ارتجفت شفتا سورين حين رأتني أدخل إلى المطعم.
ومن النظرة القاتلة التي انبعثت من عينيها، بدا واضحًا أنها في مزاج سيئ للغاية.
فقد أتيت إلى مائدة العشاء هذه من دون دعوة، ومن دون أن يكون جايها برفقتي.
حتى وإن لم تعبّر عن ذلك بالكلام، فلا بد أن نار الغيظ كانت تغلي في صدرها.
“يا يوجين، كيف عرفتِ مكاننا وجئتِ إلى هنا؟ جيهان، هل أنت من دعاها؟”
عند سماعها لكلام السيدة أوه، استدارت سورين نحو جيهان.
ولأول مرة، ظهر شرخٌ في ملامح جيهان، التي ظلت غير مبالية منذ لحظة دخولي إلى الغرفة.
وبينما كان يحدق بي بعينين مضطربتين، عضّت سورين شفتيها بغضب.
كان وجه جيهان، الذي بدا وكأنه يحمل أملاً زائفًا كما قالت السيدة أوه، يبدو مثيرًا للشفقة.
(يا له من أحمق…)
الشخص الوحيد الذي كان يحدق بي بهدوء في هذا الموقف هو نائب الرئيس، السيد سُو مينكُك.
أما السيدة أوه، التي كانت نظراتها تجاهي مليئة بالحيطة، فقد أزالت تلك النظرات وجلست مجددًا في مقعدها.
“ما الذي يجري هنا؟ بحسب ما قالت الآنسة سورين، كان من المفترض أن يكون هذا العشاء مقتصرًا علينا فقط.”
“يبدو أن سورين لم تكن تعلم أن عدد المدعوين قد تغيّر.”
جايها كان قد ذهب منذ الصباح الباكر إلى داميانغ ليُرافق رئيس مجلس الإدارة سُو موجين الذي ذهب في رحلة استجمام.
وبما أنه انطلق منذ فترة، فربما حان موعد وصوله الآن.
(كل ما قاله جايها كان صحيحًا.)
الآن، وأنا في هذا المجلس المليء بالجميع، بدأت أشعر بواقعية الأمر بشكل أقوى.
حين دعاني جايها لمرافقته إلى هذا العشاء، الذي سيكون فيه تعارف رسمي بينه وبين سورين كنت أنا أيضًا أرفض بشدة.
فقد كنت أظن أنه لا جدوى من ذهابي إلى مكان لن أستطيع فيه فعل شيء.
ولكن الآن، وأنا أنظر إلى الوجوه التي تزعجها مجرد رؤيتي، أدرك أن جايها كان على حق.
(ما أدهى تدبيره، حقًا.)
بل إنني بدأت أتطلع لرؤية تعابير وجوههم حين يصل جايها مع رئيس مجلس الإدارة.
“ماذا؟ الحجز باسمي! أختي غيّرت كل شيء من تلقاء نفسها؟! عليّ أن أستدعي المدير!”
حين صرخت سورين بحدة وهمّت بالنهوض، كان جيهان أول من نهض من مقعده.
وبدا عليها الاندهاش من تصرفه المفاجئ.
“هيا نخرج ونتحدث قليلاً.”
اقترب جيهان مني حيث كنت أقف بجوار الباب، وقال بصوت منخفض.
لا أعلم ما الخطير الذي يريد قوله في الخارج، لكنني لم أكن على استعداد لمجاراته، فتنهدت بسخرية.
“إن كان لديك شيء لتقوله، فقله هنا.”
“اتبعيني.”
حين أدرت رأسي بعيدًا، متظاهرة بعدم الاكتراث، خفض جيهان صوته أكثر فأكثر.
وبينما بدأ هذا العشاء الهادئ بالانحدار إلى فوضى بسبب ظهوري، تغيّر وجه سورين إلى لون رمادي باهت.
“يون يوجين!”
– درررغ.
بمجرد أن نادى جيهان باسمي، فُتح الباب المغلق من جديد.
“لماذا تنادي بتلهف زوجتي المستقبلية؟”
كان صوت جايها، الذي كنت بانتظاره، هو ما سُمع، ولم أستطع إلا أن أبتسم.
وحين اقترب مني جايها، اتسعت عيون الجميع من الدهشة وهم يحدقون به.
“لقد وصلت ، لا يمكنني أن أتغيب في يوم رائع كهذا.”
“يا له من مجنون.”
تمتم جيهان بلعنة بصوت خافت وهو يرمق جايها، الذي كان يرد عليه بابتسامة ماكرة.
لكن جايها لم يُعره أي اهتمام، واستدار نحو سورين.
“الهدية، هل وصلتكِ جيدًا، آنسة سورين؟”
“هدية؟”
قطّبت سورين حاجبيها، وكأنها تحاول فهم ما يقصده جايها.
وعندما بدأت عيناها بالارتعاش بشكل مرتبك، بدا واضحًا أنها تحاول استيعاب ما يعنيه بـ”الهدية”.
وحين رأى ذلك، ارتفعت زاوية فمه بابتسامة واثقة.
