ظلّ اقتراح السيدة “أوه” لي يتردد في رأسي كصدى.
كانت تحدق بي مباشرة، ولم يتغير في نظرتها شيء يدل على أن كلماتها لم تكن صادقة.
لم يكن في عينيها العجوزتين سوى ذلك البريق الحاد ، وكانّها تحاول قراءة أفكاري وكشف ما أخفيه
“أن تزيحي تشاي سورين من جانب سو جيهان؟ هل هذا حقيقي؟”
ساد الصمت الثقيل بيني وبينها.
لم تُبعد السيدة “أوه” نظرها عني حتى وضعت الكوب الذي كنت أمسكه.
“تقولين إنك ستُبعدين تلك المرأة؟”
“طبعًا، يا يوجين إن أردتِ، يمكنني إرسالها إلى الخارج بحيث لا تقترب أبدًا من المدير سيو.”
الدهشة عقدت لساني فلم أستطع حتى الضحك كم تستخف بي لتقدم مثل هذا الاقتراح السخيف.
لا شك أنها رأتني مجرد فتاة صغيرة في التاسعة والعشرين من عمري.
ومن ثم وصلت إلى تلك الفكرة الساذجة بأن التخلص من سورين، التي تظنها سبب كل المشاكل، سيكون كافيًا.
“يبدو أنها في عجلة من أمرها.”
لابد أن السيدة “أوه” كانت تعلم أن رئيس مجلس الإدارة سيو يعزّني كحفيدته.
ومن المؤكد أنها شعرت بأن مكانة “جيهان”، الذي فسخت خطبتي منه، أصبحت مهددة.
وما دام “جليها” الابن الأكبر موجودًا، فإن وراثة “جيهان” للمنصب لم تكن مضمونة، لذا فقد زاد قلقها.
لكن أن تكشف عن نواياها بهذا الشكل الفج، كيف يمكنها ذلك؟
راودتني فكرة أن هذا العرض لا يمكن أن يصدر إلا من السيدة “أوه”، فارتسمت على وجهي ابتسامة خفيفة.
ويبدو أنها ظنت أن ابتسامتي إشارة للموافقة، إذ بدت ملامحها أكثر إشراقًا.
“تقول إنها حامل، لكن لا يمكن التأكد بعد إن كان الطفل من جيهان، أليس كذلك؟”
“لا يُعقل أن تحيك مثل هذه المكيدة الساذجة ضد “هوجين”.”
“هذا لا يُعرف إلا بعد كشف الأوراق وحتى إن كان طفل جيهان، فلا تقلقي.”
عندما قالت إنه قد لا يكون طفل جيهان، لم أتمالك نفسي حتى اهتزّ حاجباي لا إراديًا.
كيف يمكن لأحد أن يفكر بهذا الشكل الوضيع؟
نظرت إليّ السيدة “أوه” بتعبير غامض.
ويبدو أنها كانت تظن أننا على موجة واحدة، فملأت كأس النبيذ من جديد وقد بدا على وجهها ارتياح ظاهر.
“يمكنك الوثوق بي لن أسمح لتلك المرأة بتربية الطفل أنا أقدّرك كأنك ابنتي.”
وضعت يدي على فمي من شدة الدهشة.
وبفضل لهجتها المليئة بالألفة، كدت أنفجر من الضحك.
“تقدّرينني؟ أنا؟”
كم مرة التقينا خلال خمس سنوات من حياتي السابقة؟
ما زلت لا أنسى النظرات المليئة بالاحتقار التي كانت تطلقها عليّ قبل طلاقي من “جيهان”.
كنتُ لا شيء بالنسبة لهما سوى أداة للنجاح، ومصدرًا محتملاً للمال.
كلما تذكرت ذلك، شعرت برغبة في الضحك، فخفضت رأسي.
“لا أستطيع تقبّل تلك المذيعة من أين ظهرت تلك المرأة عديمة الأصل لتلتصق بابني وتطلب الزواج؟ يا للعجب.”
”…….”
“سأتولى الأمر بنفسي وأنهيه لذا، عودي الآن.”
تماسكت وأعدت ترتيب ملامحي، ثم رفعت رأسي من جديد.
نظرة السيدة “أوه” وهي تحدق بي تشبه نظرة وحش مفترس أمام فريسته.
“ألم تتبادلا المشاعر خلال تلك الفترة؟ فكّري في الأوقات التي قضيتموها معًا كل هذا سيزول.”
