أنهيتُ جميع المقالات التي كان عليّ إرسالها، ثمّ حدّقتُ في شاشة المراقبة.
لم يتبقَّ سوى نشرة الأحوال الجوية، لذا جمعتُ المخطوطات المتفرقة.
(لقد شارفتُ على الانتهاء.)
رأيتُ “سيورين” واقفة أمام الشاشة الخضراء المخصصة لتقنية الكروما.
ولم تعد إلى الاستوديو إلا بعد أن سمعت صوت أحد الموظفين يعلن عن حالة الاستعداد.
عادت بوجه يملؤه الحزم، دون أن تلقي نظرة على مكاني.
وهكذا، وقبل بدء البث بلحظات، التقت أعيننا حين أدارت رأسها ناحيتي.
كانت تنظر إليّ بنظرة ممتلئة بالغضب.
[والآن مع الأحوال الجوية.]
رنّ صوت “سيورين” العذب في الاستوديو، بينما كانت تُتابع تقديم نشرة الطقس.
وبعد انتهائها من التوقعات الجوية، أُسدل الستار بسلام على أخبار اليوم أيضًا.
“شكرًا لكم جميعًا على جهودكم.”
“شكرًا لكِ أيضًا، آنسة المذيعة.”
“رغم الأخبار العاجلة التي وردت، أديتِ دوركِ بسلاسة تامة.”
رغم كثرة المقالات التي غطّيناها، فقد كانت هناك نشرة عاجلة دخلت أثناء البث.
ورغم دخولها المفاجئ، تمكّنا من إدارتها بسلاسة أكبر مما توقعت، لذا شعرتُ برضا عن البث بعد فترة طويلة من الغياب.
“هل بدا الأمر طبيعيًّا؟ كنتُ أفكر بأنني أدّيت بشكل لا بأس به، خلافًا لما توقعت.”
تبادلت المجاملات، وساد جو من الألفة والود في الاستوديو بعد فترة من التوتر.
على عكس طاقم قسم البرمجة الحادّ الطباع، كان موظفو فريق الأخبار يعاملونني كما في السابق.
“ليس فقط لا بأس به، بل كان أداءً رائعًا لم نشعر أبدًا بغيابكِ.”
كنتُ أضحك وأتبادل الحديث مع بعض الطاقم المتجمّعين حولي، عندما التفتُّ إلى الصوت القادم من الخلف.
“ما رأيكم أن نرتّب جلسة ختامية ونشرب معًا بعد الانتهاء؟”
“فكرة رائعة، أليس كذلك يا سيورين؟ هل تودّين الانضمام؟”
وجّه المخرج وبعض الموظفين المحيطين بسيورين الدعوة لها وهي تضع اللمسات الأخيرة على الأوراق.
أظهرت سيورين ارتباكًا تجاه دعوتهم.
“آه، ماذا أفعل؟ أنا متوقفة عن الشرب حاليًا.”
“متوقفة عن الشرب؟ هل تتناولين الأعشاب الطبية هذه الأيام؟”
“سيورين تترك الشرب؟ كانت الساقية الملكية لفريق الأخبار!”
نظرت إليهم نظرة غامضة ثم ابتسمت، وكأنها تسخر من دهشتهم.
ثم التقت عيناها بعيني، إذ كنتُ واقفة خلف المخرج، وردّت:
“نعم، للأسف، لم أعد أستطيع الشرب.”
(ولماذا تنظر إليّ حين تتحدث؟)
تجهم وجهي لا إراديًّا.
كان أحد أسباب شعبية سيورين بين زملاء العمل هو حبّها الشديد للكحول، والذي كان لا يقل عن زملائنا من الرجال.
(توقفت عن الشرب؟)
“هذا مؤسف ماذا عنكِ، آنسة المذيعة؟ هل ستأتين معنا؟”
وانتقل اهتمام الفريق إليّ بنظراتهم المتلهفة.
“لديّ موعد اليوم، في مرة أخرى.”
أجبتهم بابتسامة آسفة، ثم التفتُّ مجددًا إلى حيث كانت سيورين، لكنها كانت قد اختفت تمامًا.
