قاعة العزاء.
كانت قاعة العزاء الخاصة بجدي واسعة بقدر شهرته في حياته، ومزدحمة بعدد لا يُحصى من المعزين.
“كيف تحول حفل الزفاف إلى مأتم؟”
“بالضبط… لم يكن أحد يتوقع أن يغادر الرئيس بهذه الطريقة المفاجئة سمعت أن السيد والسيدة يون في حالة حرجة أيضًا.”
كان عدد لا يُحصى من المعزين يتوافدون، وكلٌّ منهم يرمقني بنظرة خاطفة ويتناجى فيما بينهم.
ورغم أنني لم أسمع كلماتهم، إلا أنني كنت أستطيع أن أفهم ما يقولونه فقط من نظرات أعينهم.
لا شك أنها نفس الأحاديث التي تملأ مواقع الإنترنت ووسائل الإعلام.
فقدتُ كل أفراد عائلتي دفعة واحدة، وأصبحت الوريثة الوحيدة في يوم الزفاف، أيضًا…
“لو رحل الزوجان أيضًا، ستكون مصيبة كبيرة لقد تركا ابنة وحيدة فقط، ولا حتى ابن.”
“من سيكون الوريث؟ هل ستتولى الابنة الأمر؟”
“هذا غير معقول… ما الذي تعرفه حتى تتولى الأمور؟”
لم تكن هذه المرة الأولى كنت قد سئمت بالفعل من تلك التصرفات الباردة والمصلحية للناس في حياتي السابقة، لذا لم تكن تؤلمني كثيرًا.
لكن ما كان يثير انفعالي أحيانًا هو رؤيتي لجيهان وهو يستقبل الناس إلى جانبي.
“رغم أنه لم يصبح زوجًا رسميًّا بعد.”
كان يتصرف وكأنه زوجي بالفعل، واقفًا إلى جانبي لاستقبال المعزين، وكان ذلك يثير اشمئزازي.
وأثناء انشغالنا باستقبال الناس، اقترب من بعيد جمعٌ مألوف لدي.
“لا أصدق أن الرئيس يون قد رحل هكذا… كان يوم أمس هو حفل الزفاف… السيد سيو شخص طيب فعلًا، يساعد في كل شيء هكذا.”
اقترب كيم يونغ مين، نائب رئيس مجموعة W، بوجه كئيب، لكنه أمسك بيدي جيهان الاثنتين، لا بيدي أنا.
ألقى جيهان نظرة سريعة نحوي كما لو كان يستطلع ردة فعلي، ثم أومأ برأسه ليقوده إلى داخل القاعة.
“لا بأس، سأتولى الأمر بنفسي، نائب الرئيس.”
“أجل… آنسة، ربما لا تعرفين الأمور جيدًا، لذا على السيد سيو أن يساعدك كثيرًا. من الجيد أنه بجانبك.”
كيم يونغ مين، كان شخصًا مثل الأفعى، يخفي سواده خلف قناع.
وحتى وهو يمر بجانبي وهو يتبع جيهان، كنت أشعر بنظرته تلتصق بي.
كما أنه كان له دور كبير في عملية اندماج W مع شركة هوجين.
يبدو أن الاثنين كانا قد بدآ العمل معًا منذ فترة طويلة بالفعل.
وما إن عاد جيهان إلى جانبي، وكدت أن أختنق من الغيظ الذي اجتاحني، حتى سألته:
“يبدو أنك قريب من نائب الرئيس كيم يونغ مين؟”
“قريب؟ لا، فقط التقينا في بعض الأعمال، لا أكثر.”
أثار ذلك الكذب البارد قرفًا عميقًا في قلبي.
لم أصدق أنني لم ألاحظ خداعه المكشوف هذا.
“أريد التحدث معك قليلاً.”
خرجت من قاعة العزاء المزدحمة متجهة نحو خارج المستشفى.
ولم يقل جيهان شيئًا، بل تبعني بهدوء وهو يمشي خلفي.
لم تمضِ سوى أيام قليلة منذ أن فررت من قاعة الزفاف، وكانت هذه القاعة قد نُصبت.
