غادر “جايها” متوجهاً إلى رحلة العمل في بوسان بمفرده، بعد أن ترك السكرتير “هان” برفقتي.
حتى بعد خروجي من محل فساتين الزفاف وركوبي السيارة التي يقودها السكرتير “هان”، بقيت شاردة الذهن لفترة طويلة.
كلما استرجعت ما حدث قبل قليل، خفق قلبي بعنف.
رغم أن اللحظة كانت قصيرة، إلا أن الموضع الذي لامسته شفتاه كان لا يزال ساخناً، وكأن زهوراً نارية انفجرت هناك.
“لقد جننت! حقاً.”
هززت رأسي بعنف، لكن كلما فعلت ذلك، ازدادت وضوحاً لمسة شفتيه في ذهني.
حتى وإن كان الباب مغلقاً…
فمجرد تخيلي أن أحدهم ربما فتحه في تلك اللحظة جعلني أرتجف.
لكن، لم يكن ذلك فقط.
“لو لم يغادر جايها بتلك السرعة…”
ربما كنت أنا من بادلته القبلة.
في تلك اللحظة، كنت مخمورة تماماً بالمشاعر التي منحني إياها، حتى بات رأسي خالياً من أي تفكير.
لأول مرة، شعرت أنني لا أستطيع كبح مشاعري.
فمن مجرد قبلة قصيرة، انفجرت المشاعر التي كنت أحبسها وأتجاهلها داخل قلبي دفعة واحدة.
“ما الذي علي فعله؟”
رغم أنني كنت أفكر فقط في الانتقام، قلبي كان دائماً قلقاً.
كنت أعلم أن مشاعره لم تعد مجرد شريك في الانتقام.
لكن لم يكن لدي متسع من الهدوء النفسي لأتقبل مشاعر “جايها”.
لهذا السبب ظللت أتهرب منه.
غير أنني بعد عودتنا من الإجازة في الفيلا، وجدت نفسي أواجه تلك المشاعر التي كنت أتجاهلها.
في البداية، ظننت أنني مهما اقترب مني، سأستطيع التحكم في مشاعري.
لكن الآن، لم أعد واثقة من قدرتي على السيطرة على نفسي.
غطيت وجهي بكفيّ وأنا غارقة في الذهول.
عندما أكون مع “جايها”، يبتعد عني التفكير بالانتقام شيئاً فشيئاً، لأنني أعيش سعادة تملأ قلبي بالخوف من المستقبل.
بل وبدأت تراودني أفكار خطيرة، كأنني قد أعيش حياة سعيدة مع “جايها” دون الحاجة للانتقام.
في البداية، أردت أن أجر “جيهان” الذي سرق مني كل شيء إلى الجحيم.
فذلك كان السبيل الوحيد لتعويض حياتي السابقة التي انتهت بشكل بائس.
كنت أظن أن رؤيته هو و”سورين” يفقدان كل شيء سيكون كافياً لأشعر بالسعادة.
لكن ذلك لم يكن سوى إشباع مؤقت، وليس سعادة حقيقية.
بعدما عشت مع “جايها”، عرفت ما تعني السعادة التي تخيفني لمجرد التفكير في فقدانها.
أحياناً كنت أتساءل إن كان عليّ أن أسلك طريق الانتقام المؤلم هذا من الأساس.
ثم هززت رأسي نافضة هذه الأفكار.
“تفكير سخيف، فعلاً…”
أن أختار الحب على الانتقام؟ لا يمكن أن يكون هذا ممكناً.
“لقد وصلنا.”
عندما سمعت صوت السكرتير “هان”، رفعت رأسي لأجد السيارة قد توقفت أمام شقة “جايها”.
“شكرًا لجهودك اليوم.”
“لا، بل أنتِ من بذلت جهدًا أكبر لا بد أنكِ عانيتِ بسبب اضطرار المدير إلى تغيير وجهته فجأة.”
“لا بأس في الحقيقة، رؤية جانب جديد من شخصية المدير كانت تجربة جيدة وسعيدة.”
قال ذلك وهو يضحك ضاحكًا خفيفًا، ثم انحنى بتحية مهذبة وغادر.
عندما دخلت المنزل وحدي، شعرت بثقل الصمت أكثر من أي وقت مضى.
لم أشعر بهذا حين كنت مع “جايها”، لكن الآن، بدا منزله فجأة أوسع من المعتاد.