***
– هل انتهيتِ من العمل؟ لن تكوني قد نسيّتني، أليس كذلك؟
“كيف أنسى جايها؟ أنا في طريقي الآن، أوشكتُ على الوصول.”
وصلتني مكالمة من “جايها” عند وصولي إلى بهو المبنى.
وبينما كان يحثّني على القدوم، خرجت مسرعة من مبنى المحطة.
“أين أنت؟”
– ألا ترينني؟ أنا أراكِ، يا “يوجين”.
كنت أبحث بعيني عن سيارته، أتلفّت يمينًا ويسارًا.
“آه، وجدتك.”
رأيتُ سيارته متوقفة على بُعد عشرة خطوات تقريبًا.
وحين هممتُ بالسير في اتجاهه…
“يوجين أوني.”
تفاجأتُ.
“أفزعتِني.”
استدرتُ إلى مصدر الصوت الذي ناداني باسمي فجأة.
رأيت “سيورين” تمشي نحوي خارجة من الظلام، فتنفّستُ .
“كنتِ تنتظرينني هنا؟”
كان الوقت متأخرًا جدًا، قد تجاوز الحادية عشرة ليلًا.
وفي داخل السيارة، كان “جايها” يراقبنا بفضول، ينظر إليّ ثم إليها.
وحين التقت أعيننا، هزّ رأسه بهدوء، وكأنه يشير إلى أنه سيتابع ما تنوي “سيورين” فعله، ثم بدأ ينقر على هاتفه المحمول.
(يشير إليّ ألا أُغلق المكالمة؟)
قرأ “جايها” التساؤل في عيني، فأومأ برأسه.
فأعدتُ الهاتف إلى جيب سترتي دون أن أُنهي المكالمة.
“كنتُ أريد أن أقول لكِ شيئًا.”
“وما هو؟ هلّا أسرعتِ؟ لقد أنهيتُ البث وأريد أن أرتاح.”
مشاجرة كعكة المانجو والمواجهة في الحمام… لقد خضتُ معها معركة إرادات عدة مرات هذا اليوم وحده، وكنتُ منهكة.
رفعت حاجبيها بتعبير غريب، ثم ابتسمت بخفة.
“أنا أعيش مع خطيبكِ لا، أقصد، مع خطيبكِ السابق الآن.”
رفعتُ رأسي بدهشة غير مصدقة لما سمعتُ.
كنتُ أحدّق بها وقد صدمتني كلماتها، فأضافت:
“بفضلكِ، بالطبع.”
قالتها بكل جرأة، وكأنها تعمدت ذلك.
ابتسمتُ بسخرية لرؤية تعبيرها الواثق.
لكنها قطّبت حاجبيها وكأن رد فعلي لم يكن كما توقعت.
أن تنتظرني لتقول فقط إنها تعيش معه…
أمرٌ مضحك أن تكون هذه هي الرسالة التي حملتها لي.
ولأني لم أرغب في أن أسايرها، رمقتها بنظرة باردة.
“وماذا في ذلك؟”
سخرتُ ورددتُ عليها بجفاء، فلم أرَ أي قيمة في النقاش معها.
كان من البديهي أن “جيهان”، بعد فسخ الخطوبة، لم يجد مكانًا آخر يلجأ إليه، فلا يمكنه العودة إلى منزل العائلة في “بيونغتشانغ-دونغ”، فكان إما سكنه الخاص أو منزلها.
لم أعد غاضبة حتى شعرت فقط بالفراغ والسخرية من الوضع.
“ألا يُهمّك؟ أقول لك إنه يعيش معي الآن في بيتي!”
“إن كان هذا كل ما جئتِ من أجله، فأنا سأذهب أشعر بالإرهاق.”
لم يكن حديثها يستحق الاستماع.
وعندما خطوتُ نحو سيارة “جايها”، سمعتُ صوتها يرتجف قليلاً خلفي.
“أنا حامل.”
“…ماذا؟”
أوقفتني تلك الكلمات القصيرة على الفور.
