اليد التي أمسك بها لم تُفلت إلا بعد أن ركبت السيارة.
رغم أنه لا بد أنه سمع الحديث كاملاً مع سيورين عبر الهاتف، فإن جايها لم ينبس ببنت شفة.
لماذا تستمر هذه الأمور في الحدوث أمام السيد جايها تحديدًا؟
كل ما كنت أفعله هو تقليب القلم الحبر الذي سلّمه إليّ بين يديّ.
“بالمناسبة، إلى أين نحن ذاهبان الآن؟”
فجأة لاحظت أننا نسلك طريقًا مختلفًا عن طريق المنزل، فسألته.
“ستعرفين عندما نصل.”
كان الوقت يقترب من منتصف الليل، فأملت رأسي باستغراب.
نظر إليّ بطرف عينيه، ثم ابتسم ابتسامة وادعة دون أن ينطق بكلمة، واستمر في القيادة.
“انزلي.”
المكان الذي وصلنا إليه كان نهر الهان.
ما الذي يمكن فعله في نهر الهان في هذا الوقت المتأخر من الليل؟
وكأنه قرأ أفكاري، هو من بدأ الحديث أولاً.
“أشعر أننا بحاجة إلى استنشاق بعض الهواء ، أنا وأنتِ.”
قال ذلك، ثم اختفى بعد أن طلب مني الانتظار قليلاً، ثم عاد إليّ حيث كنت جالسة على المقعد.
وكان يحمل في يده ما كنت بأمسّ الحاجة إليه في تلك اللحظة.
“هل تشربين؟”
فتح علبة الجعة بصوت منعش وقدّمها لي شعرت بقشعريرة لطيفة من البرودة التي انتقلت إلى أطراف أصابعي.
وعندما نظرت إلى فنجان القهوة في يده، ارتسمت ابتسامة على وجهي دون وعي.
“هل تشرب بمفردك اليوم أيضًا؟”
“آه، السكرتير هان قد أنهى دوامه.”
إذًا هو من يقود بنفسه.
ما إن شعرت ببرودة الجعة وهي تنساب في حلقي، حتى شعرت بأنني عدت إلى الحياة.
الحرارة التي كانت تنتشر في أنحاء جسدي بدأت تتلاشى أخيرًا.
“في هذا الوقت، من الصعب التوقف بعد أول كأس…”
قال ذلك بصوت كأنما يهمس لنفسه، وهو يحدق في منظر الضفة الأخرى لنهر الهان.
ثم التفت إليّ بوجه مصدوم عندما رآني أواصل الشرب دون توقف.
“لحظة، من يشرب الجعة بهذا الشكل؟!”
“هاه… كم هي منعشة.”
أنهيت علبة الجعة دفعة واحدة.
ثم، ما إن وقفت من مكاني حتى نظر إليّ جايها بوجه مذهول.
“يبدو أن الجعة لا تكفيني.”
“……”
“المقبلات اليوم كانت قوية جدًا.”
تخيلت وجه سيورين التي أخبرتني بحملها.
كل ما فكرت به هو أنني أريد أن أثمل الليلة، لأنسى كل شيء.
…
…
“أنتِ تشربين جيدًا وحدك.”
كان يتكئ على يده، ينظر إليّ وأنا أخلط نوعين من الشراب بنشاط.
وحين حرّكت الكأس الشفافة الممتلئة بالشراب، ضحك بخفة.
“هل تشرب أيضًا، سيد جايها؟”
“لو ثملنا نحن الاثنين، سيكون الأمر ممتعًا بالفعل.”
الكأس التي كنت أوشك أن أرفعها إلى فمي اختفت فجأة من أمامي.
لقد اختطفها جايها من يدي دون أن أشعر.
“توقفي عن الشرب أظنكِ قد ثملتِ.”
حتى من مجرد النظر إلى زجاجات الشراب المصفوفة أمامي، كان واضحًا أنني كنت في حالة سُكر تام.
لم أكن ضعيفة أمام الشراب، لكنني كنت أضعف ما أكون حين أخلط الأنواع المختلفة.
وفعلاً، كما قال، شعرت أنه يجب أن أتوقف، فنهضت من مكاني.
