كان طريق الذهاب إلى العمل في ذلك الصباح كالمعتاد.
الاختلاف الوحيد، إن وُجد، هو أنني ركبت سيارة يقودها السكرتير “هان” بدلًا من “جايها”.
كان “جايها” قد أصرّ على ألا أتنقل وحدي، فترك السكرتير “هان” في سيول وغادر بمفرده.
“بما أن السكرتير هان سيكون هنا، احرصي على أن تذهبي وتعودي من العمل معه فقط.”
“لم يتبقَ الكثير على موعد الزفاف، لذا كوني أكثر حذرًا ، الأجواء في الفندق لم تكن طبيعية.”
“وأخيرًا، يُمنع افتعال أي حوادث في غيابي سأعود في أسرع وقت ممكن.”
لا اعلم كيف سيتدبر “جايها” أموره في بوسان بدون سكرتيره الشخصي، لكنه لم يكن يساوم أبدًا عندما يتعلق الأمر بسلامتي.
حتى وإن كان الأمر متعلقًا به شخصيًّا، لم تكن هناك استثناءات.
ضاق صدري من فرط الاهتمام الذي يُقدّمه لي، فسارعت إلى هزّ رأسي لأستفيق من تلك المشاعر.
“يجب أن أتماسك.”
وحين أدركت أننا قد وصلنا أمام مبنى البث، كنت على وشك النزول من السيارة.
“سيدتي، هل كنتِ مشغولة هذا الصباح؟”
“في الصباح؟ لا، ليس كثيرًا.”
أملت برأسي باستغراب نحو السكرتير “هان”.
وفجأة، تذكّرت كيف أنني تهربت من التواصل مع “جايها” منذ الليلة الماضية متذرعة بانشغالي.
ويبدو أنه، بعد أن لم يتمكن من الوصول إليّ، وصل الخبر إلى السكرتير “هان” أيضًا.
“هل سأل عني السيد جايها؟”
“أليس واضحًا من طريقتي؟ نعم، صحيح الرئيس قلقٌ عليكِ.”
“سيعود غدًا، أليس كذلك؟ سأتصل به بمجرد أن أصل إلى المكتب.”
كان “جايها” يتصل بي عدة مرات في اليوم.
في البداية ظننت أنه سيتوقف مع الوقت، لكنه لم يكن ينهِ المكالمة حتى بعد انتهاء ما كان يريد قوله.
كأنه لا يريدني أن أشعر بغيابه.
ووسط تلك الأحاديث اليومية الصغيرة، كنت أجد نفسي وقد استرخت أعصابي.
ثم في لحظة ما، أدركت أنني أنتظر اتصاله.
ومنذ تلك اللحظة، بدأت أتجنب الرد عليه خوفًا من شعور مباغت بالقلق يراودني.
“أعلم أن هذا ليس الحلّ، ولكن…”
كنت أندفع نحوه كما لو أنني سيارة فقدت فراملها.
وشعرت أنني إذا استمريت على هذا النحو، فلن أتمكن من السيطرة على مشاعري.
كان علي أن أستعيد رباطة جأشي قبل فوات الأوان، لأن الأولوية الآن للانتقام.
كنت أنوي تهدئة قلبي قبل عودة “جايها”.
وأنا أردد في داخلي أن هذا هو القرار الصحيح، خطوت باتجاه مبنى البث.
***
ما إن دخلت قسم البرمجة حتى شعرت أن أجواء المكتب مختلفة عن المعتاد.
الجميع كان مجتمعًا يتحدث بصوت منخفض، كما لو أن شيئًا مثيرًا حدث خلال عطلة نهاية الأسبوع.
بدافع الفضول، التفتّ يمني ويسري قبل أن أستقرّ في مقعدي، ثم اقترب مني زميلي “يونغ جون” وسأل:
“يون، متى سيكون حفل زفافك؟”
“زفافي؟ كيف علمتَ أن هناك موعدًا قد حُدّد؟”
تفاجأت كثيرًا أن “جايها” أخبر بالحفل في الفندق نهاية الأسبوع، والآن يعرفه زميلي بالفعل.
“هل انتشرت الشائعات بهذه السرعة؟”
تساءلت من أين انطلقت تلك الشائعة.
