عاد جيهان إلى المنزل وشرب قارورة ماء دفعة واحدة.
تحركت تفاحة آدم في حلقه بسرعة وهو يبتلع الماء دون توقف.
“هاه.”
أمسك بقارورة الماء التي فرغت في لمح البصر.
رغم أنه أنهى زجاجة كاملة، إلا أن العطش الذي كان يلتهم جسده لم يهدأ.
فك ربطة عنقه التي كانت تخنقه بانزعاج.
ما حدث قبل قليل مع السيدة أوه مرّ في رأسه، فعبس جبينه.
قالت له بوضوح إنهما توجّها مباشرة إلى الفيلا.
وإن كانت تلك الأرض من ممتلكات جايها التي ورثها عن والدته، فلا بد أنها الفيلا في بيونغتشانغ.
وهي مكان لا يستطيع حتى رئيس مجلس الإدارة أو نائب الرئيس المساس به بسهولة.
“ذهبا معاً إلى هناك…”
غمره شعور بالخيانة، فسحق قارورة الماء بين يديه بلا رحمة.
حين لمّحت السيدة أوه بإعادة العلاقة مع يوجين يوم عودتها إلى البلاد، كان قد علّق عليها آمالاً خفية.
فكل مشاكله، سواء المتعلقة بسمعته أو بخلافة المنصب، يمكن أن تُحل إذا عادت يوجين إليه.
ولو قبلت به من جديد، لكان مستعدًا لمحو كل ما حدث والبدء من جديد.
فقد كانت علاقة العائلتين متشابكة وعميقة ولا يمكن فكّها.
وكانت فكرة فسخ الخطوبة من الأساس غير منطقية.
“لكن… كيف يمكنها، وهي ليست مجنونة، أن تقرر الزواج من أخي؟”
فسخت خطوبتها منه، ثم فجأة أعلنت أنها ستتزوج من أخيه.
وهي تدرك جيدًا كم سيسبب لها ذلك من الحرج والضيق.
ورغم أنه لم يكن هناك تواصل بينهما، إلا أنهما كانا يعرفان بعضهما منذ ما قبل حفل الخطوبة بكثير.
لذا من المستحيل ألا تكون على دراية بكراهيته لجايها.
“لا، لا بد أنها تفعل ذلك عن قصد لأنها تعرف كل شيء.”
“اللعنة!”
انطلقت الشتائم من بين شفتي جيهان بحدّة.
“سو جايها”… حتى لو استيقظ من نومه، فإن سماع ذلك الاسم وحده يكفي ليجعله يرتعش من الغيظ.
لطالما عاش وكأنه مُلاحق بشيء ما، يتملكّه التوتر والقلق.
وبالرغم من شدة رغبته في أن يكون الوريث، فإن الوصول إلى ذلك كان دائمًا يبدو بعيدًا عنه.
منذ البداية، كان مختلفًا عن جايها حتى في الولادة.
ومع ذلك، أزاح جايها وتولى منصب المدير التنفيذي لمجموعة “هوجين”.
فقد انتزع تلك المكانة بعد جهد بالغ وعناء شديد.
“لماذا، بسبب خطأ واحد فقط، يجب أن أصل إلى هذه الحالة؟”
والآن، مكانته التي حصل عليها بصعوبة باتت مهددة بسبب زلة واحدة.
صحيح أنه أقام علاقة غير مناسبة مع صديقة يوجين المقربة، لكنه رأى أن ما يحدث الآن مبالغ فيه.
فمن البداية، علاقته بيوجين لم تكن مبنية على الحب.
“لماذا، بحق الجحيم…!”
لم يستطع طرد مشهد مقابلة جايها في مؤتمر تعيينه من ذهنه.
كان جايها واقفاً أمام الكاميرات، يصرّح بفخر أن خطيبته السابقة أصبحت الآن “امرأته”.