“أوه، ألم تعلمي؟ بما أنكِ كنتِ ترغبين بإقامة حفل الزفاف في فندق L، فقد طلبتُ بنفسي من خالي أن يتكفّل بالأمر.”
وفجأة، شحب وجه سورين، وكأنها أدركت لتوّها أنها ارتكبت خطأ جسيمًا.
نظرًا لأن جايها ليس معروفًا على نطاق واسع، فمن الطبيعي أنها لم تكن تعلم بصلته بفندق L.
“لـ… لا يُعقل إذًا سبب تغيير الفندق المفاجئ هو…”
“أي فندق يمكن أن يلبّي طلبًا مجحفًا مثل إقامة حفل زفاف الشهر القادم؟”
تبدّلت ملامح وجه سورين في كل لحظة ويبدو أنها الآن فقط أدركت مجريات الأحداث.
أما جِيهان، فقد وضع يده على جبينه، وكأنه يواجه أسوأ ما يمكن تخيله.
“لكن بما أن أختي غير الشقيقة الوحيدة تتزوج، فالأمر ممكن.”
“……”
“أياً كان الأمر، سأقدّم كل الدعم اللازم، فافعلي كل ما تريدين فعله.”
تنهدت السيدة أوه بذهول.
وكأنها لم تعد قادرة على تحمّل المشهد، رمقت طعامها الذي برد دون أن تمسّه، ثم نهضت من مكانها.
“عزيزي، لننصرف من هنا لا أعتقد أننا قادرون على مواصلة العشاء وسط هذا الوضع.”
“أوة، أمّي! أنا…!”
سُورين، التي بدا أنها لا تطيق رؤيتهم يغادرون، أمسكت بها بسرعة، لكن السيدة أوه دفعت يدها بعيدًا.
حينها، تحدث جايها بهدوء وهو ينظر نحو السيدة أوه:
“تغادرين؟ حسنًا، ربما من الأفضل أن تذهبي فعلًا، يا سيدتي.”
“ما الذي تعنيه بذلك؟”
صرخت السيدة أوه غاضبة من وقاحة كلماته.
لكنني، حين تذكّرت أن رئيس مجلس الإدارة يجب أن يكون قد اقترب من الغرفة الآن، لم أستطع كتم ابتسامتي.
“نسيت أن أخبركم جدي في طريقه إلى هنا تأخرت لأني كنت أرافقه من داميانغ.”
“ماذا؟! رئيس مجلس الإدارة قادم؟!”
نهض نائب الرئيس من مقعده بعنف حتى ارتجّ الكوب الذي كان يمسك به.
أما السيدة أوه، فقد تشوّه وجهها تمامًا عند سماعها كلمة “جدي” تخرج من فم جايها.
“هل يعلم جدك؟ أنكِ عدتِ إلى كوريا، يا سيدتي؟”
كان هذا التصريح كافيًا ليفهم أي شخص أن العلاقة بين السيدة أوه ورئيس مجلس الإدارة ليست على ما يرام.
وجهها احمرّ من شدة الحرج، وكأن أسرارها المكبوتة قد كُشفت أمام الجميع.
“هاه، لا يُصدّق.”
“هذا ما كان يجب أن أقوله أنا.”
صوت رجولي منخفض ومهيب انبعث، وظهر رئيس مجلس الإدارة.
وما إن وصل نظره الحاد إلى السيدة “أوه” حتى شحب وجهها تمامًا.
”متى عدت، سيدي الرئيس؟”
”وصلتُ للتو بعد أن جاءني ذاك الفتى “جايها”. لكن الأمر غريب.”
وفقًا للجدول الأصلي، لم يكن من المفترض أن يعود رئيس مجلس الإدارة إلى سيول قبل ظهر الغد.
ألقى نظرة جانبية علينا ثم طاف بعينيه أرجاء المطعم.
”ما الذي تفعلونه هنا بحق السماء؟”
لم يستطع أحد أن يرد بسهولة على رئيس المجلس.
حينها غيّر وجهته نحو السيدة “أوه”.
”جينهي، ما الذي تفعلينه هنا؟”
”ذاك… الأمر هو…”
ترددت السيدة “أوه” ولم تستطع الإجابة عليه.
”قلت لكِ مرارًا ألا تظهري أمامي تشه… وأنت يا “سيو جيهان”.”
وبتعبير يفيض بالاستياء، ضغط بلسانه ثم حول نظره من السيدة “أوه” إلى “جيهان”.
”أليس هناك ما هو أهم من تناول الطعام في فندق؟”
”…”
”الصورة السيئة التي ألحقها شركتك، “هوجين للإنشاءات”، كيف تنوي أن تصلحها؟!”
أمام الانتقاد القاسي الذي وجهه إليه، خفض “جيهان” رأسه بعمق.
”عديم الفائدة… وخطتك كخليفة هي الزواج فقط؟!”
على ما يبدو، اعتقد الرئيس أن هذه الوليمة كانت محاولة من “جيهان” لترميم صورة الشركة التي شوهها.