وفي اللحظة التالية، شعرت بدوار مفاجئ، ورأيت جايها الجالس أمامي يتضاعف ثم يعود شخصًا واحدًا.
“هاه…”
“أرأيتِ؟ لقد ثملتِ.”
ترنّحت دون وعي.
وبالكاد أمسكت بجايها ونهضت، فتلاقت أعيننا، عيناه التي نظرت إليّ بنظرة مرتخية.
أنا من ثملت، فلماذا يبدو هو سعيدًا أكثر؟
لا يزال جالسًا على المقعد، يحدق بي بعينيه الساكنتين وهو يسند ذقنه إلى يده.
هذا الرجل، ألم يُكمل عامه الثالث والثلاثين هذا العام؟
لقد عرفت عنه الكثير بعد أن عدت في الزمن، مما لم أكن أعرفه من قبل.
الواقع الذي تغير كثيرًا عن الماضي، أليس خبر حمل سيورين دليلًا عليه؟
“لو قلت لك… إنني أبلغ الرابعة والثلاثين، بل وإنني أعرف المستقبل، هل كنت لتصدقني؟”
جايها، الذي كان ينظر إليّ بوجه سعيد وأنا ثملى، عقد حاجبيه أخيرًا.
ثم ضحك بخفة، كأنما ظن أنني أقول ذلك فقط تحت تأثير الخمر.
“المستقبل؟ لم لا تقولين إنكِ لستِ يوجين، بل أختها السرية؟”
“أختها السرية؟ هذا أيضًا مثير للاهتمام… هاها.”
قصة عبثية، لكنها قابلة للتصديق أكثر من قصة أنني عدت إلى الحياة بعد أن متّ.
من سيصدق شيئًا كهذا؟ أنني قُتلت على يد زوجي، وعدت إلى الماضي.
وأن الحبيبين الخائنين، زوجي السابق والفتاة التي كانت زميلتي، قد أنجبا طفلًا مرة أخرى.
لا أعلم إن كان سبب الصداع هو تأثير الكحول، أم التفكير في هذين الاثنين.
وضعت يدي على رأسي، الذي بدأ ينبض بألم خافت.
“أنا حقًا… أكره أخاك أكرهها جدًا لا، بل أكرهها إلى حد أن كلمة ‘أكره’ لا تكفي للتعبير عن كل ما أشعر به من حقد.”
كنت أكره جيهان، الذي دفعني إلى حافة الهاوية بهذه الوحشية.
لقد دفعني إلى أقصى درجات الانهيار، دون أن يترك لي أي مفر.
وهكذا، أصبحت حياتي كلها ممتلئة فقط بفكرة الانتقام.
“أكثر مما يمكنك تخيله…”
نظراته التي كانت تحدق بي، كأنها تمزقني، بعد أن دمرت حياتي الهادئة التي كنت أعيشها.
تلك النظرات المرعبة، كنت أستيقظ من نومي عشرات المرات يوميًا وأنا أتذكرها.
هل كانت مشاعري مبالغًا فيها لأنني كنت ثملة؟
ربما رأى في وجهي الحقد العميق واليأس الذي اختلطا فيه، فاقترب مني.
هبّت نسمة باردة من نهر الهان.
امتزجت رائحة جسده مع تلك الريح، فداعبت أنفي.
“أعرف أنكِ كنتِ تمرين بوقت عصيب.”
اقترب بهدوء واحتواني بين ذراعيه.
“وأعرف أيضًا أنكِ لا تزالين تعانين كثيرًا أعلم أن شقيقي فعل بكِ أشياء لا تُغتفر.”
كان يربّت بلطف على مؤخرة رأسي.
كأنها الطريقة الوحيدة التي يعرفها جايها، الذي لا يُجيد المواساة، للتعبير عن تعاطفه.
“عندما توفيت والدتي، واستعدت وعيي، لم يكن بجانبي أحد.”
“……”
“لذا لم أتلقّ يومًا أي عزاء، ولم أُقدمه لأحد من قبل.”
كلمات لم أسمعها منه من قبل.