تقول إننا ارتبطنا بمشاعر، وتطلب أن أعود؟
هل كانت بيني وبين “جيهان” مشاعر دافئة أو تبادل عاطفي يستحق أن يُطلق عليه “ارتباط”؟
أنزلت شوكتي التي كنت أحرّك بها الطعام في صحنٍ فقد طعمه منذ بدأت هذه الأحاديث.
“لم أكن أعلم أن حماتي تهتم بي إلى هذا الحد.”
وضعت المنديل على الطاولة.
ثم نظرت إلى السيدة “أوه”، التي أظهرت رد فعل مبالغ فيه لسماعي أطلق عليها “حماتي ”، وأكملت قولي.
“لكن، أعتقد أن عرضكِ جاء متأخرًا بعض الشيء.”
“ماذا؟ ماذا تقصدين بمتأخر؟”
“أعني أن العريس قد تغيّر ألم تسمعي بالأخبار، يا سيدتي؟”
حتى وإن كانت في أمريكا، لا شك أنها سمعت بخبر زفافي من “جايها”.
عندما نطقت بكلمة “العريس تغيّر”، لم تستطع السيدة “أوه” إخفاء ملامح الغضب التي اجتاحت وجهها دون رحمة.
“أنتِ…! هاه، هل كنتِ تضحكين عليّ طوال هذا الوقت؟! إذًا لماذا أتيتِ؟!”
“أضحك عليكِ؟ ألم تكوني أيضًا أمّ “جايها”؟ ظننت أنكِ دعيتني لأراكِ كخطيبة الابن الأكبر.”
ابتسمت بهدوء ووجهٍ مطمئن، فارتجفت زوايا عينيها.
لم أرَها من قبل بهذا الغضب طوال فترة حياتي ضمن عائلة “هوجين”.
ربما لأنها شعرت بأنها كانت لعبة في يدي، فكانت يدها التي أمسكت بكأس النبيذ ترتجف بشدة.
“ألم أقل لكِ؟ نواياكِ مكشوفة جدًا.”
رغم أنني كنت أعلم أنها تغلي من الداخل، إلا أنني واصلت الحديث وكأن شيئًا لم يكن.
“سنتجاوز جميع الإجراءات والتقاليد المعقدة، وسنقيم حفل الزفاف مباشرة.”
”…….”
“لقد أحسنتِ تربية “جايها”.”
رغم أنني أعلم أن السيدة “أوه” لم تربي “جايها” بيدها.
لكن بعد أن رأيت طبعها، أدركت كم هو رائع أن “جايها” نشأ بتلك الاستقامة.
رغم أننا بالكاد التقينا، إلا أنني أشعر بالإرهاق… فكيف لو عشتُ معها؟
كانت تشبه الضبع، مستعدة للانقضاض إن تركت لها فجوة صغيرة.
عيناها المليئتان بالطمع والمترصدتان لقلبي كانت ترهقني.
وما زاد الأمر سوءًا، رائحة العطر النفاذة ومساحيق التجميل التي كانت تفوح منها وتُشعرني بالصداع.
يا “جايها”، لقد كنتَ محاطًا بالأعداء من كل جانب.
أمضى “جايها” حياته وهو محاصر بأمه “أوه” وأخيه “جيهان” اللذين كانا يتحيّنان الفرصة لانتزاع مكانه.
مجرد التفكير في أنه عاش بينهما، جعل صدري يثقل.
شعرت أنه ربما عاش حياة أكثر خطورة مني.
“وبفضلكم، وقعت في حب “جايها”.”
عندما فكرت بـ”جيها”، ارتسمت على شفتي ابتسامة عفوية.
وعلى العكس من ابتسامتي، أخذ وجه السيدة “أوه” يفقد بريقه شيئًا فشيئًا.
“لا بد أنكِ سعيدة، يا سيدتي. لديكِ ابنان ناضجان.”
أخيرًا، اختفى القناع الذي غطّى وجه السيدة “أوه” بالمكياج السميك.
أظهرت لي وجهها الحقيقي المليء بالامتعاض، ونهضت من مكانها.
“يكفي!”
”…….”
“لقد عدت لتوي إلى كوريا بعد غياب طويل، وأشعر بالإرهاق عودي من حيث أتيتِ.”
وكان هذا ما أريده، فنهضت من مكاني دون تردد.
