توقفت سيارة جايها بعد مسيرة طويلة أمام إحدى القصور الصغيرة.
انطلقنا وقت غروب الشمس، لكن الظلام الحالك كان قد حل بالفعل.
«يقال إن هذا المكان مثالي للقاءات السرية.»
عندما نزلت من السيارة، لامس الهواء البارد القادم من الغابة خديَّ.
كان صوت الحشرات يرنّ هنا وهناك في المساحة الواسعة، في حين لم يظهر أي شيء غير القصر المنير بالكاد.
لم يكن في المكان إلا أنا وحدي، هادئًا وساكنًا كما لو أن الوجود اختفى.
«أين نحن حقًا؟»
رغم أنني عشت لمدة خمس سنوات كعروس ضمن عائلة هوجين، لم أسمع بوجود هذا القصر من قبل.
بينما كنت ألتفّ حول البقعة، شعرت فجأة ببصيص خلفي، فأُذهلت.
– “أفزعتني فعلاً! متى وصلت؟”
– “قبل قليل ما الذي أزعجك هكذا؟”
– “هو… لأن جايها اقترب مني فجأة.”
كان جايها قد أنهى ركن السيارة واقترب نحوي بنظرة مندهشة.
عندما تذكرت مدى صدمتي، خجلت وغيّرت الموضوع.
– “على فكرة، هل كان هناك هذا القصر هنا سابقًا؟”
– “نعم، هذا ملكي الخاص بالضبط، كان ملك والدتي.”
«لم أكن أعلم لأنه ليس من ممتلكات مجموعة هوجين.»
راقبني في الظلام بنظرة مركّزة، وفي لحظة شعرت بالحرج وأبعدت نظري، فوضع يده على يدي.
– “رغم أنه يوجد الجبال ولا يبدو فيه شيء، إلا أنه واسع ومتكامل.”
– “…”
– “سنكمل الحديث لاحقًا لكن أدخلي أولاً.”
***
لم تكن مبالغة لما قال جايها فداخل القصر بدا أوسع بكثير من الخارج.
ولعلّه أعطى أوامر لإعداد العشاء مسبقًا، إذ كان الطعام مُعدًا على مائدة الطعام.
تناولنا عشاءً بسيطًا، ثم خرجنا إلى الحديقة.
عندما اقترح جايها الخروج، ظننت أننا سنمشي فحسب.
ولكن بينما نمر على مسار الحديقة الخلفية، ظهر أمامنا معسكر صغير مزود بتجهيزات للتخييم.
نار تخييم في ظلمة الحديقة، أمامها طاولة وكرسيان معدّان، والمشروبات – من العصير إلى النبيذ – على الطاولة، وكأن هناك من أعد ذلك مسبقًا.
نظر إليّ جايها وسأل:
– “ما رأيك؟ اجلسي هنا.”
جلسنا في الكراسي، والأجواء كان من اللافت فيها أن التحدث بجدية بدا متوقعًا.
كان الموقف غريبًا بعض الشيء، يجمع بين الارتياح والضيق في آنٍ واحد.
كان صوت نار المخيم وهو يتكسر أمامنا العقبة الوحيدة في الصمت الحالك.
ولأول مرة، شعرت بشدة الإحراج والتوتر بوجودي أنا وجايها وحدنا.
«هل ينبغي أن أبدأ الحديث؟»
كنا بصدد العودة بعد الإجازة كانت خططي المستقبلية كثيرة؛ أودّ معرفة ما بداخله بالتحديد.
لكن ما أردت معرفته حقًا كان مختلفًا تمامًا.
هل قصد ما قاله في الفيديو حين صرح بوجود شخص يحبّه حقًا؟
إذا كان كذلك، فما الدافع الذي جعلني أشعر أنني أنا المقصودة؟
كلما عبرات أفكاري هذه، زاد شعوري بالضيق وكأن الطعام في صدري ثقيل، فرفعت كأس النبيذ.
كنت متوترة.
