مرّ اليوم دون أن أشعر، وإذا بموعد الانصراف قد حلّ بالفعل.

خرجت من مبنى البثّ تنفيذًا لتوجيهات المدير، الذي طلب مني المشاركة في البرنامج بدءًا من الغد.

كان مشهد المساء الصيفي المشرق غريبًا بعض الشيء، على عكس الأوقات التي اعتدت فيها العودة بعد انتهاء نشرة الأخبار المسائية.

عندها تذكرت خبر زفاف سورين، الذي وصلني صباحًا من بعض الموظفات.

كان حسابها الخاص على وسائل التواصل الاجتماعي يوثق مراحل تحضيرها لحفل الزفاف.

ولو كان مجرد توثيق لتجهيزات الزفاف، لما كان هناك ما يدعو للقلق، لكن الأمر بدا مبالغًا فيه بشكل استعراضي.

(تتعمد التصرف بهذه الطريقة لتُلفت الأنظار إليها.)

شعرت أن جايها لا بد وأنه يعلم بالأمر، وراودتني فكرة الذهاب إلى مكتبه للتأكد.

بالطبع، مكتبه ليس مكانًا أستطيع الدخول إليه كما أدخل إلى منزلي، لكن…

وقفت أمام مبنى البثّ، غارقة في ترددي.

(هل أذهب؟ أم أرجع؟)

نظرت إلى الساعة، وقد تجاوزت السادسة بكثير.

بما أن وقت الدوام قد انتهى، فغالبًا لا يوجد الكثير من الموظفين في المبنى.

حينها وصلني إشعار برسالة قصيرة، تبعته اهتزازة خفيفة في الهاتف.

[أين أنتِ؟ – جايها]

يبدو أننا كنا نفكر في الشيء نفسه.

أنهى ذلك النص القصير حيرتي، وبدأت أخطو باتجاه مكان وجوده.

***

وفي النهاية، وصلت إلى المكان الذي يعمل فيه جايها.

وقفت مترددة أمام مكتبه، ثم سألت السكرتيرة الجالسة بالقرب منه:

“هل المدير التنفيذي سو جايها موجود بالداخل؟”

“نعم، موجود هل لديك موعد مسبق معه؟”

لم أكن قد حجزت موعدًا… يبدو أنها ظنتني موظفة عادية، فنهضت من مكانها، وحين رأت وجهي اتسعت عيناها بدهشة.

“لم يصلنا أي إشعار مسبق بقدومك، لذا لم أتعرف عليكِ فورًا سأُبلغ المدير فورًا.”

“لا داعي هل يمكنني الدخول مباشرة؟ جئت دون أن أخبره.”

لوّحت برأسي نافية حين أمسكت السماعة لتتصل به فورًا.

“آه، نعم، مفهوم.”

حين وقفت أمام باب مكتب جايها، طرقت السكرتيرة الباب بدلاً مني.

وبعد أن جاء صوته المألوف من الداخل يدعونا بالدخول، فتحت الباب.

ومن خلال المساحة الواسعة، رأيت جايها جالسًا عند مكتبه المطل على النافذة، يتفحص الشاشة أمامه.

(يرتدي النظارات مرة أخرى…)

وقعت عيناي على نظارته التي استقرت على أنفه المستقيم.

مظهره، الممزوج بجديته والنظارات، جعل ملامحه تبدو أكثر حدة من المعتاد.

كان أول مرة أراه فيها بهذا الشكل وهو يعمل داخل مكتبه، بدا غريبًا عليّ.

مختلفًا تمامًا عن صورته المرحة والماكرة التي اعتدت رؤيتها منه.

كان منغمسًا في عمله إلى درجة أنه لم يلتفت إليّ.

كنت على وشك أن أجلس على الأريكة، حين وصلني صوته.

“بما أنكِ دخلتِ، فتكلمي بشأن ما جئتِ لأجله لا، انتظري، هل يمكنك الاتصال بالسكرتير هان؟”

“……”

“سمعتُ أنه لا توجد نشرة أخبار لكِ اليوم، لكنكِ لم تردّي على رسالتي قولي لهان أن يذهب إلى محطة البث ويتأكد…”

يبدو أن جايها ظنني سكرتيره وأخذ يوجّه لي التعليمات.

أثار استغرابي كيف علم بعدم وجود بث مباشر لي اليوم.

حدّقت فيه وأنا أضمّ ذراعيّ، مدهوشة من دقة مصادره وسرعتها.

(إذًا، كان دائمًا يتابعني من خلال السكرتير هان؟)

ليس غريبًا إذًا أن السكرتيرة الجديدة –التي رأيتها اليوم لأول مرة– كانت تعرفني مسبقًا.

ولما لم يأتِ أي ردّ مني، رفع جايها رأسه عن المستندات التي كان يتصفحها، وقال:

“يبدو أن السكرتير هان لن يحتاج إلى الذهاب بعد الآن.”