كنت قد دفنت رأسي في صدره، فلم أستطع رؤية تعابير وجهه وهو يواصل الحديث.
لكن صوته، الذي بدا أكثر هدوءًا من ذي قبل، أوصل إليّ كل ما شعرت به.
بالنظر إلى أن حياته كانت قائمة على إثبات الأمور بالأفعال لا بالكلام، تابع جايها حديثه بنبرة منخفضة دفئت صدري شيئًا فشيئًا:
“لأكون صادقًا، لا أعرف حقًا كيف أتصرف في مثل هذه المواقف.”
ورغم أنه لا يعتبره مواساة، إلا أنني بدأت أشعر بالسكينة تتسلل إلى قلبي بين أحضانه التي شعرت فيها بدفئه بوضوح.
“لذا، سأواسيك بطريقتي الخاصة… ماذا لو أربكنا سوجي هان وأفسدنا عليه هدوءه قليلًا؟
“……؟”
رفعت رأسي لا إراديًا من بين أحضانه حين سمعت كلماته.
عندها التقت عيناي بعينيه مباشرة دون أدنى تردد أو اضطراب.
“لقد طلبتِ الزواج، أليس كذلك؟”
سمعت صوته يتسلل إلى أذنيّ، أكثر رقة من أي وقت مضى.
“فلنتزوج .”
“لكن إن كان سوجيها الذي أعرفه ، فلا شك أنك تكره الزواج.”
كان هذا ما قلته له ذات يوم، وقد بدا أنه لم ينسَ ذلك، فتابع كلامه مسترسلًا:
“فلمَ لا نُقدم على هذا الزواج؟”
شعرت وكأن عشرات الألعاب النارية انفجرت داخل رأسي في لحظة.
ما الذي سمعته للتو؟ لا بد أنه ليس حلمًا…
“لا أظن أنّ هناك انتقامًا أفضل من هذا.”
نظراته السوداء العميقة، التي لا يمكن سبر غورها، ارتسمت على محياه وهو يبتسم بخفة.
جفّ حلقي فور رؤيته يبتسم بهذه الطريقة.
(آه… ما الذي أنوي فعله؟)
كنت قد قررت أن أُسكر نفسي حتى لا أتذكر شيئًا مما حدث الليلة عند استيقاظي غدًا،
ولكن، لماذا أصبحت أكثر وعيًا كلما ازدادت نظراته تعلقًا بي؟
“لا يجب أن يكون الأمر كذلك…”
قبضت بيدي لا إراديًا على كمّ قميصه بقوة.
“ما الذي يحدث لي؟… يبدو أنني بدأت أفيق من السكر هاه…”
وعندما أفلتّ كمّه، بدأ قلبي ينبض بعنف.
نظرت إليه، خشية أن يتظاهر غدًا وكأن شيئًا لم يحدث، ثم وضعت يدي على وجهي.
قدماي بدأتا تترنحان من تلقاء نفسي، وكأن جسدي لا يقوى على تحمل يقظتي التامة.
“سترتمين أرضًا إن واصلتِ هكذا.”
شعرت بذراعيه تطوقان خصري فجأة لتمنعاني من السقوط،
أنفاسه المألوفة التي شعرت بها دون أن أحتاج للنظر إليه.
شعرت أنه لو فتحت عينيّ الآن، لن أتمكن من التراجع بعد هذه اللحظة أبدًا.
“سو جيها… عندما أُسْكَر تمامًا، لا أتذكر شيئًا عادة.”
رغم أنني كنت ثمِلة تمامًا، إلا أن كل آثار الخمر تلاشت فجأة.
لا، ربما أصبحت أوضح ذهنيًا حتى من قبل أن أشرب.
“لكني أعتقد أنني سأتذكر كل شيء الليلة.”
رفعت يدي عن وجهي شيئًا فشيئًا،
وعندما فعلت، رأيت جايها واقفًا أمامي، على بُعد مسافة لا تكاد تفصل أنفينا.
“هل كنتَ جادًا في كلامك؟”
ولم يمضِ وقت طويل، حتى سمعتُ إجابته… في مكان آخر.
***
بأنفاس قصيرة، فتحتُ الباب المغلق بإحكام.