وكأنه رجل عاشق عظيم، لم يتردد في الحديث، بل كشف حتى عما حدث في أمريكا، الذي كان يفترض أن يظل سريًا.
“هاه…”
كلما فكّر بالأمر، غلى الدم في عروقه، فشدّ على أسنانه.
ثم رمى قارورة الماء التي في يده بقوة.
ارتطمت بالحائط وسقطت أرضًا، مشهدها بدا وكأنه يعبّر عن حاله تمامًا الآن.
“حسنًا، يجب أن أفكر.”
الأمر لا ينبغي أن يُعالج بالعاطفة عليه أن يتعامل مع هذه الأزمة بهدوء.
كان قد مدّ يده ليمررها بقسوة في شعره المتساقط على جانبه، حين بدأ هاتفه الموضوع على الطاولة بالاهتزاز.
ظهر اسم من ثلاثة أحرف على الشاشة، فبادر إلى قلب الهاتف على وجهه.
فهو شخص لا يرغب في رؤيته تمامًا مثلما لا يريد رؤية جايها.
وما إن خمد رنين الهاتف، حتى عاد يرن مرة أخرى.
شعر جيهان أنه إذا لم يرد، فسوف يستمر بالرنين طوال الليل.
فأمسك بالهاتف وتحدث بنبرة منخفضة مهددة:
“ما الأمر؟”
***
هبّت نسمة باردة تفوح منها رائحة العشب العطرة من مكانٍ ما.
سمع صوت الستائر وهي تُحرّك، ثم غمره نور الشمس الساطع، فعبس عينيه.
“هممم…”
أغمض عينيه بشدة ودفن وجهه في عمق الوسادة.
لكن زقزقة العصافير وضجيج الحركة حوله أزعجاه.
(مزعج…)
في النهاية، فرك عينيه ونهض.
حتى بنصف عين مفتوحة، كان يمكن تمييز شخصية جايها البارزة بسهولة.
كان يفتح الستائر، ثم التفت ناحيتي حين سمع صوت الفراش يتحرك.
“استيقظتِ؟”
“نعم… متى نمتُ أنا؟”
لم أستطع النوم لأنه كان نائمًا على الأريكة بجانب السرير.
لا، في الحقيقة، لم أتمكن من النوم لأنني كنت أفكر بما حدث عند المجلى.
حين دفعني حتى التصقت به، رأيت رغبة عارمة في عينيه.
لو لم أتوقف عن مداعبة قميصه آنذاك، لكان من الممكن أن يحدث شيء متهوّر.
عندما دخلنا كوريا، قال إنه كان يحب شخصًا ما.
لكن المشاعر التي أظهرها تجاهي كانت قريبة جدًا من الحب، ولا يمكن اعتبارها مجرد بقايا من الماضي.
فبينما كنت أعيش الليل كله أتأمل في تلك المشاعر التي لم أستطع حسمها، بزغ الفجر.
(مع أنني قضيت الليل كله مستيقظة…)
يبدو أنني غفوت دون أن أدرك متى.
جايها ناولني كوب ماء بينما كنت أجلس في السرير.
نظرتُ إليه بينما جلس على طرف السرير، وعادت إلى ذهني أحداث الليلة الماضية.
حين قال بجرأة: “لننم معًا”، ورفضتُ طلبه بحزم.
“سأنام على الأريكة، أنت نم على السرير.”
“لا بأس كيف أترك الضيف ينام على الأريكة؟ أنتِ نامي هنا.”
رغم أنني قلت إنني سأنام على الأريكة، إلا أنه دفعني بلطف إلى السرير.
كان قد استحمّ، وشعره كان لا يزال رطبًا بعض الشيء.
ناولته الكوب الفارغ الذي أنهيت محتواه.
“يبدو أنكِ نمتِ جيدًا وجهك مشرق.”
“حقًا؟ رغم أنني نمت متأخرة…”
(مستحيل…)
أخفيت وجهي من الإحراج تحت نظراته التي كانت تحدّق بي بهدوء.