ربما لأن الشخص الذي قضيت معه اليوم بأكمله لم يعد موجودًا، شعرت بفراغ كبير.
“هل كان البيت واسعًا هكذا دائمًا؟”
سأقضي الأيام القادمة وحدي، ولا أعلم كيف سأتحمل.
كل ما كنت أفكر به داخل السيارة بدا الآن بلا معنى أمام هذا الفراغ العميق.
✽ ✽ ✽
كانت “سورين” قد وصلت إلى مطعم الطعام الكوري برفقة السيدة “أوه”.
حين رأت “جايها” و”يوجين” في محل فساتين الزفاف، كانت ترتجف من الغضب.
كان الغيظ يغلي داخلها، لكنها تمالكت نفسها بفضل دعوة السيدة “أوه” للغداء.
لم يكن الجو ودّيًا، لكنه أفضل حالاً من أول مرة التقيا فيها.
وقد شعرت “سورين” بشيء من الارتياح تجاه تغير مزاج السيدة “أوه”.
“أمي، شكراً جزيلاً لقدومك إلى المتجر اليوم بفضلك، أظن أنني اخترت فستانًا جميلًا، أنا سعيدة جدًا.”
“أنا لم أفعل شيئًا يُذكر، فلم الشكر؟”
كما قالت السيدة “أوه”، هي فعلاً لم تفعل شيئًا في المتجر.
كل ما فعلته هو مراقبة ما يجري بصمت.
لكن “سورين” تذكرت وجه “يوجين” حين ظهرت السيدة “أوه”، وكيف تجمدت ملامحها.
حتى وإن لم تُظهر ذلك، فقد شعرت “يوجين” حتمًا بالعزلة بينها وبين السيدة “أوه”.
كان يومًا مثاليًا في المتجر… إلى أن دخل “سو جايها”.
كانت قد دفعت “يوجين” إلى الزاوية بثقة، لكن ذلك الرجل، بظهوره المفاجئ، سرق الأنظار من الجميع.
عندما تذكرت ما حدث في الصباح، وكيف أصبحت بلا قيمة، ارتجف فمها بغضب.
لكن ما لبثت أن نظرت إلى السيدة “أوه” الجالسة أمامها، حتى ارتسمت ابتسامة مجاملة على شفتيها مجددًا.
سأتوقف عن التفكير بأمور مزعجة.
عندما جلستا على الطاولة، بدأت الأطباق تُقدّم واحدة تلو الأخرى.
“لقد طلبت الطعام مسبقًا هذه أشهر الأطباق هنا، ستعجبك بالتأكيد.”
“شكرًا، أمي أنا آكل كل شيء، فلا داعي للقلق.”
مسحت “سورين” يديها بالمنديل المبلل وهي تبتسم ابتسامة مشرقة.
الطعام كان آخر ما يمكن أن تتذمر منه.
فمنذ الصباح، بسبب قياس الفساتين، لم تتناول وجبة حقيقية وكانت جائعة جدًا.
“واو! تشونغوكجانغ! يبدو أن هذا المكان شهير حقًا أنا أحب هذا الحساء كثيرًا!”
قالت بصوت مفعم بالحماس.
بغض النظر عن نوع الطعام، كانت واثقة أنها ستأكله بشهية.
عيناها أضاءتا وهي تشمّ الرائحة الغنية لحساء فول الصويا المخمر وتلمح لونه الشهي.
عندما نظرت إليها السيدة “أوه” بصمت، ارتسمت على شفتيها ابتسامة مائلة.
“يبدو أنكِ لا تعانين من الغثيان الصباحي، أليس كذلك؟”
رفعت “سورين” رأسها وهي تمضغ ملعقة كبيرة من الحساء، بعد سؤال السيدة “أوه” الهادئ.
غثيان الحمل؟ لم تشعر بأي ضيق من رائحة الحساء القوية.
“أوه، هل لاحظتِ؟ لم أعانِ كثيرًا منه هيه، أليس ابننا ‘هوجين’ رائعًا؟ يبدو أنه يراعي والدته.”
“هوجين؟ هل هذا اسم الجنين؟”
سألت السيدة “أوه” بنظرة متفحصة وهي تحدق فيها بعينين ضيقتين.
“نعم، تمنيت أن يكبر بصحة وعافية ويقود هوجين كما يفعل والده، لذا اخترت هذا الاسم.”
لم تكن “سورين” قد فكرت أصلاً في اسم للجنين، لانشغالها الدائم.
