الكلمات التي قالها جايها عندما أوصلني حتى أمام محطة البث أخذت تدور في رأسي مرارًا وتكرارًا.
“يُسكَت على الشائعات بشائعات أخرى.”
ما الذي كان يقصده بذلك؟
“هل يُعقل أنه كان يعرف أنني أمرّ بظروف صعبة في محطة البث؟”
بدا أن جايها على علم بأنني أتعرض للتنمر داخل الشركة.
وصلت أمام قسم البرمجة، تنفست بعمق، ثم فتحت الباب.
فور دخولي، خيّم صمت بارد على المكتب، وكأن أحدهم سكب ماءً باردًا على الضجيج الذي كان فيه.
أثناء توجهي إلى مكتبي، شعرت بنظرات صامتة تلاحقني.
في أعماقي، رغبت فقط في أن أُغلق عينيّ بإحكام.
مكتبي الذي عدت إليه بعد غياب أسبوع، لم يتغير فيه شيء، على عكس نظرات الآخرين.
ما إن وضعت حقيبتي على الطاولة، حتى اقترب مني “يونغ جون” ، وهو يحدّق بي بقلق.
“يون، هل استرحتِ جيدًا؟”
“نعم، لقد استرحتُ… آه، لا، في الحقيقة قضيت وقتًا للتأمل ومراجعة النفس.”
أومأت له دون تفكير، ثم أدركت أن إجابتي كانت غير مناسبة، فعدّلتها بسرعة.
ضحك “يونغ جون” سونبي على مزاحي ذاك، وبدت ملامحه مشرقة.
“مراجعة نفس ماذا؟ لم تفعلي شيئًا خاطئًا أصلًا اعتبريها إجازة وحسب.”
“سأفعل على كل حال، لقد قضيت وقتًا جيدًا.”
“أجل، يبدو أنك استرحت فعلًا وجهك أصبح مشرقًا أكثر.”
بفضل من قضيت أسبوعًا في فيلا فاخرة آكل وألهو وأتنفس فقط، لا بد أن يلاحظ الفرق.
لكن سماع ملاحظة “يونغ جون” جعلني أشعر بالحرج دون سبب.
وبينما كنت أرتّب مكتبي مدفوعةً بشعور أنه يجب أن أفعل شيئًا، أثار سنباي موضوعًا آخر.
“صحيح، يون. لقد حاولت الاتصال بك، لكنك لم تردي.”
“آه، كنت في مكان لا يوجد فيه إشارة للاتصال.”
لم أكتشف مكالمته الفائتة إلا بعد عودتي إلى منزل جايها مساء البارحة.
وكانت الساعة متأخرة، فقررت أن أستفسر صباحًا.
“مكان لا توجد فيه إشارة؟ في هذا الزمن؟”
“أجل، لكنه موجود فعلًا.”
بدت على وجهه علامات الدهشة، وجمع حاجبيه في استغراب.
رغم أنني كنت أستطيع التواصل بسهولة، فقد وعدت جايها عند وصولي إلى الفيلا بألا أنشغل بالعالم الخارجي أثناء إقامتي هناك.
وهكذا، عشت أسبوعًا في عزلة تامة عن العالم، وعدت بعدها بهدوء.
لكن حين أفكر بالأمر الآن، يبدو أنه كان قرارًا صائبًا.
ربما بفضل ذلك، أصبحت أشعر براحة نفسية أكبر.
“هل حدث شيء؟ كنت سأرد على مكالمتك اليوم على أي حال.”
“لا، لا شيء مهم كنت فقط أود الاطمئنان عليك على كل حال، طالما أنك تبدين بخير، فهذا كافٍ.”
“كما توقعت، لا أحد يقلق عليّ سوى سنباي.”
وبينما كنت أبتسم وأتحدث معه، فُتح باب قسم البرمجة، وأطلّ وجه مألوف، ولوّح لي بيده.
كان موظف الأخبار الذي وعدته بلقاء هذا الصباح.
نظر “يونغ جون” سنباي إليّ ثم إلى الموظف، وسأل باستغراب:
“ما الأمر؟ يبدو أن جونغ مين يناديك؟ هل كان بينكما موعد هذا الصباح؟”
“نعم، أنا من طلب مقابلته لأمرٍ ما.”
“أنتِ؟”
أومأت برأسي، ثم وقفت قبل أن يبدأ سينباي بطرح مزيد من الأسئلة.
إن بدأت الحديث، سأضطر لسرد القصة من بدايتها إلى نهايتها.
“سنباي، سأخبرك بالتفاصيل بعد أن أعود أراك لاحقًا.”
غادرت المكتب تاركةً وراءي “يونغ جون” يحدّق بي بوجه مليء بالفضول، يكاد يصرخ “أريد أن أعرف!”
وأثناء خروجي، شعرت بنظرات زملائي التي لا تزال تلاحقني من الخلف.
رغم أنهم لا بد قد قرأوا مقال جايها الذي ينفي الإشاعات، إلا أن مشاعر الحذر تُجاهي ما تزال حاضرة بقوة.