بمجرّد أن التفتّ إليه، بعد أن رآني أحبس أنفاسي، التقت أعيننا، وشعرت بالحرج الشديد، فطرحت عليه سؤالًا:
– “متى أعددت كل هذا؟”
ربما كان يعلم مسبقًا بأنني سأُجاز بعد خبر عقابي.
فالتحضير المسبق لمثل هذا الحدث لا يمكن أن يتم صدفة.
أجاب بثقة:
– “عندما سمعت أن يوجين ستحصلين على إجازة، أمرت المسؤول بذلك.”
– “بل هو عقاب! كنتُ في عزلة لخمسة أيام.”
– “هذه أو تلك، فالغاية هي التوقف عن العمل.”
«كيف يعادل هذا؟»
ضحكت ساخرة ، ثم أدرت وجهي إلى السماء التي باتت داكنة، حيث أضحت النجوم تتلألأ.
– “يا لها من مشهد نجوم نادر! في المدينة لا تراها هكذا على الإطلاق.”
همس جايها:
– “في سيول صعب ترى هذا بسبب أضواء المدينة أما هنا، فأنتِ في جبال منعزلة.”
– “صحيح في البداية كنت مرتبكة، لكن الآن أشعر بالارتياح التام.”
رغم أنّه الصيف، لكن برودة الجبال أضفت لهجة منعشة.
أغمضت عينيّ لأسمع زقزقة الرياح عبر الأشجار.
– “أنا سعيد بهذه الجلسة لكن عِدني بأن تخبريني دومًا عند خروجك.”
كنت على وشك الدخول في حالة تأمل عندما همس:
– “خاصةً إذا كان اللقاء مع السيدة أوه أو سو جيهان.”
فتحت عيني بحذر كان ينظر إليّ وكأنني طفلته الصغيرة.
– “أنتِ تعرفين أنك قادرة على التعامل وحدك، لكن لا تجرّبي إثارة السيدة أوه اليوم.”
– “…”
– “إنها ليست امرأة عادية، إنها شرسة.”
وقف مني عندما لاحظ أنني لم أكن أركز:
– “هل تصغين ولا تصغين في الوقت نفسه؟”
– “بالطبع أكون حذرة لكن يبدو أنك تبالغ في حرصك.”
– “حرص؟ إنها حماية معقولة.”
حدّقت به بعينين شبه مغمضتين بعدما رفع الكرسي القادم إليّ.
– “مهلاً، لماذا تلتقط هذا الكرسي؟”
– “لنتحدث وجهًا لوجه، يوجين.”
أعاد الكرسي لمقابلته، فتلاقى نظراتنا مباشرة.
استدرت لألتقط أنفاسي أمامه وهو يقترب.
– “ألا يبدو هذا كأنك تعامل طفلًا؟”
– “هل هو هكذا؟ لكن إن لم أفعل، لن تنظِري إليّ.”
أوقفت عيناي التي تحاول التملص، وعندما التقت بريق عينيه وسط لهب النار، توقفت الأنفاس.
رغم أنني كنت أتجنبه، إلا أن نظراته المتعمقة جعلتني أتوقّف وأنظر إليه.
” احيانًا يبدو أنك أكثر نضجًا وخبرة مني ، واحيانًا كأنك أصغر حتى من التاسعة والعشرين ، انتِ غريبة بعض الشي “
حدّق في عينيّ وكأنه يبحث عن إجابة لديّ.
وظللنا نتبادل النظر لوهلة، ثم كنت أنا من صرف بصره أولًا.
كنت أرتدي قناع التاسعة والعشرين، لكن في الحقيقة كنت في الرابعة والثلاثين بدا أن حاسة جايها حادة فعلًا.
الغريب أنني أمامه لم أكن أستطيع الكذب بسهولة وخصوصًا أمام تلك النظرات.
«التظاهر بعدم المعرفة أفضل.»
– “أنا دائمًا كما أنا، لا أشعر بأي اختلاف.”
– ”…”
– “بالمناسبة، هل سنبقى على هذا الوضع، وجوهنا متقابلة؟ إنه غير مريح.”