وحين التقت أعيننا في الهواء، أنزل الأوراق من يده.

ظهر على وجهه الذهول من رؤيتي المفاجئة.

“متى جئتِ؟”

“قبل قليل رأيت رسالتك، لكنني لم أرد، لأنني كنت أنوي الحضور.”

“كنتِ لتخبريني على الأقل… ظللتُ أفكر في مكانك طوال الوقت.”

ابتسم بارتياح وهو يسترخي في كرسيه ويميل إلى الوراء.

نقلت بصري بعيدًا عنه، أتفحص المكان من حولي.

“لكن بذلك كنت سأُفسد مفاجأة الزيارة.”

“مفاجأة؟”

“أول مرة أزور مكتبك هكذا تعمل إذًا؟”

كان المكتب منظمًا بدقة، تمامًا كشخصيته.

من الرفوف إلى الطاولة، حتى السجادة على الأرض، كل شيء كان مرتبًا بعناية.

وأنا أتجول بعينيّ في المكان، اقتربت من مكتبه.

رأيت اللوحة المكتبية التي كُتب عليها: “المدير التنفيذي لمجموعة W، سو جايها”.

رغم أنني من منحته هذا المنصب، بدا كأنه وُلد ليكون فيه.

لا أعتقد أن أحدًا غيره يمكنه أن يُجسّد صورة W بهذا الشكل المثالي.

“سيدي المدير، كما ترى، جئت دون موعد مسبق… هل يمكنني أن آخذ من وقتك القليل؟”

جلست على طرف مكتبه، مقابلة له، ونظرت إليه مباشرة.

راقبني جايها وهو يضع ذراعيه أمام صدره، كمن يحاول سبر نواياي.

“وإذا قلت لا، هل ستعودين أدراجك؟”

“بالطبع لا أتيت إلى هنا، فكيف لي أن أعود؟”

ضحك ساخرًا وكأنه لا يستطيع التعامل مع إصراري.

ثم حرّك كرسيه واقترب مني.

“ما سبب قدومك؟ كنتِ تتجنّبين المجيء طوال الوقت بسبب نظرات الناس.”

“……”

“هل طرأ شيء جعلكِ تغيّرين رأيك؟”

كانت نظراته عبر النظارات حادة، وكأنّه يحاول استشفاف ما يدور في داخلي.

“نظرات الناس؟ أعتقد أن كل البلاد الآن تعرف، فلم أعد أشعر بالحاجة لإخفاء شيء.”

بعد انتشار أخبار حفل تنصيبه، لم يعد هناك أحد لا يعرف عن علاقتنا.

ربما كان ذلك أفضل، فقد كان الأمر سيُكشف عاجلاً أم آجلاً، فلم يكن هناك جدوى من إخفائه.

اقتربت ركبتاه من قدميّ، وحين نظرت إليه، كان قد أسند ذقنه على الطاولة بزاوية، يرمقني بعينيه من أسفل.

حلّ مكان الذهول في وجهه نظرة ماكرة تحمل بعض الدلال.

“هل اشتقتِ إليّ لهذه الدرجة؟ كنا سنلتقي في المنزل على أية حال.”

“جايها، عندما تكون بهذه الطريقة، تصبح حقًا وقحًا أنا هنا لأن لدي سؤالًا أريد طرحه.”

“اسألي.”

هزّ رأسه بهدوء، وابتسم ابتسامة خفيفة كأنه يتحدى ما سأقوله.

بدأ الأمر وكأنني من تقود زمام الحديث، لكنني شعرت فجأة وكأنني أنا من ينجرف في تياره.

كان أول لقاء لنا في مكتبه، وسط بيئة غريبة عليّ، وبدت ملامحه فيها مختلفة تمامًا.

(لماذا يبدو مختلفًا جدًا اليوم؟)

كان يرتدي قميصًا أبيض بأكمام مرفوعة كعادته، لكن ساعديه المكشوفين بدا لهما اليوم طابع مثير على غير العادة.

عندها، مرّ في خاطري فجأة ما سمعته من الموظفات ذلك المساء…

قالت،

“سمعت اليوم شائعة مذهلة يقولون إن هذين الشخصين سيتزوجان، أليس كذلك؟”

“من تقصدين؟ جيهان وتشاي سورين؟ أم نحن الاثنان؟”

“جيهان وتشاي سورين خبر زواج تشاي سورين، التي استقالت مؤخرًا، انتشر الآن في أرجاء المحطة حتى إنها طالبت بإقامة الحفل هذا العام رغم صعوبة الأمر، ويقال إن الفندق وافق بكل ترحيب.”

كان جايها يجلس بشكل مائل، يحدّق بي بصمت بينما أواصل الحديث.

رؤية عدم تأثره بالخبر جعلتني أشك في أنه كان يعلم بالأمر مسبقًا.

“كنت تعرف؟”

“بالطبع، كنت أعرف.”

