كنت وراء “جايها” وركبت السيارة، وحين استعادت وعيها كانت قد دخلت منزله بالفعل.
“اجلسي، سأُحضِر لكِ شيئًا لتشربيه.”
جلست على الأريكة وهي تراقبه يختفي داخل المطبخ.
نظرت حولها إلى منزل “جايها” المرتب، والذي يختلف كثيرًا عن غرفة المعيشة في منزلها الزوجي، التي كانت في فوضى بسبب شاشة هاتفها المحطّمة.
وفجأة، اجتاحها شعور بالارتياح حين تذكّرت أن “جيهان” لم يعد بإمكانه القدوم إلى هذا المكان بعد الآن.
من خلال المطبخ البعيد، رأت “جايها” يخرج زجاجة ماء ويشرب منها دفعة واحدة.
كانت لا تزال جالسة في غرفة المعيشة، ومع ذلك سمعت بوضوح صوت تنهداته العميقة القادمة من المطبخ.
وبما أنه كان لا بد قد صُدم بقدر ما صُدمت هي، لم تجد ما تفعله سوى أن تفرك أصابعها بلا سبب.
ولم يكن لديها ما تقوله حتى لو وبّخها، فقد حذرها منذ البداية أن تكون حذرة.
“اشربي.”
بعد وقت طويل، اقترب “جايها” وقدم لها كوبًا ينبعث منه بخار دافئ.
“إنه حليب دافئ، لم أُحضّر شيئًا آخر يمكن شربه.”
“لا بأس، الحليب يكفي.”
حين أمسكت بالكوب الدافئ، شعرت بالراحة تتسلل إلى قلبها من دفئه.
رغم وجود الكثير من المقاعد الفارغة، وقف “جايها” بعيدًا عنها.
“هناك أماكن كثيرة للجلوس، هل ستظل واقفًا هكذا؟ اجلس.”
سألته ظنًا منها أنه سيبقى واقفًا يراقبها حتى تنهي شرابها.
تردد قليلًا ثم سحب كرسياً وجلس بجانبها.
“شكرًا لك، أنا ممتنة لك كثيرًا، جايها…”.
توقفت فجأة حين تذكرت مظهر “جيهان” المهدِّد، فانحبس صوتها في حلقها.
رغم أنها كانت تتماسك دائمًا، إلا أن ما فعله “جيهان” اليوم فاق الاحتمال، وشعرت بالغضب.
ما إن رأت المدير “كيم” حتى أدركت أن الموقف ليس لصالحها.
خصوصًا وأنها كانت بمفردها مع “جيهان” في ذلك المنزل الكبير.
رغم أنه كان مستفزًا، فإنها لم تتعامل بعقلانية، مما جعلها تغطي وجهها بحرج.
كانت تشعر بقلق غريب حين يتعلق الأمر بالانتقام.
“لماذا أشعر هكذا؟… لم أعد أستطيع السيطرة على نفسي.”
رغم علمها أن الانتقام لا يتحقق بين يوم وليلة، لم تستطع التصرّف بهدوء.
كان من المفترض أن تتوقع ما حدث اليوم، لكنها لم تفعل.
“لم أعد أشبه نفسي…”
كانت غريبة حتى على نفسها، فكيف يراها “جايها”؟ ربما كفتاة مهووسة بالانتقام.
تنهدت بهدوء.
“أنا ممتنة لك كثيرًا اليوم، حقًا… مجرد تخيّل ما كان سيحدث لو لم تكن هناك يُرعبني.”
“……”
“لقد أرعبني عنفه، لم أرَ شيئًا مثله من قبل.”
ارتجفت حين فكرت فيما كان يمكن أن يحدث لو تأخر لحظة واحدة.
أبعدت رأسها سريعًا وهي تهزّه لطرد تلك الأفكار البشعة.
“يكفي هذا الحديث.”
قاطعها بسرعة.
“……؟”
“ليس خطأك كلما فكرت… لا، دعينا لا نكمل هذا الموضوع اليوم.”
رغم أنه قال إن الأمر ليس خطأها، كان وجهه يحمل ملامح معقدة ومليئة بالتوتر.
حين التقت عيناها بنظرته الباردة، انقبض قلبها فجأة.
شعرت أن “جايها” اليوم بدا غريبًا ومختلفًا.
“جايها، أنا…”
حين نطقت اسمه وتلاقت عيناهما للحظة، أشاح ببصره فورًا.
“عندما تنتهين من الشراب، اذهبي لتغتسلي تعرفين أين الحمّام، أليس كذلك؟”
“……”
“أنا فقط… لا أستطيع التحدث معكِ الآن.”
مسح وجهه بيده وكأنه منزعج من الجلوس معها، ثم نهض من مكانه.
“استريحي.”