أول من خطر في بالي كانت “سورين”، لكنها لم تكن تملك أي دافع لنشر خبر زفافي على نطاق واسع.
لا فائدة لها إن علمت سورين بزفافي.
ومع إلقاء نظرة سريعة حول المكتب، لاحظت أن العديد من الزملاء يرمقونني بنظرات خاطفة.
لماذا يحدّقون بي؟
لكن نظراتهم لم تكن مشحونة بالحذر كما في السابق.
بل كانت أقرب إلى نظرات الفضول والاهتمام.
هل أنا حقًا السبب في هذه الأجواء الغريبة؟
الشخص الوحيد القادر على حل هذا اللغز كان زميلي.
رمقته بنظرة ضيقة فابتسم بأسى كأنه لا يملك حيلة.
“يون، يبدو أنك لا تعلمين ما يجري؟ ألم تتابعي أخبار الصباح؟”
“كنت على وشك مشاهدتها ما الذي حصل؟ يبدو أن القسم بأكمله مندهش هل هناك سبق صحفي؟”
اعتقدت أن هناك خبرًا عاجلًا تم نشره صباحًا.
فما كان منه إلا أن أدار شاشته ناحيتي بابتسامة لا تخلو من الذهول.
“سبق صحفي؟ أجل، سبق من نوع ما من الأفضل أن تريه بنفسك.”
“ما هذا؟”
كلما قرأت المزيد من الخبر الذي عرضه علي، ازداد اتساع عينيّ دهشةً.
“ما هذا المقال؟!”
“ما هو برأيك؟ إنه مقابلة مع زوجك المستقبلي.”
كان مقال مقابلة “جايها” — الذي لم يُنشر من قبل — معروضًا على الصفحة الرئيسية من الإنترنت.
ولم يكن مرتبطًا بعمله في إدارة الشركة على الإطلاق، بل بعنوان غريب:
[الرئيس “سو جايها”، يتزوج من حبيبته القديمة… الحفل سيكون خاصًّا]
في المقال، صرّح أنه كان يحمل مشاعر تجاهي منذ زمن، لكن زواجًا مرتبًا بين العائلتين فشل، لذا لم تتح له فرصة اللقاء بي.
ثم التقينا مجددًا في الوقت المناسب واستأنفنا علاقة جيدة.
حدّقت في “يونغ جون” بدهشة وكأنني أطلب تفسيرًا، لكنه اكتفى بهز كتفيه.
لا شك أن “جايها” هو من طلب نشر المقال بالتزامن مع رحلته.
وإلا، فلا يمكن لمثل هذا الخبر أن يظهر فجأة.
“يا إلهي… بمَ كان يفكر حين قال هذا؟”
لماذا يقول كذبة يمكن أن تُكشف عاجلًا أو آجلًا؟
رغبت بشدّة أن أتصل به فورًا وأصرخ: “ما الذي يحدث؟”
لكنني كبحت نفسي.
ولم تمضِ لحظات حتى بدأ الزملاء يتجمهرون حولي، الواحد تلو الآخر.
“يا يوجين، هل هذا الخبر صحيح؟ متى بدأ الرئيس “سو” يكنّ لك مشاعر؟”
“متى سيكون حفل الزفاف؟ ولماذا سيكون خاصًّا؟ هل سنُدعى؟”
“أ-أمم، حسنًا، يعني…”
انهالت علي الأسئلة، ولم أتمكن من الرد عليها من شدة الضغط وكثرتها، وسط نظرات فضولية محمّلة بالترقّب.
***
بعد عدة ساعات…
ألا يفترض أن تهدأ الأمور الآن؟ لماذا لا يتوقف الناس عن طرح الأسئلة؟
منذ أن نُشرت مقابلة “جايها”، لم يتوقف الزملاء في محطة البث عن سؤالهم المتكرر حول زفافي.
كلما التقت أعيننا، سارعوا بتهنئتي على الزواج، مما جعل التعب يتسلل إليّ ببطء.
وبعد عودتي إلى المنزل، جلست على الأريكة دون حتى أن أخلع ثيابي، فقط وضعت الحقيبة جانبًا.
وسرعان ما شعرت بوخز السكون يزحف نحوي.
الهدوء خانق حين أكون وحدي
لم أشعر بذلك حين كان “جايها” إلى جانبي، لكن فراغه بات واضحًا الآن.