حاولت إعادة الكرسي الذي أمسك به إلى وضعه السابق، لكنه لم يتحرك.
لم يُبدِ جايها أي نية لترك الكرسي، فاستسلمت وعدت إلى الوضع السابق.
– “ما بك؟ سأكون حذرة في المستقبل.”
من شدة نظرات جايها الثاقبة، شعرت بجفاف في فمي، بل بعطش حقيقي.
مددت يدي لأتناول الكأس، لكن بسبب تحريك الكرسي لم أتمكن من الوصول إلى الطاولة.
– “هل تُعطيني الكأس هناك؟”
ناولني الكأس الذي كنت أشرب منه.
وحين شعرت برائحة النبيذ تنتشر في فمي، بدأ قلبي يهدأ تدريجيًّا.
لكن نظرات جايها التي تابعتني وأنا أشرب النبيذ دفعة واحدة كانت تحمل شيئًا غريبًا.
– “بالمناسبة، قلتِ أنكِ ستُسرعين في الزواج، فما خطتك؟”
– “أسرُع؟ أنا؟”
– “ألا تذكرين؟ غريب لقد حصل هذا اليوم.”
«اليوم؟»
حدّقت فيه بتعبير يدل على أنني لا أفهم، فتقطّب جبينه جايها.
جلس على الكرسي مائلًا، ونظر إليّ بعينين مازحتين.
– “نسيتي بهذه السرعة؟ كنتِ تتحدثين بكل طلاقة أمام السيدة أوه ظهيرة اليوم.”
«لا يعقل…»
في تلك اللحظة، تذكرت فجأة أن اتصال الهاتف كان ما يزال موصولًا مع جايها.
وبمجرد أن ذكر اسم السيدة أوه، بدأ قلبي ينبض بقوة.
– “سأتجاوز كل الإجراءات والتقاليد المملة، وسنبدأ بالحفل مباشرة.”
ردّد جايها كلماتي تمامًا، دون أن يغيّر فيها شيئًا.
– “السيدة الفاضلة، لقد ربيتِ ابنك جيدًا.”
كلما تابع الحديث، لم أستطع إغلاق فمي من شدة الذهول.
– “توقف! لحظة فقط!”
فكرت فورًا بالجملة التالية التي كنت على وشك قولها:
“” بفضلكم ، وقعت في حب جايها تمًاما “”
لكن هذه الجملة بالذات، لم أرغب أبدًا بسماعها بصوته.
ومن شدة استعجالي، نسيت أنني لا زلت أمسك بالكأس، فوضعت يدي على فمه لمنعه من المتابعة.
وفي تلك اللحظة، تمايل النبيذ داخل الكأس وانسكب على بلوزتي.
وقفت فجأة بسبب المفاجأة، بعدما بلّلت النبيذ الأحمر قميصي الأبيض.
– “أوه، لو أنكِ كنتِ أكثر حذرًا.”
قال ذلك وهو يزيل يدي التي كانت تغطي فمه.
– “هل تبللت أنت أيضًا؟ آسفة، لم أكن أنوي سكب شيء.”
ظننت أنني وحدي من تبللت، لكن بقعة النبيذ الأحمر كانت تمتد على قميصه الأبيض أيضًا.
شعرت بالحرج للحظة، ثم وضعت الكأس على الطاولة، واستدرت نحوه.
– “لماذا تتصرفين بهذا الشكل المشاكس؟”
– “هل هذه أول مرة أكون فيها هكذا؟”
هزّ كتفيه مبتسمًا، كانت ابتسامته تثير الغيظ.
لكن المشكلة أن هذا هو اللباس الوحيد الذي أرتديه.
نفضت بقع النبيذ المتناثرة على البلوزة وأنا أشعر بالارتباك.
– “هل لديك ملابس احتياطية؟”
– “طبعًا لا، من أين لي ذلك؟”
نظرت إليه بذهول، وقد فهمت أنه لا يملك أي ملابس بديلة.
