عندما أنهيت الاستحمام وعدت إلى غرفة النوم، كان “جايها” جالسًا على الأريكة يتفحص الجهاز اللوحي.
يبدو أنه كان يعمل بينما كنت أستحم.
“كنت تعمل؟ ظننتك في إجازة.”
“هي إجازة فعلًا، لكن وصَلَني أمر عاجل فاضطررت إلى التحقق منه سريعًا.”
(هل يضع نظارة حين يعمل؟)
رفع “جايها” نظارته قليلًا وكأنه يستعد للتركيز مجددًا، وكان على الطاولة أمامه رُزم من الأوراق مبعثرة بطريقة تُظهر مدى استعجاله.
(إحضاره لتلك الأوراق معه يعني أنه ضغط على نفسه ليأتي.)
من الواضح أن “جايها” اضطر لأخذ إجازة مجهدة ليتوافق مع جدولي.
أن أكتشف ذلك في آخر أيام الإجازة فقط.
كنت على وشك السير بهدوء إلى السرير حتى لا أُزعجه في عمله، حينما سُمِع صوته.
“هل ستنامين؟ هل أطفئ النور؟”
“ألست بحاجة إلى إنهاء عملك؟”
رفع “جايها” رأسه من على الجهاز اللوحي ونظر إليّ، ثم أشار إلى المصباح الجانبي بجانبه.
“يوجد ضوء للقراءة هنا وبقي فقط توقيع بعض الوثائق، لذا لن يستغرق الأمر طويلًا.”
عندما استلقيت على السرير، أحاطتني أغطية دافئة ناعمة.
وفي الغرفة الهادئة، كان الصوت الوحيد هو خشخشة الأوراق التي كان “جايها” يقلّبها.
(من المستحيل أن أستطيع النوم الآن.)
رغم أنني أغمضت عينيّ لأجبر نفسي على النوم، إلا أن أذني كانت ترصد بدقة كل صوت يصدر عنه.
في النهاية، التفتّ بجسدي ناحيته.
كان يبدو غارقًا تمامًا في عمله.
بدأت أنظر إليه… إلى عينيه المنكسرتين نحو الأوراق، ثم إلى أنفه المرتفع بوضوح، حتى توقفت عيناي عند شفتيه المنغلقَتين بهدوء.
عندما بدا وكأنه يفكر، حرّك شفتيه قليلًا، فارتفع وانخفض بلعومه ببطء.
“ما الأمر؟ هل لا تستطيعين النوم؟”
فوجئت بصوته بينما كنت مأخوذة بالتحديق فيه دون وعي.
كان قد رفع نظره إليّ دون أن أشعر.
“أم أنني أزعجك؟ هل يجب أن أنهي عملي في مكان آخر؟”
“لا، لا… ليس الأمر هكذا.”
هززت رأسي بهدوء.
“ليس بسببك يا جايها… أنا فقط لا أستطيع النوم عادة.”
حتى لو لم يكن يعمل، لا أظن أنني كنت سأنام.
هو لا يعلم بأني أعاني من الأرق، ويبدو أنه يظن أنني لا أستطيع النوم بسببه.
(والدواء الذي أتناوله لا يزال في المنزل…)
منذ عودتي في الزمن، لم أذق نومًا هانئًا دون دواء.
(لكن منذ جئت إلى هنا، كنت أنام في الفجر على الأقل.)
لكن فكرة أن الليلة هي الأخيرة جعلت النوم بعيد المنال.
“استرخاء الجسم مفيد للنوم أغلقي عينيك وحاولي إرخاء عضلاتك.”
“…”
“ابدئي من أطراف ساقيك، وارتخي تدريجيًا، ستنامين حينها.”
كنت أحدق فيه بعينين مفتوحتين تمامًا، فأشار إليّ بذقنه كأنما يأمرني بالتنفيذ.
نظرته كانت حازمة كأنه يصرّ على أن أتبع تعليماته.
(لكن هذه الطرق لا تجدي نفعًا معي…)
حتى العلاج السلوكي لم يُفلح.
أغلقت عينيّ تحت نظراته الضاغطة، لكن النتيجة كانت نفسها.