هل كان هذا سبب انتظارها لي في هذا المكان البعيد؟
استدرتُ نحوها، وعيناي لا تفارقان وجهها، وصوتي يرتعش خافتًا:
“هل قلتِ إنكِ…؟”
ساد صمت ثقيل بيننا، وكلٌّ منّا يحدّق في الآخر.
(حامل؟… ماذا فعلتِ؟)
شعرت أن أفكاري تتلاشى في الهواء وكأن الزمن حولي بدأ يتباطأ.
لم أصدق أذني، فاستدرتُ تمامًا لأنظر إليها مجددًا.
“أنا أحمل طفل ، قلتُ لكِ!”
وحين صرخت مجددًا، كما لو أن الزمن عاد إلى التدفق من جديد، شعرت بأنني أُفيق من دوامة أفكاري.
(حامل؟ طفل؟)
نبأ حمل “سيورين” هو ما دمّر زواجي السعيد في لحظة واحدة.
ذكريات حياتي الماضية، المؤلمة والمرعبة، بدأت تتدفّق نحوي.
(لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا…)
عضضتُ شفتَي دون وعي.
بدأ قلبي، الذي كان ساكنًا، ينبض بقوة تكاد تفجّره من بين ضلوعي.
هذا ليس المستقبل الذي كنت أعرفه… الطفل الذي كان من المفترض أن يأتي بعد خمس سنوات، لماذا…؟
كنت أظن أن خبر الحمل سيأتي لاحقاً، لكن…
حتى في خضم الأحداث المتغيرة عن الماضي، شعرت بأن خيانةً سافرة تنهض أمامي بكل وقاحة.
لقد واجهت “سورين” وهي تحمل طفله، ليس مرة واحدة بل مرتين.
تحوّلت إلى امرأة سافرة لا تخجل من خيانتها، عشيقة لا تخفي فِعلتها.
كان دمي يغلي في عروقي وكأنه يسير عكس اتجاهه، وكأن نبضاتي تقفز للأعلى حارقة كل ما تمر به.
من كان يظن أن كلمتي، “خذي ذلك الرجل”، سترتد إلي بهذا الشكل القاسي.
تقدّمت نحو سورين بوجه لا يصدق، ثم توقّفت.
كانت تبتسم لي بتعبير غامض لا يمكن سبره.
“ألم تقولي لي، أن أستمتع ثم أُنهي كل شيء في الوقت المناسب؟”
”…هاه.”
“لكن ماذا أفعل؟ إنه والد طفلي علاقتنا ليست من النوع الذي يمكن إنهاؤه بعد تسلية عابرة.”
بثقة المنتصر، رمقتني بسخرية متعجرفة.
راودتني رغبة جامحة في أن أقبض على عنقها وأقذفها بعيداً.
“كيف لك أن تقولي بكل برود إنك حامل؟”
ليس أي شخص، بل “تشاِي سورين”، أنتِ بالذات.
ما كان ينبغي لكِ أن تفعلي هذا بي…
“أوبا لا يمكنه أن يتركني.”
كانت تلك الكلمات مما قالته لي في وقتٍ سابق من النهار.
“هكذا إذاً… هذه هي ورقتك الرابحة.”
كانت هذه إجابة على تحدٍّ سابقٍ مني لها.
استنشقت نفساً عميقاً، فبدأ الغضب المحتدم داخلي يخبو ببطء.
“حتى لو لم يكن صادقاً معك، إلا أنه صادق معي طفلنا هو دليل حبنا.”
أعدت خصلات شعري المبلل بالعرق إلى الخلف.
ومع مسحة الهواء البارد التي لامست وجهي، بدا لي أن عقلي قد عاد إلى صوابه.
“لأنك حامل… أنتِ…”
“سوجيهان”…
حتى في حياتي السابقة سبّبت لي الألم، والآن أيضاً، تحاول تقييدي بهذا الشكل.
لو أن خيوط العلاقة بيننا كانت مرئية، لقطعتها شرَّ تمزيق.
قبضت على يدي بإحكام وأنا أتصور هذا المشهد المُشوَّه.