لكن بمجرد أن تحدثت السيدة “أوه” عن الطفل، خطر في بالها “هوجين”.
ولم تُظهر السيدة “أوه” أي انزعاج من الاسم.
رغم أنه اسم مؤقت ارتجلته، وجدت “سورين” فيه رضاً كبيرًا وابتسمت.
لا يبدو كأنه اسم ارتجلته لتوي، أعجبني فعلاً.
بل وتخيلت أن يكون طفلها حقًا هو الرئيس التنفيذي التالي لشركة “هوجين”، حينها ستكون أسعد إنسانة في العالم.
بمجرد أن طمعت في شيء واحد، بدأت تطمع بما هو أكبر.
كبرت رغباتها المدفونة حتى لم تعد قادرة على إخفائها.
نظرت إليها السيدة “أوه” بنظرة غريبة، ثم قالت:
“اسم طموح حقًا حين كنتُ حاملًا بمديرنا الحالي، كنت أتوق لأكل هذا الحساء، لكنني لم أتمكن.”
“حقًا؟ لماذا؟”
سألت “سورين”.
فأنزلت السيدة “أوه” الكأس من يدها، وهي تنظر إليها بنظرة غير عادية.
حينها فقط، أدركت “سورين” أن نظرة السيدة “أوه” تجاهها لم تكن عادية.
“كان غثيان الحمل شديدًا للغاية، حتى إن رائحة الدَّنْجانغ وحدها كانت تُثير اشمئزازي كنت أحب حساء تشونغوكجانغ كثيرًا، لكن خلال الأشهر العشرة التي حملت فيها ‘جيهان’، لم أستطع حتى الاقتراب منه.”
تفاجأت “سورين” وسعلت لا إراديًا حتى شعرت بالشرقة.
وحين لم تهدأ السعلة المفاجئة بسهولة، مدت السيدة “أوه” إليها منديلاً ورقيًا.
“ها، هاها… يبدو أن غثيان الحمل كان شديدًا بالفعل لا بد أنه كان صعبًا عليكِ.”
(هذه المرأة الماكرة… هل كانت تختبرني للتو؟)
فجأة، اجتاحها شعور بالغضب، لكنها قاومته بكل ما أوتيت من قوة.
مسحت عن وجهها ملامح الانزعاج، وارتسمت على شفتيها ابتسامة مصطنعة، ثم رفعت الكأس أمامها وشربت الماء بسرعة كأنها ستهضم غصة عالقة.
ويبدو أن السيدة “أوه” لاحظت التغير في أجواء “سورين”، فلوّحت بيدها وهي تبتسم ابتسامة مهدئة:
“يا لكِ من فتاة، لا داعي لكل هذا التوتر غثيان الحمل يختلف من امرأة لأخرى.”
“…”
“على كل حال، ذهابي إلى المتجر اليوم لم يكن لمجرد التسلية كان هناك أمر أردت التحدث فيه معك.”
ثم وضعت السيدة “أوه” أدوات الطعام بهدوء.
(ألَم تأتِ لتقبلي بي ككنّة؟)
ظنّت “سورين” أن قدوم السيدة “أوه” كان بدافع احترام طلبها في اختيار الفستان معها.
لكن حين استعادت ذكرى الصباح، تذكرت كم كانت السيدة “أوه” غير مهتمة بالفستان الذي كانت تختاره.
بل إنها، حين ظهرت “يوجين” مرتدية الفستان، بدت عيناها تلمعان بحدة لم تستطع “سورين” تجاهلها.
وصوتها البارد وهي تقول: “ارتدي ما تشائين” ظل يتردد في أذنها.
(إذًا، لماذا جئتِ إلى متجر الزفاف من الأساس؟)
حين نظرت إلى السيدة “أوه” بوجهها الغامض الذي يصعب قراءة نواياه، خفق قلب “سورين” بقوة.
وما لبثت أن قالت السيدة “أوه”، موجِّهة نظرها مباشرة نحو “سورين” المرتبكة:
“لقد رأيتِه بنفسك في ذلك الوقت، لذا لا بد أنكِ تعرفين… رئيس مجلس الإدارة ‘سو موجين’ ليس رجلًا سهلاً.”
(رئيس مجلس الإدارة سو موجين؟)
تذكّرت “سورين” الرجل العجوز الذي رأته في الفندق.
رغم تقدمه في السن، كانت نظراته تلمع بحدّة تُشعر المرء بهيبة رئيس مجموعة كاملة.