حملت حقيبتي واتجهت إلى خارج التراس، ثم التفتّ إليها مجددًا.
“آه، صحيح برأيي، “سورين” تناسب “جيهان” كثيرًا.”
ضحكت السيدة “أوه” ضحكة مشوبة بالذهول من كلماتي التي ختمت بها حديثنا.
ثم قبضت بيدها المرتجفة على مفرش الطاولة.
“فالبشر ينجذبون غالبًا إلى من يشبهونهم.”
“يوجين، أنتِ!”
كانت على وشك أن تضرب الطاولة وهي تصرخ باسمي، حينها فقط بدأت خطوات تقترب من الباب الرئيسي.
اتسعت عيناي عندما رأيت “جايها” يقترب منا.
بدا وكأنه يتفقد حالتي من بعيد، ثم اقترب مني مباشرة.
“هل أنتِ بخير؟”
“كما ترى، سليمة تمامًا قلتُ لكَ لا داعي للمجيء، ومع ذلك أتيت؟”
رغم أنني كنت على وشك مغادرة المكان بعد إنهاء هذه المأدبة، إلا أن “جايها” جاء في النهاية.
“كيف لي أن أترككِ تذهبين وحدكِ إلى هذا المكان؟ هاه…”
لم يفرج جايها عن أنفاسه المحبوسة إلا بعد أن تأكد بعينيه من أنكِ لم تُصابي بأذى.
ثم شدني إلى صدره بشدة، كما لو كان يستعرض ذلك أمام السيدة أوه ، قبل أن يلتفت إليها قائلاً:
“مرحباً بك بعد غياب، يا سيدتي.”
“جايها، كيف وصلت إلى هنا؟ لا تقولي إنكِ دعوتِه، يا يوجين؟”
بدت السيدة أوه وكأنها صُدمت من ظهور جايها المفاجئ، وسرعان ما حوّلت نظراتها إليّ.
ثم وقعت نظراتها الباردة على يد جايها التي كانت تطوق خصري.
وبما أن جايها قد حضر بالفعل، لم يكن هناك ما يمكن فعله، فأومأت برأسي رداً على تساؤلاتها.
“نعم، أنا من دعوته بدا وكأنه لقاء تعارف مبدئي، لذا…”
“لقاء تعارف؟ ما هذه الوقاحة…! كلاكما فقد عقله على ما يبدو؟”
لم يكن مسموحاً للسيدة أوه أن تطأ أرض كوريا دون إذن من رئيس مجلس الإدارة سو.
ولذلك، في حياتي السابقة، لم تتمكن من حضور لقاء التعارف الرسمي مع جيهان.
لكن يبدو أنها أدركت معنى “لقاء التعارف” الذي قصدته، فعجزت عن إغلاق فمها المفتوح دهشة.
“أيّ وقاحة هذه! جايها، كيف تجرؤ على سرقة امرأة أخيك؟”
“سرقتها؟ سيدتي، لا تقولي ذلك وكأن أحداً سيُسيء الفهم.”
لم أكن أستطيع رؤية وجه جايها لأنه كان قريباً مني، خلفي مباشرةً.
ولكن بما أن ملامح وجه السيدة أو بدأت تتشوه شيئاً فشيئاً، أدركت أن وجهه لا يبدو هادئاً.
“لقد كانت خطيبتي من الأصل لم أفعل سوى العودة إلى مكاني الطبيعي.”
“يا لها من حماقة… أنت من رفضها أولاً.”
“أن أعود إلى خطيب تركني ليتلاعب مع فتاةٍ أصغر منه قبل الزفاف، أليس هذا أكثر حماقة؟”
أشار جايها بنبرة خافتة إلى سلوك جيهان غير اللائق.
وبسبب حدة نظراته، ارتجفت كتفا السيدة أو بشكل ملحوظ.
لماذا تتصرف هكذا فجأة؟ هل بسبب جايها؟
عندما تغيّر تعبير السيدة أو بشكل واضح، أردت أن ألتفت إلى جايها.
لكن جايها شد من يده حول خصري، مانعاً إياي من الالتفات إليه.
“من الآن فصاعداً، لا تنادي هذه الإنسانة هكذا باستخفاف.”
“…”
“إن حدث شيء كهذا مجدداً، أخشى أنني قد أرغب في استعادة مكاني كوريث.”
وبعد أن أنهى كلامه، أرخى قبضته التي كانت تمسكني بها.