ترك هذه الكلمات ودخل إلى غرفته.
***
حين خرجت من الحمام وهي تجفف شعرها، وجدت غرفة المعيشة خالية.
طوال وقت الاستحمام، كانت تحاول تنظيم أفكارها التي لم تكف عن التدفق.
“هل ضايقته أحداث اليوم؟ أم لأنه نشرت المقالة من تلقاء نفسي؟”
أيًّا كان السبب، بدا واضحًا أن “جايها” قد تغير بسببها.
رغم أنه قال إن ما يحتاجانه هو الوقت، شعرت بضيق في صدرها.
راودها شعور بأنها لن تستطيع النوم وهي مشوشة هكذا، فتوجهت إلى غرفته.
– طَرق، طَرق.
وقفت أمام بابه وأطرقت بلطف.
لابد أنه سمع صوت الطرق، ومع ذلك لم يرد.
“سأدخل.”
ترددت للحظة أمام الباب، ثم فتحته بهدوء.
بمجرد دخولها الغرفة، رأت السماء السوداء خلف الزجاج الممتد على الحائط.
وكان “جايها” مستلقيًا على السرير الكبير أمام النافذة، يغطي عينيه بذراعه.
كانت أزرار قميصه مفكوكة وكأنه كان على وشك تبديل ملابسه.
اقتربت منه بهدوء خشية أن توقظه.
“هل نمت؟”
سألته، لكنه لم يرد، واكتفت أذناها بصوت تنفّسه المنتظم.
فكّرت أن تخرج بهدوء، لكنها جلست على حافة السرير.
رأت خصلات شعره السوداء تغطي جبينه، فمدّت يدها دون قصد.
“لابد أنه كان متعبًا.”
حين أزاحت شعره غير المرتب، ظهر جبينه الواضح.
فكّرت أن تؤجل الحديث إلى الغد، وهمّت بالنهوض.
“آه!”
سحبها من معصمها بقوة، فسقطت على السرير.
وعندما استعادت وعيها، كانت فوقه تمامًا، تحدّق في عينيه.
فتح عينيه نصف فتحة وهو يحدق بها.
“ظننتك نائمًا…”
اهتز صوتها تلقائيًا حين التقت نظراتهما.
كأنها كانت تفعل شيئًا خاطئًا واكتُشفت.
“آسفة لأني دخلت دون إذن… أردت فقط أن أقول شيئًا.”
“……قلت إننا سنتحدث لاحقًا، أليس كذلك؟”
ردّ بصوت أعمق من المعتاد.
رغم أنها لا تزال فوقه، لم يُبدِ أي حرج.
بدأت تشك إن كانت هي الوحيدة التي تجد هذا الوضع غريبًا.
“عنيدة كما هي عادتك.”
مد يده إلى شعرها وقال:
“لم تجففي شعرك مجددًا، أليس كذلك؟”
“عادة سيئة… لا أجففه عادة على أي حال، بما أنك استيقظت، هل يمكننا التحدث الآن؟”
بقي يلمس خصلاتها الرطبة قبل أن يجيب:
“دعينا ننام الليلة، ونتحدث لاحقًا.”
كان رفضه واضحًا، دون أي تردد، مما جعلها تشعر بالمرارة.
عَضّت شفتيها ونظرت إليه.
“هل تستطيعين تحمّله؟”
“نعم، حتى إن غضبت، لا بأس.”
“وكيف تعرفين ما سأقوله لتزعمي أنك قادرة على تحمّله؟”
حدّق بها بنظرات نافذة، فتوقفت فجأة.
حين حاولت النهوض، جذبها من خصرها.
“ألم تكن غاضبًا؟ كنت أظن أنك غاضب مني.”
شعرت بالارتباك وهي عالقة بين ذراعيه، غير قادرة على التحرك.
“أجل، كنت غاضبًا من سيو جيهان، ومن نفسي أيضًا لم أهدأ بعد لو تحدثتُ معك على هذه الحال، فلن أكون في كامل وعيي.”
أخذ يدي ووضعها على صدره.
كما قال، كان بإمكاني أن أشعر بضربات قلبه العنيفة من خلال راحة يدي.
“حين وجدتُ الأكياس الملقاة على طاولة المتجر وعلب الجعة الفارغة… شعرت أنني على وشك الجنون.”
“……”
“كنت أعلم أنك لا تضعين شيئًا أمامك عندما يتعلق الأمر بالانتقام ولهذا تأكدتُ عبر السكرتير هان أنك دخلتِ إلى المنزل.”
اتسعت عيناي وأنا أسمع كلماته المتواصلة وغير المرتبة.
لم أتوقع أن يكون السكرتير هان يراقبني.
ولم أكن أعلم أن جايها كان يحرسني بذلك القدر من الحرص.