بل ربما صار الوضع أسوأ بمجرد إغلاقي لعينيّ، بدأت صورته تتضح في ذهني كلوحة مرسومة.
مجرد النوم في نفس الغرفة معه كان كافيًا لإرباكي.
حتى لو كنا على وشك الزواج، فنحن رجل وامرأة بالغَين في النهاية.
خاصة عندما أغمض عينيّ، أرى مشهده في المسبح يتكرر.
رغم أنه طلب مني إرخاء جسدي، إلا أن توتري ازداد.
وبينما كانت أفكاري تزدحم، بدأ جفنيّ يرتعشان قليلًا.
“قلت لك أن تنامي، لكن يبدو أنك تفكرين مجددًا، أليس كذلك؟”
عندما سمعت صوته الهادئ، فتحت عينيّ ووجدت نظراته تلاقت مع نظراتي.
“جايها… هل يمكنني سؤالك عن شيء؟”
تذكرت فجأة الغرفة التي كانت مغلقة عندما جئت لأول مرة.
في الحقيقة، كنت أتساءل عنها في كل مرة أمرّ بها، لكن كان يبدو أن لها قصة، فلم أشأ أن أسأل.
اكتفى “جايها” بالإيماء برأسه دون كلام.
“أعني الغرفة المغلقة كنت أتساءل ما الذي بداخلها جميع الغرف الأخرى مفتوحة، فلماذا تلك مغلقة فقط؟”
“… هل كانت تلك الغرفة تُشغلك إلى درجة أنك لم تستطيعي النوم؟”
“ليس تمامًا، فقط شعرت بالفضول فجأة.”
في الواقع، كانت تلك الغرفة تشغلني طوال فترة إقامتي.
ضحك “جايها” بخفة وكأنه ظن أن الغرفة هي ما أفسد نومي.
“همم… لا أظن أن هذه قصة مناسبة قبل النوم.”
اهتزت عيناه للحظة وكأنه يتردد، ثم استعاد نظراته الهادئة المعتادة وأكمل:
“أخبرتك من قبل أن مالكة هذا الكوخ هي أمي، أليس كذلك؟ الغرفة المغلقة كانت ورشة عملها.”
“ورشة عمل؟”
“كانت فنانة تشكيلية عندما كانت تستعد لمعارضها، كانت تمكث هنا لترسم أعمالها وأنا، حين كنت صغيرًا، كنت أزعجها لأني أظن أن المكان ممل، ولم أعلم أن تلك ستكون ذكرياتي الوحيدة معها.”
تذكرت فجأة أنه قيل لي قبل سنوات إن والدته كانت فنانة مشهورة في الفن الحديث.
ظهر على “جايها” تعبير حزين وكأنه يستذكر والدته الراحلة.
“رغم أنها كانت مريضة أصلًا، لم نتوقع أن ترحل بهذه السرعة.”
قيل إنه فقد والدته قبل أن يدخل المدرسة المتوسطة.
وأذكر أنني حضرت جنازتها برفقة جدي، وإن كانت الذكرى باهتة.
“رغم أننا فرّغنا أغراضها بعد وفاتها، لم أرغب في المساس بتلك الغرفة كانت المكان الوحيد الذي لم تلمسه أيدي هوجين.”
(لم أكن أعلم أن هناك هذه القصة خلف الغرفة…)
كلامه لم يكن خفيفًا ليستمع له قبل النوم، ولذلك شعرت أنني صُحوت فجأة.
جلست بعدما كنت مستلقية.
“هذا مكان ثمين بالنسبة لك، هل كان من اللائق أن أُقيم فيه؟”
“لا داعي لهذا الكلام… لكن، كما توقعت، نظرتك تقول إن النوم قد طار من عينيك تمامًا.”
نهض “جايها” من مكانه وابتسم بخفة، ثم تقدم نحوي.
“قبل أن نعود، أريد الحصول على إجابة منك، يا يوجين.”
“أي إجابة؟”
(لِمَ يقترب هكذا؟)
ظهرت على وجه “جايها” نظرة غامضة، ثم جلس بجانبي على السرير.