ومن اليوم الأول، جاء جيهان وكأن شيئًا لم يحدث، ووقف بجانبي.
كان كل شيء يتكرر بشكل مخيف، كما في حياتي السابقة.
وإن استمرت الأمور هكذا، فسيستغل جيهان وفاة والدي المفاجئة ليصبح زوجي رسميًّا، ويستولي على مجموعة W.
توقفت عند ممر المشاة المهجور خارج جناح المستشفى، فتوقف جيهان أيضًا.
“يجب أن ترحل الآن.”
“ماذا تقولين؟ لستُ مجرد معزٍّ، كيف أرحل؟”
“لم نقم حتى بالمراسم لسنا زوجين بعد.”
أقصى ما حدث هو خطوبة تمّت قبل عام فقط.
وما إن سمع جيهان قولي له بأن يرحل، حتى عبس بشدة وهو يضغط بين حاجبيه، وهي عادة له تظهر عندما يكون منزعجًا.
في البداية، بدت عيناه مترددة كما لو كان مرتبكًا، لكنها هدأت تدريجيًا.
“هاه، أفهم أنكِ لستِ بحالة عقلية تسمح لكِ بالتفكير المنطقي.”
“……”
“الرئيس ونائبه أيضًا هنا للوقوف إلى جانبك، كيف لي أن أرحل؟”
كان يتحدث إليّ بلطف، لدرجة أنني كدت أصدق فعلًا أنه زوجي.
“يمكننا إقامة الحفل في يوم أفضل ما المهم في الشكليات الآن؟ أنا من تحتاجين إليه الآن.”
عيناه وهما تنظران إليّ من علٍ بثقة بدت وكأنها تقول إنني أتمسك بعناد طفولي.
كان جيهان لا يزال يؤمن أن هذا الزواج قائم.
“اتركي لي مسألة الوراثة والمشاكل المعقدة. عليكِ فقط أن ترتاحي.”
كان جيهان يخفي طمعه خلف كلمات معسولة توهمني بأنها نابعة من الاهتمام.
في حياتي السابقة، كنتُ مغفلة كفاية لأُخدع بها، أما الآن فقد بات كل شيء واضحًا.
ففي عينيه، وهو يمسك يدي بقلق، كانت أول ما رأيته هو ذلك الجشع العميق.
وما إن أبعدت يدي عن يده، حتى دوّى رنين جرس هاتف غريب في الصمت المحيط بنا.
“……لحظة.”
أخرج جيهان هاتفه من الجيب الداخلي لسترته.
نظر إلى الرقم غير المسجَّل، وعضّ شفته السفلى.
ثم التقت أعيننا للحظة، قبل أن يشيح بوجهه بسرعة.
كان الفرق واضحًا بين نظرته الواثقة قبل قليل، وهذه النظرة المترددة.
“لماذا يبدو متوترًا هكذا؟”
كأنه تلقى مكالمة لا يمكنه الرد عليها أمامي.
بينما كنت أحدق في عينيه الداكنتين، بدأت ذكريات من حياتي السابقة تندمج في رأسي.
“انتظر لحظة، إذا لم تخنّي ذاكرتي…”
قبل خمس سنوات، في مثل هذا الوقت، تلقى جيهان مكالمة وخرج، ولم يعد حتى انتهاء مراسم الدفن.
عاد متأخرًا، مرتديًا نفس البدلة التي غادر بها.
الشكوك التي راودتني بدأت تتأكد شيئًا فشيئًا.
“تبدو المكالمة طارئة، أجب.”
رميت كلمتي عليه ببرود، فرأيت مئات التعابير تعبر فوق عينيه.
تردد قليلًا في الرد على الهاتف الذي لم يتوقف عن الرنين، ثم أجاب عليه قبل أن ينقطع.
“مرحبًا نعم الآن؟ لا، لا أستطيع الآن.”
وبينما يتحدث، رمقني بنظرة خاطفة، ثم أدار جسده مبتعدًا.
“قلت لك لا أستطيع.”
نبرته التي انخفضت فجأة كانت غريبة.
شعرت أنني بدأت أستوعب من هو الطرف الآخر على الخط.