“أشعر وكأن كل شيء عاد إلى مكانه كنت أشفق عليه، أن يتزوج من امرأة لا يحبها.”
قالت كلماتها وكأنها صادقة، ثم اختفت ابتسامتها الماكرة.
“وكما تعلمين، هو رجل يقدّس الروابط الدموية أكثر من أي شيء آخر.”
”…”
“وتعلمين جيداً، أنه لا يستطيع التخلي عني بسهولة.”
نعم… كان الرجل الذي لا يهتم بزواجه بي، لكنه يتمسك بجنون بالدم والأنساب.
خصوصاً دمه هو… لن يتخلّى عنه بسهولة، وسينتهي به الأمر بالزواج منها.
“لكن، هل يا تُرى، سيكون ذلك الزواج سعيداً؟”
كانت “سورين” تبدو مثيرة للشفقة في جهلها بالمستقبل الآتي.
يا لسذاجتها وهي تتشبث بحبلٍ فاسد، معتقدة أنه خلاصها.
“هل كنتِ ترغبين بذلك الرجل لهذه الدرجة؟”
”…”
“هل يمكنك حقاً أن تُحبي شخصاً مفلساً، بلا مال ولا مكانة؟”
حين تخيّلت “سورين”، التي تملؤها الأهواء، وهي تواجهه لا كوريث لعائلة “هوجين”، وجدت في قلبي سخريةً لاذعة.
لا بد أن هذا الزمن، وتلك الأيام التي مرّت، ستجعلها تشعر بندمٍ لا يُحتمل، تماماً كما شعرتُ أنا.
“هيا، حاولي أن تُحبي سوجيهان، بعد أن يفقد كل شيء.”
“إن كنتِ تريدينه إلى هذه الدرجة…”
نظرتُ إليها وأنا أبتسم بهدوء.
“خُذيه.”
فلم أعد أريده بعد الآن.
وفي تلك اللحظة، سُمع صوت باب السيارة وهو يُفتح، وظهر “جايها” يقترب بخطوات واثقة.
عيناه، اللتان كانتا تلمعان في البداية بالفضول، باتتا الآن باردتين كالجليد.
“تشاِي سورين.”
ةنادى باسمها بصوتٍ منخفض، مليء بالحدة.
كان نبرة لم أسمعها من “جايها” من قبل.
وقفت “سورين” في مكانها مذهولة، لم تتوقع وجوده في هذا المكان.
“يبدو أنني سمعت شيئاً عظيماً للتو.”
“آه، أنا…”
همست “سورين” بشفتيها المترددة أمام “جايها”.
“منذ أن رُفضتِ في تجربة الأداء، يبدو أنك لم تعودي تهتمين بصورتك أيضاً؟”
تابع حديثه بابتسامة باردة تخلو من أي دفء.
“ماذا لو سمع الآخرون عن علاقتك السرية؟ ألا تخافين من الكلام بهذه العلانية؟”
تفرّسها بنظرة ممتلئة بالاشمئزاز، ثم تجاوزها متجهاً نحوي.
“هيا بنا.”
أمسك بيدي وسار بي نحو سيارته.
نظرتُ إلى يده، كيف أمسكت يدي أنا، لا كمّ معطفي، ولا معصمي… بل يدي أنا.
هل كان يعلم ما الذي كان يُمسكه بالفعل؟
“آه، وبالمناسبة.”
توقف فجأة، والتفت نحو “سورين” مجدداً.
رأيت في عينيها اضطراباً واضحاً، وهي تنظر نحونا بالتناوب.
“يبدو أن عتبة منزلنا أصبحت منخفضة جداً في غيابي.”
رفعت “سورين” نظرها إليه بتعبير حائر، لا تفهم قصده.
ثم أردف بصوت ساخر وهو يرمقها بنظرة ضيقة العينين:
“منذ متى أصبح بإمكان أي أحد أن يصبح سيدة منزل هوجين؟”
كأنما يقول: “أنتِ؟ كيف تجرؤين؟”
وأدركت “سورين” المغزى من كلماته، فانكسر وجهها وتشوّه تعبيرها تماماً.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 29"