عندما تحرّك، سُمِع صوت احتكاك الغطاء بهدوء.
كلما اقترب، ازداد اضطراب نبضات قلبي.
لم أعد أعرف أين أنظر من شدة اقترابه.
“يبدو أن الوقت قد حان لنتعجّل قليلًا.”
(نتعجّل؟ في ماذا؟)
منذ أن صعد إلى السرير، توترت كل أعصابي، وصار تركيزي كله عليه.
“… في ماذا بالتحديد؟”
“ما رأيكِ؟”
رده جعلني في حيرة أكبر، فارتبكت تمامًا بينما هو ينظر إليّ بنظرة تقول “لا أملك لك حلاً”.
ثم ابتسم بهدوء، شيئًا فشيئًا.
“أنا… لا أفهم ما الذي تقصده، جايها.”
“ها قد عُدنا إلى نفس النقطة… أنا فقط من أشعر بالعجلة إذن.”
(عجلة؟ لكن على ماذا؟!)
نظرت إليه بوجه مائل للتجهم، إذ لم أستطع أن أفهم ما يقصده.
ثم تابع بابتسامة صريحة:
“زواجنا لا أظن أن بإمكاننا تأجيله أكثر من هذا.”
“…”
“عندما نعود، سأسرع بإجراءات الزواج فورًا فقط، أردت أن تعلمي.”
(صحيح… الزفاف!)
بسبب الحوادث والوقائع التي اجتاحتني مؤخرًا دون هوادة، نسيت أمر الزواج المهم بالفعل.
قال ذلك جايها وهو يخلع نظارته ويضعها على الطاولة الجانبية، ثم اقترب مني.
“لماذا يقترب مجددًا؟”
ما إن اختفت النظارة من على وجهه، حتى بدت حدقتا عينيه السوداوين أكثر وضوحًا ومع اقترابه الشديد، حتى باتت شفاهه قاب قوسين أو أدنى من ملامسة شفاهي، نسيت كيف أتنفس.
“سأطفئ الضوء، لذا نامي الآن.”
هكذا، وبعد أن ظلت أعيننا متشابكة لفترة طويلة، هو من كسر الصمت أولًا.
“ماذا عنك يا جايها؟ أليس عليك أن تعمل؟”
“سأنام أيضًا، لقد تأخر الوقت، وسنعود غدًا على أية حال.”
شعرت ببعض الأسى حين فكرت أنه حان وقت العودة إلى سيول، لكن لم أملك الوقت لأغرق في ذلك الشعور.
استدار جايها نحو الساعة التي اقتربت من منتصف الليل، ثم التفت إليّ بجسده، ورسم على شفتيه ابتسامة خافتة.
“ربما لن أتمكن من النوم بسهولة الليلة أيضًا، لكن سأحاول.”
“…….”
“تصبحين على خير.”
وعند انتهاء كلماته، مد يده خلفي.
وبصوت طقطقة خافت، انطفأ المصباح، وعمّ الظلام الغرفة فجأة.
***
“أيعقل أن وقت العودة قد حل بالفعل؟”
مرّ أسبوع كالحلم، وها أنا أعود إلى العمل مجددًا.
ألقيت نظرة جانبية على جايها، الذي كان يبدو غارقًا في أفكاره أثناء القيادة.
قضيت وقتًا معه في الفيلا، وخلاله تغيّرت نظرتي إليه كثيرًا.
في البداية، كنت خائفة من التورط معه، سواء عاطفيًا أو بأي شكلٍ كان ولهذا وضعت حدًا واضحًا بيننا باعتباره شريكًا في الانتقام، وحاولت ألا أتخطى ذلك الحد.
لكن، ربما لأني كنت شديدة الوعي به، بدأت أشعر أني أتورط معه شيئًا فشيئًا، بطريقة لا مفرّ منها.
ولهذا قررت أن أضع مشاعري جانبًا.
ففي النهاية، خلال السنة المقبلة، سواء أردنا أم لا، سنظل مرتبطين.