شخص واحد فقط بإمكانه أن يربك سوجي جيهان بهذا الشكل.
“تشاي سُورين.”
كانت زوايا عينيه ترتجف بينما يُنصت للطرف الآخر.
كان واضحًا كم كانت سورين مهمة له، إلى حد إرباكه هكذا.
“هاه… حسنًا. سآتي الآن.”
“من كان على الهاتف؟”
“يبدو أن هناك مشكلة في الشركة كما قلتِ، سأذهب لأتفقد الأمر قليلًا.”
«لكنها ليست الشركة… إنها تشاي سورين»، كانت هذه الجملة على طرف لساني، لكنني لم أقلها.
فقد باتت الحقائق التي لم أكن أعلمها في حياتي السابقة تتكشف أمامي، وجعلتني أشعر بجفاف في فمي.
كنت أضحك بمرارة فقط، لأنني صدّقت كذبة واضحة كهذه.
كنت أظن فعلًا أن الشركة تمر بأمر طارئ، وظننت أن تصرفاته المبالغ فيها كانت بدافع القلق عليّ بعد أن أصبحتُ وحيدة
«لم أكن أعرف أنه كان خائفًا من أن يُكشف خيانته فقط.»
ابتسم ابتسامة باهتة بدت مصطنعة، ثم وضع يده على كتفي بلطف.
“لا داعي لأن تعود.”
ابقَ إلى جانب سورين طوال حياتك فقط.
نظر إليّ جيهان، الذي أصبحت نبرتي معه أكثر حزمًا من ذي قبل، ثم أنزل يده عن كتفي.
“سأعود مباشرة بعد انتهاء الاجتماع.”
.
.
.
سقطت يدي المرتجفة، التي كانت تزيح خصلة شعر مبتلة عن جبيني، في الفراغ.
“هاه…”
كان صوت الماء المنهمر بقوة في الحمّام يملأ المكان.
تنهدتُ بعمق، وأسندت ذراعي على المغسلة.
صورة ظهره وهو يبتعد كانت تطغى على رأسي باستمرار.
“يا له من وغد.”
يقال إن المرء لا يرى الحقيقة إلا بقدر ما يعرف بعد عودتي، أدركت كم كنتُ مغفلة في حياتي السابقة.
كان يومًا مرهقًا قضيتُه وحيدة في استقبال المعزين في قاعة العزاء.
شعرت أنه لو أسندتُ ظهري الآن، لأنِمتُ فورًا كان جسدي ثقيلًا كإسفنجة مبللة.
عندما عدت إلى القاعة، كانت الساعة تشير إلى الواحدة صباحًا.
وبعد أن انفضَّ جمع المعزين، ساد الصمت في المكان.
جلستُ وحدي، وأغمضتُ عينيّ تحت وطأة الوحدة التي تغلغلت في صدري.
عدت إلى الحياة، لكنني لم أستطع إنقاذ عائلتي وكان ذلك أكثر ما يؤلمني.
“آسفة يا جدي…”
بكيت حتى أصبحت رؤيتي ضبابية، ثم غفوت من التعب.
وفي غمرة النوم، شعرت بشيء يدفئ كتفي برفق.
ثم أحسست بشخص يهز كتفي بلطف أيقظني.
“سيدتي، إن كنتِ متعبة، يمكنكِ أن تذهبي وتنامي قليلًا.”
كانت مدبرة المنزل، التي جاءت بالأغراض من البيت بدلًا مني.
نهضتُ ببطء، فسقط عن كتفي سُترة بدلة.
وانبعث منها عطر خفيف برائحة الحمضيات، لم يكن غريبًا عليّ.
كان عطرًا مألوفًا بطريقة غريبة، وكأنه يمنحني راحة نفسية.
“هل أنتِ من وضعت هذه السترة عليّ، سيدتي؟”
“لا، أنا لم أفعل إنها سترة رجل ربما يكون السيد الرئيس هو من غطاكِ بها؟”
“لكن ليس هو…”
لم يكن جيهان فهو لن يعود إلا بعد انتهاء مراسم الدفن.
وشعرت أن شيئًا مشابهًا حدث في حياتي السابقة أيضًا.