“أتيتِ؟”
في ظهيرة أحد أيام عطلة نهاية الأسبوع،
فتحت باب غرفة الاستقبال الراقية، فرأيت نائب رئيس مجلس الإدارة “سو مينغوك” جالسًا بانتظاري.
كان نائب رئيس مجموعة “هوجين”، ووالد سوجيهان.
تواصل معي بعد اجتماع المساهمين وطلب أن نلتقي على انفراد.
كانت مكالمته المفاجئة غريبة من شخص مثله لم يكن يُبدي أدنى اهتمام بي من قبل.
“نعم، سيدي مضى وقت طويل منذ آخر لقاء لنا على انفراد.”
خمس سنوات كاملة قضيتها أناديه بـ”أبي”.
لكني لا أذكر أننا التقينا وحدنا قط يبدو أن هذه المرة الأولى فعلًا.
“سمعت بأمر فسخ الخطوبة.”
عاد إليّ تركيزي إثر صوته الخافت المألوف.
“هل حقًا تنوين الانفصال عن جيهان؟”
سؤاله بدا وكأنه عن الخطوبة، لكن ما كان يهمه حقًا هو الاندماج مع مجموعة “W”.
رطّبتُ شفتيّ ببعض الشراب الذي ناولني إياه، ثم أجبت:
“إذا كنتَ تقصد السيد جيهان، فقد انتهى الأمر قررنا فسخ الخطوبة.”
“هاه، فسخ الخطوبة أصبح سهلًا هكذا؟ على ما يبدو، جيهان لا يفكر بالطريقة ذاتها.”
ما يقلقه ليس فسخ الخطوبة، بل فشل اندماج المجموعتين بلا شك.
تناول كوب الماء بدلًا من الكأس الفارغة، وانعكس على وجهه بعض الضيق.
بدا عليه الامتعاض، ربما لأنني بادرت بإعلان فسخ الخطوبة من طرفي.
“الرجل قد يخطئ مرة، ينظر إلى أخرى، وخصوصًا قبل الزواج.”
“……”
“ما عدا ذلك، أظن أن المدير سو ليس فيه ما يُعيبه.”
كان يقصد، هل ستُنهين زواجًا رُتّب بين عائلتين بسبب مجرد نزوة؟
هزّ رأسه وهو ينظر إليّ بعينين فيهما شيء من الاستنكار.
“أما كان يمكنكِ أن تتغاضي عن الأمر؟ سيزول كل شيء مع الوقت يا عروسي، إن سامحتِ، قد يولد مستقبل جديد.”
ها هو ذا يناديني بـ”عروسي” مجددًا.
كم تظاهَر بأنه يضعني في الحسبان، بينما في الحقيقة لم يكن يكترث إلا لمصالحه.
كأن كل ما يهمه الآن هو اندماج المجموعتين لا غير.
غصّ حلقي واشمأززت من تصنّعه، فشربت الماء لأهدأ.
“لقد قررت فسخ الخطوبة ومجموعة W سيتولاها السيد جايها كما هو مقرر.”
“يا يوجين! أن يتولى زوجك المجموعة شيء، وأن نديرها عبر مدير تنفيذي شيء آخر تمامًا! أنا أقول هذا لمصلحتك!”
رفع صوته فجأة، بعد أن رأى صلابتي.
“صحيح كما قلتَ، لا يوجد شيء أصدق من الروابط العائلية.”
“بالضبط! إذًا…”
توردت على وجهه ابتسامة خفيفة، وقد ظن أنني بدأت أقتنع بكلامه.
لكنني قابلته بابتسامة ملتوية وقلت:
“إذًا، عليه أن يصبح زوجي المدير الذي سيتولى مسؤولية W.”
“ماذا؟!”
اهتزّت يده التي كانت تمسك بالكأس، وانعكست الدهشة على وجهه.
ثم فجأة، سُمع صوت طرق على الباب،
فاستدار برأسه نحو مصدر الصوت.
ومن بين شقوق الباب الذي بدأ يُفتح، ظهر جايها مرتديًا بذلة رسمية.
“جايها… ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 30"