وعندما اتخذت قرار التوقف عن دفعه بعيدًا دون سبب، شعرت براحة في صدري.
نظرت من بعيد إلى محطة البث التي بدأت تظهر، وتحدثت إليه:
“لقد مرّ الأسبوع بسرعة كبيرة. لا أصدق أنني أعود للعمل بالفعل.”
“أجل، وصلنا أمام محطة البث بالفعل.”
يبدو أن جايها شاركني الشعور بأن الوقت مرّ بسرعة، فهز رأسه موافقًا.
توقف سيارته ببطء أمام المحطة.
“شكرًا لإيصالي.”
“لا داعي، فالطريق واحد.”
وقبل أن أفتح الباب وأنزل بعد شكري له، سألني فجأة:
“لكن، لماذا ذهبتِ إلى العمل بهذه البكرة اليوم؟ ليس هذا وقت دوامك المعتاد.”
كان ينظر إلى الساعة، ويتساءل عن سبب قدومي المبكر.
في الحقيقة، كنت قد خططت للمرور بالمكتب في الصباح، ثم الذهاب إلى مستشفى والديّ لأقابل أحد موظفي فريق الأخبار، الذي كنت قد التقيت به هناك مسبقًا.
كنت أريد توضيح الأمور حول الشائعات التي طالتني.
صحيح أن هناك الكثير من الشائعات، لكن أكثر ما رغبت في توضيحه هو ما يخص والديّ.
“لديّ موعد مع أحد الأشخاص هذا الصباح.”
“من؟”
سألني بلهفة حين سمع أن لدي موعدًا، ثم أمسك بي وسحبني لأجلس مجددًا في المقعد بجانبه.
“لا تقولي… إنه رجل؟”
نظر إليّ بوجه جاد، وكأنه يتحرى عن أمر في غاية الأهمية.
كان لا يزال ممسكًا بطرف قميصي، دون أن يفكر في تركه، وملامحه متجهمة بعض الشيء.
شعرت بالارتباك من تصرفه، فهو بدا وكأنه يغار، وقلت له:
“نعم، رجل أحد موظفي فريق الأخبار لدينا.”
“ولماذا تلتقين بأحد موظفي الفريق في هذا الوقت المبكر من الصباح؟”
صوته المتذمر تسلل إلى أذني ولما رأيت وجهه المليء بعدم الارتياح، لم أتمالك نفسي من الابتسام.
بدا وكأنه يغار فعلًا.
تساءلت في داخلي، هل هذا هو السبب فعلًا؟ ثم نظرت إليه مطولًا، وإذا به يشيح بنظره عني أولًا.
“لابد أنه أمر مهم، أليس كذلك؟”
“ما الأمر إذًا؟”
ظل ينظر إليّ، مسندًا رأسه إلى عجلة القيادة، وكأنه لن يتركني ما لم أخبره بكل شيء.
تبادلت النظر بينه وبين يده التي كانت لا تزال ممسكة بقميصي، ثم تنهدت ببطء.
“التقيته في مستشفى دايجين من قبل كنت أنتظر توقيتًا مناسبًا لتوضيح الأمور، لكن أظن أن الوقت قد حان لأزيل ما تراكم من سوء فهم ولمَ أخبرك بكل هذا؟ على كل حال، سأذهب الآن.”
“أفهم، هذا هو السبب إذن.”
وأنا أتكلم، شعرت وكأنني أبوح له بالكثير دون وعي.
رسم ابتسامة لطيفة على شفتيه وهو ينظر إليّ برأس مائل بعض الشيء.
“تلك الابتسامة… لقد انجرفت مجددًا.”
ما إن نزلت من السيارة، حتى أنزل جايها نافذته ناحيتي وقال:
“تلك الشائعات… يجب أن توضحيها فعلًا أعلم أنك ستتمكنين من حلّها، لكن إن احتجتِ لأي مساعدة، أخبريني في أي وقت.”
“…….”
“فالطريقة الأفضل لإخماد الشائعات، هي بشائعة مضادة.”
تأملت سيارته وهي تبتعد، بينما تركتني كلماته في حيرة، ثم توجهت نحو محطة البث.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 57"