خاصة عندما أعود إلى منزلٍ مظلم وخالٍ مثلهذا.
رغم مرور أيام على سفره إلى بوسان، لا أزال غير معتادة على هذا الصمت.
“لا، يجب أن أستحم.”
لو بقيت جالسة هكذا، فلن أنهض من الأريكة مطلقًا.
ذهبت إلى الحمام، وعندما انتهيت من الاستحمام وبدأت أجفف شعري، وقعت عيني على مجفف الشعر الموضوع جانبًا.
“لم تجففي شعرك مرة أخرى ؟ ماذا لو اصبتِ بالبرد ؟”
كان صوت “جايها” الحانق يتردد في أذني بوضوح.
يا للجنون… هل بدأت أسمع هلوسات الآن؟
“من الذي يصاب بالبرد في منتصف الصيف…”
رغم أنه لا يعقل، وجدت يدي تمتد تلقائيًّا نحو المجفف.
لماذا لا أكفّ عن التفكير فيه ؟
حقًّا، يبدو أن الفراغ لا يُدرك حين يملؤه أحد، بل حين يرحل.
وبينما كنت أُجفف شعري، جفّت خصلاته بالكامل.
ولو كان “جايها” هنا، لابتسم برضا وهو يراقبني.
يجب أن أتصل به
كنت قد نويت الاتصال به بعد عودتي من العمل، لكن عندما وصلت إلى البيت، ترددت.
أشعر أنني لن أستطيع أن أتحدث إليه دون كأس من الويسكي، لذا أخرجت الزجاجة.
كيف لمكالمة واحدة أن تجعلني متوترة هكذا ؟
ثم تساءلت… هل عليّ فعلًا الاتصال بمن سيعود غدًا على أي حال؟
إن سمعت صوته، سأشتاق إليه، وإن اشتقت إليه، سأفتقده أكثر.
لا يختلف شيء عن الماضي، فلماذا يبدو الفراغ أكبر هذه المرة؟
حتى في الماضي، كنت أبقى وحدي في منزل الزواج الذي جمعني بـ”جيهان”.
وكان انتظار “جيهان” — الذي لم أكن أعلم متى سيعود — مؤلمًا ووحيدًا.
لكن لم أشعر وقتها بالفراغ أو الشوق بهذا الشكل.
ربما لهذا، وجدت نفسي في هذا الليل الصامت، أتناول كأس الويسكي تلو الآخر.
آه … مرٌّ للغاية
انتشرت حرارة الكحول الحارقة في فمي، فزممت جبيني دون أن أشعر.
يبدو أن الكأس التي بقي نصفها ممتلئ تُثبت أن “جايها” كان يحتسي هذا الويسكي من حين إلى آخر.
يا له من مذاق مرّ، كيف كان يشربه بهذه السهولة؟
ظللت أُميل الكأس مرة بعد أخرى حتى اجتاحتني موجة من النعاس، فأرحت جسدي على الأريكة.
(تنهيدة) “ما كان عليّ أن أشرب.”
إن اتصلت به تحت تأثير الكحول وقلت شيئًا غريبًا، فسوف أندم لاحقًا لم أكن أفكر إلى هذا الحد.
لكن، لعل هذا النعاس مفيد.
من بين الجفون المثقلة، لمحت ومضات من شاشة الهاتف تلمع بخفوت.
كان عليّ أن أبعث له رسالة أطلب منه ألا ينتظر، لكن جسدي الذي استسلم للخمول لم يطاوعني.
لا أعلم كم من الوقت مرّ، لكن فجأة وصلني صوت خطوات تقترب بثبات.
مع اقتراب الصوت، بدأت أرفع جفوني بثقل.
رويدًا رويدًا بدأت الرؤية تتضح، وأخذت ملامح ضبابية تتشكل شيئًا فشيئًا.
رجل يرتدي بدلة أنيقة، يضع حقيبته جانبًا، ويتجه ناحيتي، حيث أستلقي على الأريكة… إنه “جايها”.
(تفكير مشتت) “هل… أحلم؟”
أم أنني مخمورة لدرجة أنني بدأت أتخيل أشياءً؟
فركت عينيّ، ثم فتحتُهما من جديد لا، لم أكن أتوهم.