“لكن لم يخطر ببالي أنك ستخرجين مجددًا.”
“……”
“أنا من عليه التفكير دومًا في الاحتمالات غير المتوقعة هذا هو دوري لكن اليوم… شعرت أنني بلا فائدة.”
ارتجفت شفتا جايها كمن انفجر فيه كبت طويل.
“كنت خائفًا أن تكوني قد أُصبتِ، أو أن يكون قد حصل لك شيء… كم كنتُ خائفًا…”
“ولِمَ تلوم نفسك؟ جايها، أنت من أنقذني.”
أدركت أخيرًا سبب تهربه من الحديث معي بعد عودتنا للمنزل.
ذلك الاطمئنان الساذج الذي سيطر عليّ لم يؤذِني وحدي، بل جعله هو أيضًا يعاني.
شعور مفاجئ بالذنب اجتاحني.
“هذه مشكلتي أنا، لا داعي لأن تعاني إلى هذا الحد.”
“……”
“وحتى لو أصبت، فأنا من سيتأذى لا تبالغ في التفاعل مع ما حصل اليوم.”
لم أكن أرغب في قول كلمات قاسية كهذه، لكنني قلتها دون تفكير، ثم ندمت فورًا.
كان جايها يستمع بصمت، لكن ملامحه تغيرت فجأة عندما نطقتُ جملتي الأخيرة.
وجهه أظلم، لدرجة جعلتني أوقن أنني قلت شيئًا لا يُقال.
“لا، يبدو أنني لست بعقلي اليوم ما كان عليّ الدخول هكذا سأخرج الآن.”
أردتُ إنهاء الحديث بسرعة بعد أن قرأت في عينيه مشاعر غريبة أرعبتني.
خشيت إن استمريت أن أكتشف ما وراء هذه النظرة… شيئًا لا أستطيع مواجهته.
“تقولين بكل بساطة إنك ستتأذين وحدك… كم هو سهل قول ذلك وأنا اليوم تنقلت بين الجنة والجحيم مرارًا.”
وما إن حاولت النهوض عن جسده حتى أمسك بي جايها ومنعني من الوقوف.
“لم أنهِ حديثي بعد.”
“كما قلت، من الأفضل أن نؤجل الكلام إلى الغد.”
“لا، يجب أن أقولها الآن.”
ضغط جايها على ركبتي برفق كي لا أتحرك.
حاولت التملص من قبضته، لكن لم أستطع مجابهة ثقله، ولم يكن ينوي الإفلات.
ضحك بسخرية خفيفة.
“صحيح، كما قلتِ حتى لو حصل شيء، فأنتِ من سيتأذين، لا أنا.”
“……”
“لا أعلم حتى ما الذي فكرت فيه وأنا أركض تلك المسافة القصيرة من المتجر إلى منزلك.”
كانت ملامحه تتلوى وكأنه يستعيد لحظة مؤلمة جدًا.
نظرته اليائسة أوصلت إليّ حجم الألم الذي اجتاحه.
“لم تكن مشكلتي، ومع ذلك تمنيتُ لو كنتُ مكانك في تلك اللحظة… تمنيتُ ذلك بصدق آه…”
أطلق زفرة مشحونة لم يستطع كبتها، وكان ينظر إليّ بعينين تموجان بالاضطراب، مثل عينيّ تمامًا.
هز رأسه بقوة ثم رفع نظره إليّ.
“حتى الآن كان بإمكاني أن أدعك ترحلين، لكنني لم أفعل وقفت في طريقك وأنا أعلم أنك تريدين الخروج.”
يده الموضوعة على ركبتي كانت ترتجف بشكل طفيف، لكنه كان كافياً لإيصال ما يشعر به إلى قلبي.
(لماذا؟)
كنت أريد أن أسأله لماذا يفعل كل هذا من أجلي، لكن لم أستطع فتح فمي.
الرهبة خنقتني، فأمسكت بطرف فستاني بتوتر.
ربما قرأ أفكاري، فبادرني بالسؤال:
“ألا تريدين أن تعرفي لماذا أتصرف هكذا؟ ألا يثير فضولك السبب؟”
“لا ، لا أريد أن أعرف.”
أجبت بحزم خوفًا من أن تكون الإجابة أكبر من قدرتي على التحمل.
ساد صمت طويل بيننا بعد جوابي.
لكن الحقيقة أنني كنت فضولية.
كنت أريد أن أسأله: لماذا يفعل كل هذا لأجلي؟ لماذا يقلق عليّ بهذا الشكل؟
لكني لم أكن مستعدة لسماع الجواب.
ظل ينظر إليّ صامتًا، ثم انفرجت شفتاه وقال بصوت خافت:
“كاذبة.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 44"