مع أنني نمت متأخرة، إلا أنني أبدو بحالة جيدة؟
هز جايها رأسه عندما رأى وجهي المتورد خجلاً، ثم نهض من السرير.
“يبدو أنكِ استمتعتِ بالنوم لوحدك على السرير.”
كنتُ أنظر في المرآة الموضوعة على الطاولة الجانبية، أحاول تمشيط شعري المتشابك،
فجأة ظننت أنني سمعت خطأً، فرفعت رأسي.
“الأريكة صلبة جدًا، ما إن استيقظت حتى شعرت بألم في ظهري.”
“…؟”
“انزلي.”
صوته الخافت تردد في أذني مرة أخرى، وكأنه يؤكد لي أنني لم أسمع خطأً.
رفعت رأسي أنظر إليه بدهشة، فاستدار وغادر غرفة النوم.
بعد خروجه، ارتديت سترة قطنية خفيفة ونزلت إلى الطابق الأول. كنت أظنه في غرفة الطعام، لكن باب التراس المتصل بالفناء كان مفتوحًا بالكامل.
“السيد جايها، هل أنت هنا؟”
عندما خرجت إلى الخارج، رأيت الإفطار موضوعًا على طاولة التراس الخارجي.
كان يبدو وكأنه يتحدث في الهاتف، لكنه رفع رأسه عند سماع خطواتي.
جلست في المقعد المقابل له.
نظر إلي بطرف عينه، ثم أنهى المكالمة قائلاً إنه سيتصل لاحقًا.
الوجه الجالس أمامي لم يتغير عن المعتاد بدا وكأن ما أقلقني طوال الليل لم يكن يعني له شيئًا.
“ما كل هذا؟”
“إنه فطور لا أستطيع أن أتناول الكثير في الصباح، لذا أكتفي بشيء خفيف.”
“هل هذا يُعد خفيفًا؟”
كان الطعام كثيرًا لدرجة يمكن اعتباره وجبة كاملة، لا مجرد شيء خفيف كما قال.
أثناء دهنه الزبدة على شريحة خبز محمصة بشكل ذهبي، خطرت ببالي فكرة.
كنت أتساءل عن مدة هذه الإجازة.
“إلى متى سنبقى هنا؟”
“لم أحدد مدة معينة.”
“لا تنوِ البقاء هنا طوال فترة تعليقي عن العمل، أليس كذلك؟”
أنا موقوفة عن العمل لأسبوع، لكن وضعه مختلف، فهو يجب أن يذهب إلى العمل.
استند بيده إلى ذقنه وكأنه يفكر ولم يُجب فورًا.
“أتمنى ذلك، لكن لا أستطيع أن أغيب عن العمل لأسبوع كامل.”
“أليس كذلك؟”
“مع ذلك، سأحاول البقاء لأطول فترة ممكنة هذا المكان هو المفضل لدي.”
أخذ شريحة الخبز التي كنت أدهنها وأكمل دهنها بنفسه، ثم وضع فوقها الجبن ولحم البروشوتو وناولني إياها.
“إنه مثالي للاختباء.”
“……”
“ثم، لا ينقصه شيء رأيتِ المخيم البارحة، أليس كذلك؟”
وراءه تمامًا، امتدت الغابة الخضراء التي تحيط بالفيلا.
لم أنتبه لجمال المكان بسبب وصولنا ليلًا، لكن في ضوء النهار بدت المناظر خلابة.
رفع جايها رأسه نحو السماء الصافية الخالية من الغيوم وسألني:
“هل تحبين اللعب بالماء؟”
“الماء؟ تقصد السباحة مثلاً؟”
أومأت برأسي، مستفسرة إن كان يقصد المسبح.
“نعم، السباحة.”
“هل يوجد مسبح هنا أيضًا؟”
“بالطبع، هناك، في ذلك الاتجاه.”