“إن أردت أن أستعيد مكاني السابق، سأحتاج إلى ضربة قوية.”
وبينما كنت أفكر في كيفية حلّ الأمر، التقت عيناي بعيني “جونغ مين” الذي كان ينتظرني أمام الباب.
ابتسمت له ورحّبت به بلطف.
***
كنا سنذهب إلى مقهى الشركة، لكنه كان مكتظًا بالناس رغم الصباح الباكر، فقرّرنا التوجه إلى مقهى خارجي.
ما إن جلستُ قبالته، حتى تذكرت وقت تواصلي معه.
اتصلت به في وقتٍ متأخر من الليل بعد عودتي إلى سيول قرب نهاية عطلة نهاية الأسبوع، ومع ذلك لم يُبدِ أي انزعاج.
“آسفة لأنني تواصلت معك في عطلة نهاية الأسبوع كان ذلك تصرفًا غير مهذب، أليس كذلك؟”
“لا أبدًا، لا بأس ما دام الموضوع لا يتعلق بالعمل، فلا مشكلة.”
لوّح بيده نافيًا أي انزعاج، مطمئنًا إياي بابتسامة لطيفة.
في البداية، كنت محتارة بشأن كيفية توضيح الشائعات التي انتشرت حولي.
فهي ليست إشاعة أو اثنتين فقط.
الإشاعات المتعلقة بعلاقتي بجايها تم حلّها بفضل الفيديو الذي عرضه في حفل تنصيبه، بالإضافة إلى المقالات التي نُشرت لاحقًا.
لكن ما لم أتمكن من معالجته بعد، كان الأمر المتعلّق بوالديّ.
الإشاعة بأني ابنة عاقّة كانت أكثر ما يزعجني.
رغم أن “سورين” هي من اختلقت تلك الإشاعة لتضعني في موقف حرج، إلا أن الناس صدقوها بسهولة.
وهذا يعني أن الناس لا يهتمون ما إن كانت الشائعة صحيحة أم لا، بل يصدقون فقط ما يرونه بأعينهم.
لذا، بحثت عن شخص يمكنه توضيح الأمر بدلاً مني.
وكان “جونغ مين” هو ذلك الشخص، فقد التقيت به سابقًا في المستشفى الذي يتلقى فيه والديّ العلاج.
توقعت أن يكون لكلماته تأثير أكبر من أن أدافع عن نفسي بنفسي.
“لديّ طلب مزعج بعض الشيء، فهل بإمكاني أن أطلبه؟”
“طلب؟ طالما هو شيء يمكنني المساعدة فيه، فلا بأس على الإطلاق.”
أجابني مبتسمًا وكأنه كان يعلم مسبقًا سبب طلبي اللقاء.
ربما لأنه يعمل مع “يونغ جون” سنباي ، فقد يكون سمع بعض الأحاديث.
“قد يكون من المحرج قول هذا، لكن هناك الكثير من الشائعات عني وأكثر ما أود توضيحه هو موضوع كوني ابنةً عاقّة.”
“آه…”
هزّ رأسه متفهمًا، وكأنه أدرك حجم المعاناة التي تسببت بها تلك الإشاعة.
بأي نية كانت تُنشر مثل تلك الأقاويل التي لا أساس لها؟ أعلم مقصدهم، لكن لا أظن أنه بإمكاني تجاهل الأمر بعد الآن. لذا…”
“لا داعي لأن تقولي شيئاً آخر، لقد فهمت قصدك أنا أيضاً لم أعلم بالأمر إلا بعد أن عدت للعمل مجددًا، لكن تلك الشائعة السخيفة ظلت تزعجني طوال الوقت.”
أخذ يبتسم بعينيه المستديرتين كانت ابتسامته من النوع الذي يبعث الطمأنينة في النفس.
شعوري بالقلق من أن طلبي قد يكون مبالغاً فيه بدأ يتلاشى تدريجيًا.
“ المذيعة، كيف يمكنني مساعدتك؟ هل لديك خطة محددة في بالك؟”
“لا أستطيع تسميتها خطة، ليست بهذه الضخامة، لكن بما أن المشكلة بدأت من مجتمع العمل الداخلي، فكرت أن تنتهي فيه أيضًا.”
استمع إلى حديثي، ثم بدت عليه علامات التفكير، قبل أن يومئ برأسه موافقًا.
“آه، المجتمع الداخلي إذًا… أظنني بدأت أفهم كيف يمكننا التصرف.”
“……”
“أنا بارع نوعًا ما في كتابة النصوص، على ما أظن وأعتقد أنني الشخص الأنسب لحل هذه المشكلة، أليس كذلك؟”
قال ذلك وهو يبتسم بمكر.
***
خرجت من المقهى وعدت في طريقي نحو محطة البث.
كان الموظف جونغ مين قد تلقى مكالمة عاجلة فعاد إلى المحطة قبلي، لذا كنت أمشي وحدي.