ومن المؤكد أنه يشغل منصبًا لا يمكن حتى لـ”جيهان” أو “مينغوك” الخروج عنه أو معارضته.
لكن “سورين” لم تفهم تمامًا المغزى من ذكر السيدة “أوه” له في هذا التوقيت، فأمالت رأسها قليلاً متسائلة.
“حتى وإن كنتِ تحملين طفل ابني، فلن يمكنكِ دخول هذه العائلة إذا خرجتِ من نظر الرئيس.”
“لـ- لكن…! سيدتي، ما بيني وبين السيد ‘جيهان’ حقيقي لا يمكن قمع مشاعر الحب!”
سقطت أدوات الطعام من يد “سورين” على الطاولة، وارتطمت الملعقة بحذاء السيدة “أوه” قبل أن تتوقف.
نظرت السيدة “أوه” إلى الملعقة الواقعة عند قدمها بنظرة كريهة، ثم دفعتها بقدمها جانبًا.
لكن “سورين” لم تكن تملك الوقت لتبالي، فقد بدا كل شيء وكأنه ينهار.
أن يتوقف مصيرها كله على قرار رئيس مجلس الإدارة… بدا الأمر كتهديد صريح لا يُمكن تجاهله.
“قد تُسمّى علاقة حب، لكن لا تنسي أنها كانت علاقة غير شرعية في نهاية المطاف. ‘جيهان’ كان مرتبطًا بـ’يوجين’ منذ زمن طويل.”
“حتى لو كان كذلك… لا يمكنني تربية الطفل وحدي دون ‘جيهان’! من القاسي جدًّا حرمان ‘هوجين’ من أبيه!”
قالت “سورين” ذلك والدموع تلمع في عينيها، ثم نظرت إلى السيدة “أوه” وقد اختلطت في قلبها مشاعر الامتنان والخيانة.
كانت ممتنة لها لأنها حضرت بطلبها إلى المتجر، لكن حين تذكرت نظرة السيدة “أوه” إليها هناك، شعرت وكأنها كانت تنظر إليها بازدراء طيلة الوقت.
وحين بدأت دموع “سورين” تسيل كما لو كانت بطلة في دراما مأساوية، ضحكت السيدة “أوه” ضحكة مشوبة بالدهشة:
“ومن قال لك أنني أطلب منكِ الانفصال عن ‘جيهان’؟ هه، من الصعب التفاهم معكِ فعلًا.”
“…”
“أنا أتحدث عن الزفاف نفسه ألا تعتقدين أنه من الأفضل تأجيله حتى تهدأ الأمور؟ فقط هذه الفترة، لا أكثر.”
(إذاً لم تكن تطلب مني الانفصال؟)
هدأ ارتجاف كتفي “سورين” تدريجيًا.
وحين رفعت رأسها، كانت السيدة “أوه” تنظر إليها بنظرة ممتعضة.
“أنتِ تعلمين أن خبر فسخ خطوبة السيد ‘سو’ قد تسبب في تعطيل مشروع مهم، صحيح؟ مشروع ‘هوجين’ للبناء، تحديدًا المصيبة أنه مرتبط بالأسرة والعائلة، وهذا زاد الطين بلّة.”
كانت “سورين” قد سمعت بالفعل أن فسخ خطوبة “جيهان” من “يوجين” أثّر سلبًا على صورة الشركة.
“لهذا السبب، لو كنتِ أكثر حكمة، لقلّلتِ الحديث عن الزواج في هذه الفترة حتى لا تثيري الرئيس ،الزواج يمكن تأجيله لكن ثبات موقع ‘جيهان’ داخل الشركة أهم حاليًا.”
فهمت “سورين” أخيرًا مقصد السيدة “أوه” بالكامل، وشعرت كأن ضبابًا كثيفًا انقشع فجأة عن عقلها.
بل حتى لمعت في ذهنها فكرة جيدة.
يبدو أن السيدة “أوه” لاحظت أنها استوعبت الرسالة، فارتاحت ملامح وجهها قليلًا وملأت كأسها من جديد.
“رغم أنه لم يقل شيئًا، لكنني واثقة أن السيد ‘سو’ في موقف لا يُحسد عليه، وسيكون ممتنًا لكِ بلا شك أليس كذلك؟”
قالت ذلك، وارتسمت على شفتيها ابتسامة ماكرة، انحنت كقوس خفي.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 64"