توقفت عن تناول الخبز عند سماعي بوجود مسبح.
لم أر أي أثر له أثناء سيري إلى التراس.
لكن ما أثار دهشتي أكثر هو أن هذا العقار يحتوي على كل هذه المرافق.
وحتى لو بدا أن كل شيء في حالة ممتازة، إلا أن بعض التفاصيل الدقيقة التي لا تُلاحظ بسهولة كشفت أن المكان ليس جديدًا.
“ما هذا المكان؟ ومن قام ببنائه؟”
“في البداية، كانت مجرد فيلا عادية لكنها توسعت تدريجيًا بسبب طفل صغير كان يكره الشعور بالملل.”
“طفل صغير؟”
كنت أريد إجابة واضحة، لكن رده الغامض جعلني أقطب جبيني.
ابتسم جايها لي ابتسامة خفية وكأنه يعلم أن جوابه لم يكن كافيًا.
“إن كنتِ قد انتهيتِ من الأكل، فلنذهب سأريك المكان.”
.
.
.
ما إن سرنا قليلًا خلفه حتى ظهر أمامنا المسبح.
كانت المياه الزرقاء تملأ المسبح وتتلألأ تحت أشعة الشمس.
رؤية المسبح نفسه كانت مفاجأة، لكن حجمه الكبير أدهشني أكثر.
كانت الشمس تشرق بقوة وكأن الصيف بدأ باكرًا.
جايها، مرتديًا قميصًا قطنيًا بسيطًا، قفز مباشرة إلى الماء.
ما الذي يدور في رأس هذا الرجل؟
كان جايها من النوع الذي تظن أنك فهمته، لكنك في الواقع لا تعرف عنه شيئًا.
كنت أراقبه من على كرسي الاستلقاء، أتكئ على يدي.
كلما تحرك في الماء، كانت الأمواج الصغيرة تتشكل من حوله.
ثم رفع رأسه فوق السطح، يلهث بخفة.
“هاه…”
انحدرت المياه الشفافة على عنقه العريض، تسير على جلده القوي.
“هكذا لا أستطيع التحرك براحة.”
“……”
“هل يمكنني أن أخلعها؟”
يخلع ماذا؟
لم أنتبه إلا وقد استدار نحوي وخلع قميصه دون حتى أن ينتظر ردّي.
ثم مسح شعره المبلل الذي كان يلتصق بجبهته.
بدأت قطرات الماء التي تساقطت من جبينه تنزلق على صدره المفتوح.
كنت أحدق به بذهول، لكن أعيننا تلاقت فجأة.
شعرت بالإحراج وكأنني كنت أتجسس عليه، فجلست مستقيمة بسرعة.
“ألم يكن هناك لباس سباحة؟”
“لا لم أفكر حتى في تحضيره.”
كلما تحرك، كان صوت الماء المتناثر يصل إلى أذني.
اقترب مني أكثر ووضع قميصه الرطب بجانب كرسيي.
“لن تنزلي؟”
تقابلت نظراتنا مجددًا، كان يحدق بي بنظرة ساكنة.
ذراعه المستندة على حافة المسبح وصدره العريض كانا يختفيان ويظهران مع حركة الماء.
حتى من هذا البعد، لم أكن أعرف أين أوجه نظري.
لم أجرؤ على الاقتراب فهززت رأسي نفيًا.
“سأبقى على كرسي الاستلقاء استمتع وحدك.”
“ستشعرين بالحر إن بقيتِ هكذا. الشمس الآن في أوجها.”
“لا بأس.”
ابتلعت ريقي دون وعي.
كانت عيناه تراقبني بهدوء وأنا لم أتحرك من مكاني.
ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة.
لماذا يبتسم هكذا؟
تسارعت نبضات قلبي من ابتسامته الغامضة.
وفجأة، اضطرب سطح الماء وطفح خارج حدود المسبح.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 54"