كما توقعت…

“أليس هذا غريبًا؟ ليست الأمور تُحلّ بالصراخ والمطالبة فقط. لهذا جئت لأسألك.”

لطالما ردّدت سورين أنها تريد إقامة حفل زفاف فاخر في فندق مثل L.

لذا من الممكن أنها طلبت طلبات مبالغًا فيها من جيهان.

لكن أن يكون الأمر تمّ فقط بتأثير جيهان لم يكن الأمر مقنعًا.

فهو لم يكن متحمسًا للزواج أصلًا، كما أن الوقت الحالي لا يسمح باتخاذ قرار متهور كهذا وسط أعين الإعلام.

وبما أن فندق L تديره عائلة جايها من طرف الأم، فقد أتيت إليه لأسأله.

بدا وكأنه فهم ما أرمي إليه، إذ ضاق عينيه بابتسامة خفيفة.

“هممم إذن جئت تسألينني فقط لأن الفندق يديره خالي، أليس كذلك؟ لأن ما يحدث غير منطقي.”

كان جايها قد قرأ مقصدي بدقة.

ثم ضحك ضحكة خفيفة أقرب للسخرية.

“لِمَ تضحك؟ هل هذا من تدبيرك، جايها؟”

“هل من المهم الآن زواج الآخرين؟ ألهذا السبب جئت إلى مكتبي، الذي لم تأتِ إليه من قبل؟”

نهض من مكانه، ووضع ذراعيه على المكتب الذي كنت أجلس عليه.

نظراته التي كانت لا تعجبه، ذهبت تقترب مني شيئًا فشيئًا.

“أريدك أن تفكري في زواجنا بهذه الجدية، يا يوجين.”

وحين اقترب من وجهي بهذا الشكل، التقت أعيننا.

وكلما نظرت أكثر إلى عينيه الثابتتين، ازداد يقيني أكثر.

إذًا هو من فعلها، كما توقعت.

“كنت أعلم… إذًا جايها أنت من دبر الأمر، أليس كذلك؟”

“نعم. حين رأيت أن تشاي سورين تريد إقامة حفل، زدت الأمر مبالغة.”

في تلك اللحظة، تذكرت ما حدث البارحة.

قال إنه لا يمكننا تأجيل زواجنا أكثر، وإنه سيسرع في الترتيبات.

إذًا لهذا السبب أراد الإسراع في الزواج.

كنت أظن أنه طرح موضوع الزواج فجأة دون سبب… لكنه كان يخطط لشيء ما.

“قريبًا سيكون هناك اجتماع على مائدة طعام على الأرجح سيكون ذلك للتعريف بتشاي سورين إلى نائب الرئيس والسيدة أوه.”

“اجتماع طعام؟”

“نعم بما أن الرئيس سوه غائب حاليًا بداعي الراحة، فالسيدة أوه ستغتنم الفرصة للتحقق من الخطيبة المحتملة.”

سمعت أن الرئيس سو موجين غادر لقضاء فترة راحة بسبب تدهور صحته، ولأنه لم يعد يحتمل رؤية حفيديه يتصدران عناوين الصحف يومًا بعد يوم.

وبما أن السيدة أوه لا تستطيع التحرك بحرية في وجوده، فهذا الوقت مثالي لها.

تشاي سورين تنوي استغلال هذا الاجتماع لتفرض زواجها.

من المؤكد أنها الآن قلقة على موقعها المهتز، وتحاول جاهدة تثبيت مكانتها.

وستحاول بكل ما أوتيت أن تجعل هذا الزواج حقيقة.

“هل أجبت عن كل ما كنتِ تتساءلين عنه، يا يوجين؟”

“نعم بفضلك، كل شيء أصبح واضحًا الآن.”

كنت مشغولة بالتفكير، فلم ألاحظ أنه كان يحدّق بي بنظرة حانية.

لم تعد هناك أي حدة خلف نظراته من خلف النظارة.

حين شعرت بتغير نظرته، تسللت إليّ مشاعر غريبة فزمت شفتيّ وسعلت بتوتر.

وحين التفت لأنهي الحديث وهممت بالنهوض من على المكتب—

“إذن، أعتقد أنه حان الوقت لنتحدث عن قصتنا نحن.”

“هل تبقى شيء من قصتنا لنقوله؟”

“طبعًا ، لماذا تظنين أنني كلفت الفندق بكل هذا العناء ورتبت كل هذه الفوضى؟”

‘ألم يكن كل ذلك لتزويج هذين الاثنين؟’

لكنه بدا وكأنه يلمّح إلى شيء آخر، شيء أعمق.

نهض من مقعده أيضًا، ونظر إليّ وأنا أحدّق فيه وكأنني لا أفهم شيئًا.

“ذلك الاجتماع سيكون مناسبة للإعلان عن زواجنا نحن.”

“… زواجنا نحن؟”

“نعم  سنتزوج وربما قبل تشاي سورين و سو جيهان .”

                                                        • نهـاية الفصل •

            حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]