عندها فقط التفتُّ لمواجهة جايها، فوجدته يبتسم لي بعينين ناعمتين.
“سننصرف الآن.”
أمسك جايها بلطف بيدي التي كانت معلقة في الهواء، وقادني بعيداً.
أما السيدة أوه، فتابعتنا بنظراتها الحادة حتى اختفينا عن مجال رؤيتها.
وبينما كنا داخل المصعد، بدأ صوت صراخٍ غاضب يتردد من داخل المنزل.
***
استعدت وعيي بعدما وجدت نفسي في سيارة تنطلق على الطريق، يقودها جايها.
كنت أتحدث بطلاقة أمام السيدة أوه، لكن حين أصبحت وحدي معه، لم أعد أعرف ما أقول.
نظرت إليه بطرف عيني، لكن وجهه وهو يقود لم يكن يُظهر أي تعبير.
بماذا يفكر الآن؟
بدأت أفكار كنت قد أجلتها تتسلل إلى رأسي شيئاً فشيئاً.
لا أعرف من أين أبدأ الكلام.
هل أسأله إن كان يحب شخصاً آخر حقاً؟
أم أسأله عن تصرفاته اليوم أمام الجميع في حفل التنصيب، وماذا كانت تعني؟
لا، لا يمكنني سؤاله عن هذا الآن.
لم أكن مستعدة لسماع الحقيقة بعد.
ابتلعت أنفاسي التي كادت تتحول إلى تنهيدة، وحولت نظري إلى خارج النافذة.
كان الغروب قد صبغ السماء بلون أحمر خافت.
رغم أنني جئت إلى هان نام دونغ في وضح النهار، إلا أن الليل كان يوشك أن يحل.
وهكذا بدأت سيارة جايها تتجه إلى مكانٍ ما.
في البداية، ظننت أننا في طريق العودة إلى منزله.
لكن عندما دخلنا الطريق السريع وابتعدنا عن سيول، شعرت بالذهول.
هذا الطريق لم يكن طريق العودة أبداً.
“إلى أين نحن ذاهبون الآن؟”
عندما سألت، بعد فوات الأوان، ارتسمت ابتسامة ناعمة على شفتيه.
“تسألين الآن فقط؟ تأخرتِ كثيراً في سؤالك.”
“ماذا تقصد؟ إلى أين نحن ذاهبون؟”
لم يجب جايها بشكل واضح، وزادت حيرتي كلما نظرت إلى المناظر المتغيرة خارج النافذة.
من خلال اللوحات المرورية التي مررنا بها، بدا وكأننا نتجه إلى منطقة ما في مقاطعة كانغوون.
مهما فكرت، لم يكن هذا طريقاً يمكن العودة منه بسهولة في اليوم نفسه.
“هل المسافة تسمح بالعودة في نفس اليوم؟”
أجابني بهز رأسه.
“بالطبع لا يمكننا العودة في نفس اليوم.”
“انتظر لحظة، إذاً ماذا أفعل؟ لا أحمل شيئاً معي.”
كل ما كنت أحمله هو حقيبة صغيرة أخذتها معي إلى محطة البث.
وإذا لم يكن بإمكاننا العودة اليوم، فهذا يعني أنني سأقضي الليل معه.
أن أبقى معه هكذا؟
المستقبل القريب بدا مقلقاً لدرجة أنني شعرت بالرغبة في الضحك من فرط الدهشة.
نظرت إليه بوجهٍ حائر، فالتفت إليّ بطرف عينه.
“أشعر بأن العالم في هذه الأيام صاخبٌ جداً.”
“…”
“لو عدنا إلى المنزل، لكانوا التقطوا لنا مئات الصور في الطريق، أليس كذلك؟ فكرت في ذلك، وشعرت بالتعب.”
تذكرت كيف كانت مواقع الأخبار تعج بالمقالات عني وعن جايها طوال اليوم.
حتى أصغر تصرف بيننا كان يُنشر في مقالات.
ولم تكن مجرد اهتمام الناس فحسب، بل استمرت المكالمات للاطمئنان من كل حدب وصوب.
كما قال جايها، كان العالم من حولنا صاخباً جداً في الآونة الأخيرة.
فاجتاحتني موجة من الإرهاق.
“لذا، قررت الهرب إلى مكان لا يوجد فيه سوى نحن فقط.”
قال ذلك وهو يبتسم بهدوء.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 51"