ومع امتداد البقعة على ملابسي، بدأ القلق يتملكني وبدأت أبحث حولي.
– “ماذا تبحثين عنه؟”
– “العودة إلى الفيلا تستغرق وقتًا، والمسافة غير مناسبة الآن آه! ها هي!”
رأيت حوض الغسيل على مقربة، فأمسكت بيده وسحبته معي.
استمر صوت الماء المتدفق بقوة.
ولعدة دقائق، كنت أُحاول تنظيف البقعة الملطخة، لكن دون جدوى. كلما نظفت، ازداد القميص ابتلالًا.
بدأت أفكر في أنه ربما لا ينبغي لي ارتداء الأبيض إطلاقًا.
كان النبيذ والماء يجعلان الملابس تلتصق بجلدي، فكنت أُنفض البلوزة باستمرار.
«كم مرة أضطر للتخلي عن ملابسي بهذه الطريقة؟»
استدرت محبطةً، فرأيت جايها واقفًا بنفس وضعه السابق عند الحوض.
ونظرًا إلى قميصه الملطخ بالنبيذ، تنهدت بلا شعور.
– “لماذا تقف هكذا؟ اقترب.”
سحبته قريبًا من الحوض، وقد بدا أنه لا ينوي تنظيف نفسه.
صحيح أن ما فعله من مزاح ساهم في المشكلة، لكن المسؤولية الكبرى عليّ.
نظرت إلى قميصه المتسخ وراودني شعور بالذنب.
– “لا تزول بسهولة ماذا نفعل؟”
بللت قميصه بالماء، لكن البقعة الحمراء اتسعت أكثر.
بدأت أشك أن استخدام المنشفة لن ينفع.
– “هل لديك ملابس احتياطية؟ لا، أظن لا.”
تذكرت أنه لم يحضر أي حقيبة معه.
قررت أن التنظيف اليدوي سيكون أفضل، فوضعت المنشفة على الحوض.
ثم وضعت يدي على قميصه المبتل، فارتعش جايها.
وبسبب الماء الذي بلّ القميص، بدأت ملامح جسده تظهر من تحته.
عندها فقط، شعرت أن هناك شيئًا غير صحيح.
– “لنُنهِ الأمر.”
قالها بصوت منخفض عميق وهو يتنهد فوق رأسي.
وحين رفعت رأسي، التقت عيناي بعينيه.
ما الذي كنت أفعله الآن…؟
تفاجأت، وهممت بسحب يدي من على صدره، لكنه أمسك بها.
– “ما لا أستطيع تحمّله أكثر من البلل… هو هذه اليد.”
رفع يدي التي أمسكها كي أراها بوضوح.
شعرت بثقل في صدري لم تكن نظراته مازحة كما قبل.
– “فهمت، سأتوقف، فهل تتركني الآن؟”
تراجعت خطوة إلى الخلف عندما اقترب مني كثيرًا.
لكن يبدو أنه لاحظ نيتي في الهروب، فازدادت نظراته عمقًا.
واصلت التراجع حتى اصطدمت أطراف أصابعي بالحوض.
لم أكن قد أغلقت الصنبور تمامًا، لذا ظل صوت الماء المتدفق يغطي أنفاسي.
اقترب أكثر ووضع ذراعيه على كتفيّ.
ثم اقترب وجهه حتى أصبح ملاصقًا تقريبًا، وبسط يده الطويلة ليغلق صنبور الماء.
توقف صوت الماء، وساد الصمت.
وقفنا نتبادل النظرات بلا كلمة واحدة.
لم يكن هناك مكان للهروب، وشعرت بأنفاسه الثقيلة تلامسني.
وبينما كانت الرياح الباردة تهب من الغابة، انكمش جسدي دون وعي.
فالليل كان باردًا، ومع الماء، أصبح أكثر برودة.
– “يوجين… ما الذي ستفعلينه إن استمريتِ في إثارة مشاعري هكذا؟”
ثم همس باسمي بصوته الغريب… فتردد صداه في أذني.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 52"