(يبدو أن السيد جونغ مين يملك شخصية مرحة أكثر مما كنت أتصور…)
وافق على فكرتي بحل المشكلة من داخل المجتمع الوظيفي، بما أن الشائعة نشأت فيه رغم أن طلبي كان قد يبدو مزعجًا كموظف، لم يُظهر أي تردد أو انزعاج.
وبينما كنت أستعيد الحديث الذي دار بيننا، بدأت محطة البث تلوح أمام ناظري.
في حياتي السابقة، لم يكن بيني وبين الناس سوى التحية في الممرات أو وقت البث.
لكن منذ عودتي، بدأت أشعر أن كثيرًا من الأمور من حولي قد تغيّرت.
“هل رأيتِ الرسالة؟ يقولون إن تلك المرأة حددت أخيرًا موعد زفافها!”
“حقًا؟ متى سيكون؟”
“لا أعلم الموعد بالضبط، لكن صديقة لي في فريق المذيعين أخبرتني بذلك سمعت أنها تُحضّر لحفل زفاف فاخر بكل معنى الكلمة، في قاعة فخمة وفستان باهظ الجميع يتحدث عن كم هو مبهر، حتى أنهم يغبطونها بشدة!”
رفعت رأسي عند سماع تلك الأصوات، كانت مجموعة من الموظفات أمامي يتحدثن.
وشعرت بالانزعاج لأن الموضوع بدا مألوفًا جدًا بالنسبة لي.
“أظنها كانت مذيعة في فريق الأخبار النهائية… هل كان اسمها تشا سُورين؟”
وكما توقعت، أكّد اسم “سورين” الذي خرج من فم إحداهن شكوكي.
حتى بعد استقالتها، لا زال اسمها يتردد بين الناس بهذا الشكل، ما كان أمرًا مثيرًا للدهشة.
“نعم، لقد لفتت الأنظار منذ أول ظهور لها بسبب جمالها تفقدي الرسالة، يقولون إن الزفاف سيكون في فندق L.”
“ماذا؟ فندق L؟ أوه، هذا يُثير غيرتي بشدة بغض النظر عما إذا كانت تفتقد للأخلاق، فهي في النهاية ستصبح زوجة رجل من عائلة ثرية.”
نظرت إحداهن إلى هاتف زميلتها الذي أُعطي لها، وظهرت على وجهها علامات الانزعاج والغيرة.
يبدو أن خبر زواج سورين قد انتشر بين الموظفين كإشاعة متداولة.
(في هذا التوقيت السيئ؟ حفل زفاف؟ مستحيل…)
لو كنت سأحكم من تصرفات جيهان حتى الآن، فلا يبدو أبدًا أنه من النوع الذي سيدفع باتجاه إقامة الزفاف.
فبعد مقال الفسخ الذي أسقط صورته وصورة العائلة المالكة بأكملها، من المستبعد أن يتحمل فضائح جديدة ويقيم حفل زفاف.
(السيد سيو جيهان الذي أعرفه مستحيل أن يفعل ذلك إن سمعته ومكانته أهم من أي شيء.)
وهذا يعني أن ما يحدث هو على الأغلب من تخطيط سورين وحدها.
يبدو أنها كانت تُدبّر أمرًا ما أثناء وجودي مع جايها في الفيلا.
(من المؤكد أن جايها يعرف بالأمر… فلماذا لم يخبرني؟)
لطالما كان سريع الوصول إلى الأخبار، وبما أن الفندق هو فندق L، فلا مجال للشك.
عادت أصوات النساء المليئة بالغيرة تتردد إلى أذني مجددًا.
“صحيح، الجميع يسبّها من الأمام، لكن في الحقيقة كلهم يغبطونها من الخلف.”
“صراحة، زوجها المستقبلي ناجح، غني، من عائلة عريقة، وحتى وسيم. الآن الناس يشتمونها، لكنها ستعيش حياة مترفة، وبعد وقت سينسى الناس كل شيء.”
“عذرًا، من فضلكن.”
كان الجميع يشتم خيانتها علنًا، لكن في السر، كانوا يغبطونها على مكانتها وثروتها.
توقفت عن الاستماع إليهن ورفعت صوتي لمناداة الموظفات.
(سأتحقق بنفسي.)
توقفت النساء اللاتي كنّ يسرن أمامي، والتفتن إليّ عند سماع صوتي.
وحين أدركن أنني أنا من ناداهن، تجمدن في أماكنهم.
“آ، آنسة المذيعة…”
يبدو أنهم لم يتوقعو أبدًا أن أكون خلفهم ، وظهر الذهول على وجوههم.
ورغم أن الحديث كان عن سورين، كنّ مدركات أن فحواه لا يسرني إطلاقًا.
وبينما وقفو في حرج، ابتسمت لهن بهدوء وقلت:
“سمعت الحديث من غير قصد، هل بإمكانكم إرسال تلك الرسالة لي أيضًا؟”
رفعت هاتفي وأنا أبتسم لهم ، فبقين مذهولات غير قادرات على الكلام.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 58"