ولم أكتشف حينها من كان صاحب السترة في ذلك الوقت.
ثم صدر صوت خفيف من الاحتكاك.
مددتُ يدي داخل الجيب الداخلي للسترة، وسحبت شيئًا منها.
“جواز سفر؟”
سقطت بطاقة عمل من الجيب إلى الأرض، مع جواز السفر الذي لم أره في حياتي السابقة.
***
خرج الرجل من المستشفى فتوقفت أمامه سيارة سيدان سوداء.
نظر السكرتير إلى “جيها” الجالس في المقعد المجاور بنظرة خاطفة، ثم سأله وقد لاحظ أنه خرج من دون سترته.
فقد كان بكامل أناقته عندما دخل صالة العزاء.
“سيدي الرئيس، أين سترتك؟ كيف خرجت هكذا؟”
“حدث ذلك من غير قصد.”
رغم سؤال السكرتير، لم يُكمل “جيها” حديثه بعد قوله “حدث ذلك من غير قصد”.
أغلق فمه وظل يحدّق من النافذة، وكأنه غارق في التفكير.
“حسنًا… سننطلق الآن.”
بدأت السيارة التي أُدير محركها بالسير على الطريق الخالي كان وسط المدينة المتجه نحو الفندق في فجر اليوم هادئًا على نحو مفرط.
نظر السكرتير “هان” إلى “جيها” المراقب للمشهد خارج النافذة، ثم سأله بنبرة حذرة.
“لكن، سيدي الرئيس… بما أنك أتيت من دون علم رئيس مجلس الإدارة، فهل كان من الضروري أن تحضر الجنازة؟”
“…”
“أليست علاقتكما متوترة؟”
“علاقة متوترة”، هكذا قال، و”جيها” لم ينفِ ذلك.
فهي لم تعد خطيبته، بل أصبحت المرأة التي ستصبح زوجة أخيه غير الشقيق.
بدا أن “جيها” قد غرق في التفكير بعد سؤال السكرتير “هان”، قبل أن يفتح فمه أخيرًا.
“لأنني لم أرها منذ وقت طويل.”
أما عبارة “وأردت رؤيتها”، فقد كتمها في صدره.
كانت المرة الأولى التي يراها فيها منذ أن رفضت الزواج.
تذكّر “جيها” تلك اللحظة حين غطّى جسدها المنكمش بسترة سترته بينما كانت تغطّ في النوم.
كان تصرفًا عاطفيًّا لم يعتد عليه.
“لو لم يكن ذلك التقرير، لما ذهب إلى صالة العزاء.”
أطبق شفتيه بتوتر، متذكّرًا التقرير الذي وصله فور وصوله إلى البلاد.
وبينما لا يزال يُلقي نظرة جانبية على “جيها”، طرح السكرتير “هان” موضوعًا آخر بنبرة خفيفة.
“سمعت لتوي أن السيد والسيدة “يون” في حالة حرجة.”
“…إلى أي درجة؟”
عندها فقط، أدار “جيها” رأسه عن النافذة التي كان يحدّق فيها بلا مبالاة.
وبدأ السكرتير “هان” يتابع حديثه وقد لاحظ أن “جيها” قد أبدى اهتمامه أخيرًا.
“أفاد الأطباء بعدم وجود أمل في استيقاظهما والأسوأ من ذلك أن تحركات المساهمين ليست طبيعية لا نعلم ما الشروط التي طُرحت، لكن هناك من يسعى بشدة لدمج الشركتين.”
“دمج الشركات”…
أمر مروّع أن تكون لا تملك سلطة فعلية كزوجٍ فقط بالاسم، وفوق ذلك لا تستطيع حتى حماية نصيبك.
إنه صراع يفوق قدرة فتاة في التاسعة والعشرين، تربّت في بيئة مدللة دون أن تعرف شيئًا عن قسوة العالم.
“تذكرت، كان هناك جواز سفر داخل السترة.”
فجأة، خطر له جواز السفر الذي نسيه.
عبس “جيها” بشدة ثم مدّ يده بسرعة نحو السكرتير.
“هان، لحظة.”
“نعم…؟”
“أوقف السيارة علينا العودة.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 3"