وفجأة تحولت نظراته الباردة إلى “سورين”، التي ارتجف جسدها على الفور، وسحبت يديها المرتعشتين تحت الطاولة.
”مثير للشفقة…”
أرادت أن تكون زوجة هذه العائلة، لكنها ترتجف هكذا؟ مشهدها المنكمش أمام الأجواء المتوترة بدا مثيرًا للسخرية.
ثم حول الرئيس نظره نحوي ونحو “جايها”.
”جايها، تفضل وقل عندما أتيت إلى “داميانغ” وأحضرتني إلى هنا، لا بد أن لديك سببًا وجيهًا، أليس كذلك؟”
وأخيرًا جلس في المقعد الرئيسي الذي كان شاغرًا.
وضع الخادم كوبًا من الماء البارد أمامه، فشربه دون توقف، ثم أشار بعينيه كأنه يطلب منا أن نتكلم.
بدت هذه اللحظة خانقة لـ “جيهان”، ففك ربطة عنقه بحدة.
رمقني بنظرة ملؤها الضيق ثم أمسك بكوب الماء أمامه.
”بما أن الجميع هنا، فإن الوقت مناسب للكلام.”
كان صوت “جايها” أول من شق الصمت الثقيل الذي خيم على المكان.
”لقد أخبرتكم من قبل أنني سأتزوج “يوجين”.”
بدأت يد “جيهان” ترتجف، وعيناه الممتلئتان بنظرات الخيانة والغضب والازدراء رفعتا نحو “جايها”.
”لقد حددنا موعد الزفاف نهاية هذا الشهر في الطابق الملكي من فندق L.”
في تلك اللحظة، أسقط “جيهان” الكوب الذي كان في يده.
لكن صوت ارتطام الزجاج بالأرض الرخامية وتحطمه لم يشغل أحدًا.
الجميع كانوا متجمدين، مصدومين من كلام “جايها”.
نظرت إلى “سورين” فرأيت فمها مفتوحًا من الدهشة لا تستطيع إغلاقه.
من المؤكد أنها جاءت اليوم مفعمة بالأمل والتفاؤل وهي تتخيل الزواج من “جيهان”.
كانت مهيأة بشكل مميز اليوم، بعكس العادة، فقط من أجل هذا اللقاء.
كان واضحًا كم كانت تتمنى الزواج منه.
من المؤكد أنها، قبل وصولي، قد بذلت جهدًا كبيرًا لكسب رضا السيدة “أوه” ونائب الرئيس.
قلت لكِ إن العقبات التي أمامكِ ليست سهلة.
ارتعشت كتفا “سورين” بخفة، ربما لأنها شعرت بالهزيمة الساحقة تجاهي.
ربما تظن أنني جئت خصيصًا لتخريب هذا اللقاء، لذا تشعر بالظلم.
حولت نظري من “سورين” إلى “جايها”، وتذكرت كلامه حين قال إننا قد نتزوج قبل ذينك الاثنين.
كان صادقًا.
ابتسمت ببرود وأنا أراقب حسمه.
تحدث الرئيس بعد أن بدا عليه التردد:
”زفاف في نهاية هذا الشهر؟ هذا مفاجئ جدًا… هل سيكون الحفل سريًا؟”
”نعم، سنقيم الزفاف بشكل غير معلن، ثم نعلن عنه للإعلام لاحقًا.”
أجبت بدلًا عن “جايها”، بابتسامة ودودة موجّهة إلى الرئيس.
أما السيدة “أوه” فكان وجهها متشنجًا وكأنها غير قادرة على تحمل الموقف.
”هل جننت؟ كيف تتزوجان بهذه السرعة؟!”
ردت السيدة “أوه” بانفعال، مما زاد من توتر “جيهان” الذي التفت إليّ بنبرة هجومية.
منذ متى أصبح يهتم بأموري أكثر من اهتمامه بشؤونه الخاصة؟
رغم نظراته الحادة التي كانت تلمع بغضب، لم تعد تهددني كما في السابق.
لأن “جايها” كان واقفًا بجانبي، بثبات لا يتزحزح، وكأنه لن يسمح لـ “جيهان” بأن يتدخل قيد أنملة.
وجوده إلى جانبي اليوم بدا أكثر قوة من أي وقت مضى.
”نعم، هذا صحيح.”
هل يزعجك كثيرًا أنني سأتزوج أخاك؟
حولت نظري من “جايها” إلى “جيهان” الذي كان يحدق بي بنظرات مشتعلة.
ابتسمت بسخرية أمام غضبه المستعر.
”ماذا؟!”
”قلت لك، مجنونة فعلًا.”
فغر “جيهان” فمه غير مصدق، وهو يحدق بي بذهول.
بجانبه، كانت “سورين” تطلق ضحكة مشوشة غير مصدقة لما يحدث، عاجزة عن إخفاء ذهولها.
”لذا، عليكما الحضور وتقديم التهاني ستفعلان ذلك، أليس كذلك؟”
كيف لا أُجنّ وأنا أنظر إليكما؟
أخذتما مني حياتي الهادئة، ولم تكتفيا بذلك بل دفعتاني إلى الهاوية.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 62"