الشخص الواقف أمامي كان “جايها” نفسه، الشخص الذي لم يغادر ذهني طوال الأيام الماضية.
هو من كان يطاردني في أفكاري ويأسرني بشعور الحنين ها هو الآن أمامي، يحدّق بي.
لابد أنه حلم.
كيف له أن يكون هنا؟ ألم يكن من المفترض أن يعود بعد إنهاء جدول أعماله في الغد مساءً؟
(تفكير داخلي) “يقال إن من نفكر فيهم كثيرًا يظهرون في أحلامنا… ربما هذا ما يحدث.”
لا بد أنني رأيته لأنني فكرت فيه كثيرًا اليوم، لأنني اشتقت إليه كثيرًا.
ربما بفعل الكحول… أو بفعل النعاس… أو ربما لأن “جايها” بالفعل ظهر أمامي.
مهما يكن السبب، كان قلبي ينبض بخفة وكان شعورًا جميلاً.
شعور لم أكرهه، بل على العكس، رسمت ابتسامة واسعة على وجهي.
للمرة الأولى، شعرت أنه لا بأس إن أظهرت مشاعري كما هي، حتى لو للحظة.
مددتُ ذراعي نحو “جايها ” الذي كان يحدق بي بصمت.
ضحك وكأنه لا يستطيع مقاومتي.
“لماذا تبتسمين بهذه الطريقة الجميلة؟ هل اشتقتِ إليّ إلى هذا الحد؟”
حتى صوته، بنبرته الهادئة، كان يشبهه لدرجة لا تُصدق، مما جعلني أبتسم تلقائيًا.
(تفكير داخلي) “لا، هذا طبيعي هذا هو نفسه سو جايها.”
“اشتقت إليك.”
”…حقًا؟”
اقترب أكثر حتى اندسّ بين ذراعيّ التي مددتُها نحوه.
بثقله المألوف استلقيتُ من جديد على الأريكة، لكنه لم يكن أمرًا مزعجًا.
ظلّ يحملق في وجهي بعينين لا تصدقان، كأنه يبحث عن يقين في كلماتي.
تابعت الحديث وأنا أنظر إلى عينيه مباشرة:
“أقول الحقيقة اشتقت إليك كثيرًا.”
“إذًا لماذا تجاهلتِ كل اتصالاتي؟”
“ذلك لأن…”
تلعثمت لم أتمكن من إنهاء الجملة بسهولة.
والآن، وأنا أمامه، تساءلت إن كان من الجيد أن أقول الحقيقة.
“لأني… لا أعرف إلى أين تأخذني مشاعري في الآونة الأخيرة، أصبحت لا أعرف نفسي… وأخاف منها.”
عندما قلت ذلك، بدا مذهولًا، وكأن كلماتي ألجمته.
العبق المنبعث منه وهو ينظر إليّ من هذا القرب كان مألوفًا ومريحًا.
نزعت يدي من عنقه، وغرست أصابعي في شعره الأسود الناعم.
كان ملمس خصلاته المتسللة بين أصابعي مألوفًا، مهدئًا.
“حتى الآن، وأنا أراه أمامي، لا أصدق أنه عاد.”
كيف يمكن أن يكون مطابقًا هكذا؟
حتى أنفاسه التي تلامس وجهي كانت حقيقية، فابتسمت وأنا أنظر إليه.
قبل قليل فقط، كان هذا المنزل الكبير يبدو خاليًا على نحو خانق.
أما الآن، وقد دخل إليه “جايها ”، فشعرت كأن كل الفراغات قد امتلأت.
أجل… الفراغ لم يكن في المكان، بل في غيابه.
كنت أظن أن البعد الجسدي سيخلق بُعدًا عاطفيًا، لكنه لم يفعل.
بل، كلما ابتعد، كلما ازداد الشوق إليه.
“غريب، حتى أنا لا أصدق هذا هل لأنك سُكرتِ؟”
نظر إلى زجاجة الويسكي الفارغة على الطاولة، ثم أعاد نظره إليّ.
تعمق بريق عينيه شيئًا فشيئًا وهو يحدق بي.
“لكن، لماذا أنتِ صادقة جدًا الليلة؟ تجعلين من الصعب عليّ أن أتمالك نفسي.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 65"