسبَبك لم أعد أستطيع رفع رأسي في محطة البث!
“كما توقعت.”
ما إن أجابت سورين على المكالمة حتى صدح صوت كيم الغاضب عبر مكبر الصوت، يخترق أذنيها.
وفي ظل الصراخ الذي صدح عاليًا عبر الهاتف، عبست سورين بضيق.
ومع ذلك، لم تشعر بأي ذرة ندم تجاه ما فعلته.
فهي في الأصل لم تكن سوى زميلة مقربة، لا أكثر ولا أقل.
“لماذا؟ ما علاقة الأمر بي أنا؟ كيم، لا تتهميني بهذا الشكل دون شرح واضح لما يحدث أنا فعلاً أشعر بالظلم الآن.”
هل أنتِ مجنونة حقًا؟ في اليوم الذي أتيتِ إلي فيه، استعرتِ هاتفي، ونشرتِ منشورًا على لوحة إعلانات المحطة المجهولة باستخدام حسابي!
مع رد سورين البارد، فقدت كيم أعصابها تمامًا وانفجرت بالصراخ.
صوتها المرتجف دلّ على أنها على وشك أن تفقد السيطرة تمامًا.
كانت سورين قد سمعت إشاعة تقول إن يُوجين تسببت في فضيحة لكيم في محطة البث.
“وماذا يعني ذلك؟ لا يوجد دليل واحد على أنني فعلت ذلك، أليس كذلك؟ يا للغباء.”
سورين رفعت زاوية شفتيها بابتسامة صغيرة وهي تقود.
ورغم أنها شعرت ببعض الضيق بعد أن علمت بأن يُوجين استطاعت تبرئة نفسها، لكنها لم تكن تملك ما تفعله.
“متى فعلت ذلك؟”
ماذا؟ متى؟ هل تحاولين التهرب الآن؟ وقت نشر المنشور يطابق تمامًا وقت الغداء الذي استعرتِ فيه هاتفي!
“آه، كيم، أعلم أنكِ منزعجة وتشعرين بالظلم، لكن لا تُلقي اللوم على الشخص الخطأ.”
أجابت سورين بنبرة واثقة كي تتجنب أي مشاكل مستقبلية.
لكن تصرّفها الوقح أغضب كيم أكثر، وبدأ تنفّسها يعلو بشكل واضح عبر الهاتف.
“لا يوجد دليل على أنني فعلت ذلك، صحيح؟”
بقولها هذه الجملة الحاسمة، ابتسمت سورين بلا صوت.
فهي لم تعد بحاجة للحفاظ على علاقة ودية معها، خاصة بعد أن لم يعد لها علاقة بمحطة البث.
“كنا نسميها زمالة…”
تذكرت الأيام التي كانت تضطر فيها لمجاملتهم والتظاهر بالاهتمام بمواضيع لا تعني لها شيئًا فقط لكسب رضاهم.
يا لي من حمقاء لأنني صدّقت أن أمثالك يمكن أن يكونوا أصدقاء!
“يا إلهي، كيم! ابني بجانبي، هل يمكنك الانتباه لكلماتك قليلًا؟”
ضحكت كيم من شدّة الصدمة من ردّ سورين، كأنها لم تصدّق ما تسمعه.
“هذا سيؤثر على تربية الجنين كيف لمذيعة أن تتحدث بهذه الطريقة الفظة؟ على كل حال، وصلت الآن إلى بيت أخي، لذا سأغلق الخط.”
كانت السيارة قد توقفت في موقف السيارات.
سورين كانت قد أجابت على المكالمة بدافع الفضول، لكنها شعرت الآن أن لا حاجة لمواصلة الحديث.
حين سمعت صوت كيم، توقفت إصبع سورين التي كانت على وشك إنهاء المكالمة.
تنهدت بضيق وأراحت جسدها الذي كان مشدودًا على المقعد.
“هلّا تكلمتِ بسرعة؟ أنا مشغولة.”
تجمّد وجه سورين للحظة عندما سمعت سؤالًا عن زواجها.
بدت نبرة كيم ذات مغزى، وكأنها تعرف شيئًا ما، مما جعل وجه سورين يزداد عبوسًا.
“بالطبع ولمَ تسألين عن شيء واضح كهذا؟”
يُوجين أوني تبدو سعيدة جدًا هذه الأيام سمعت أنها ستتزوج في الجناح الملكي لفندق L، الذي قلتِ إنك ستتزوجين فيه.
“ماذا؟”
لم تصدّق سورين ما سمعته.
كلام كيم بدا وكأنه سُم، يزيد من حنقها.
شعرت بالغضب يغلي في صدرها حتى كادت تنفجر.
سمعت أن المدير سُو جايها كان يحب يُوجين منذ زمن؟ لهذا ظننت أن زواجك قد ألغي وأن يُوجين ستحل مكانك.
أغلقت سورين المكالمة بقوة وأغلقت باب السيارة بصوت عالٍ.
لكن كلمات كيم الساخرة ظلت تتردد في ذهنها، حتى بعد إنهاء المكالمة.
كلمات كيم جعلتها تدرك أن معظم موظفي محطة البث يظنون الأمر ذاته.
زفاف يُوجين قد تحدد.
كلمات جايها عن تحديد موعد الزواج خلال لقاء العشاء قد تحققت، وخلال أيام فقط.
“أن تتزوجا بهذه السرعة؟ وفي نفس الفندق الذي كنت سأقيم فيه زفافي؟”
كم عانت وحاربت من أجل حجز ذلك المكان، ورغم ذلك، تأجل زفافها.
أما يُوجين، فتتزوج بهذه السهولة؟ لا يُحتمل!
“مستفزة!”
حتى عندما نزلت من المصعد، لم يتوقف شعورها بالغضب المتصاعد.
كتمت رغبتها في الصراخ بأقصى قوتها، وأسرعت خطواتها نحو منزل جِيهان.
رغم أنها ضغطت على جرس الباب مرتين، لم تسمع أي رد، فبدأت تطرق الباب بقوة.
“أعلم أنك بالداخل…!”
كانت قد تأكدت مسبقًا من أن جِيهان لا يملك خططًا خاصة لهذا اليوم.
طرقاتها كانت عالية بما يكفي ليسمعها الجيران، وأخيرًا، انفتح الباب فجأة.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 67"