لم يمضِ وقت طويل حتى خرجتُ من مكتب المدير العام برفقة جايها.
على عكسي، أنا التي ارتبكتُ من دعوته المفاجئة لتناول الطعام، كان جايها الذي كان يقود السيارة إلى جانبي هادئاً تماماً.
“إلى أين نذهب؟”
“ستعرفين عندما نصل.”
لم يخبرني جايها بشيء عن وجهتنا رغم أنه كان متجهاً إلى مكانٍ ما.
كنتُ أحدّق من النافذة محاوِلةً التكهّن إلى أين نحن ذاهبان، حتى بدأت سيارته تتوقف تدريجياً.
“هل سنأكل هنا؟”
سألته وأنا أنظر إليه بوجهٍ مرتبك.
كنت أظن أننا سنذهب لتناول الطعام في مطعم.
لكن المكان الذي توقفت فيه سيارة جايها كان مجمع شققٍ فخمة، لم أزره من قبل.
“نعم، انزلي.”
“أين نحن؟”
أظهر تعبيراً وكأن الأمر لا يستحق كل هذا السؤال.
وبخلاف حالتي، بدا جايها مرتاحاً وهو يفك حزام الأمان ويقول:
“هذا منزلي.”
(منزل جايها؟)
يوجد العديد من المطاعم، أو حتى مطاعم الوجبات السريعة، لكنه يقول إنه منزله؟
لم أكن أعرف كيف أستوعب كلامه، فبقيت ممسكة بمقبض باب السيارة دون حركة.
وعندما نظر إليّ، خرج من السيارة وفتح باب الراكب.
“متى انتقلت إلى هنا؟”
ألم يكن يقيم في فندق حتى وقتٍ قريب جداً؟
لم أصدق أنه انتقل خلال هذه الفترة القصيرة.
“انتقلت؟ ربما منذ أسبوع تقريباً.”
“…”
“أعتقد أن عودتي إلى أمريكا ستتأخر أكثر مما توقعت وبدأت أملُّ من الفندق أيضاً.”
قال ذلك وهو يمدّ لي يده وكأنه يطلب مني النزول.
وفي النهاية، دخلتُ إلى منزله.
كان منزل جايها، الذي أزوره لأول مرة، مليئاً بأثاث خشبي فاتح اللون، مما منح المكان شعوراً بالدفء.
“مع أنه منزل جديد، إلا أنه يبدو كبيت يعيش فيه الناس فعلًا…؟”
تذكّرت شكل الغرفة المرتّبة في الفندق، حتى جهاز التحكّم عن بُعد كان موضوعاً بزاوية محدّدة.
كم يختلف جوّ هذا البيت عن ذلك.
ضحك بخفة، وكأنه فهم مقصدي من الكلام.
“إنه أكثر دفئاً من المكان الذي تعيشين فيه، أليس كذلك؟ رائحة الطبخ تعبق في الجو أيضاً.”
“حسناً… هذا صحيح.”
شعرت بالحرج فجأة وأنا أتذكر شكل بيت الزوجية الذي لا يختلف كثيراً عن غرفة الفندق.
بعد نظرة سريعة، بدا المنزل كبيراً جداً على شخصٍ يعيش بمفرده.
“أليس هذا المكان كبيراً قليلاً لتعيش فيه وحدك؟”
قلت ذلك وأنا أجلس على أحد الكراسي في المطبخ بعد أن تجولت بنظري في غرفة المعيشة.
نظر إليّ نظرة جانبية وأخذ يُظهر تعبيراً غامضاً.
“قد لا يكون هذا المكان لأسكن فيه وحدي لا أحد يعلم ما قد يحدث.”
قال عبارة ذات مغزى، ثم أنزل رأسه من جديد.
تبعته عيني وهو منهمك منذ قليل في إعداد شيء ما.
كان هناك أدوات مائدة ولوح تقطيع جاهزة قبل أن نصل، ما يوحي بأنه يطبخ بنفسه عادةً.
(مذهل…)
باستثناء العائلة أو العمة، لم يسبق أن طهى أحد لأجلي.
ما كنتُ أراه دون تفكير بات الآن مشهداً غريباً جداً.
من تحت كمّي القميص الأبيض المطويين ظهرت ذراعه القوية.
ومع كل مرة يقطّع فيها الخضار، كانت عروق ذراعه تبرز تحت القماش.
رؤية عضلاته المشدودة أعادت إلى ذهني تلك الليلة بكل تفاصيلها.
(ما الذي أفكر به الآن؟)
هززت رأسي يمين ويسار، ثم انتقل بصري تدريجياً إلى ياقة القميص المفتوحة بزر واحد.
لماذا فكّ ربطة العنق التي كان يرتديها عندما دخلنا؟
وبينما كنت أنظر إليه، التقت عينانا فجأة وهو يرفع رأسه عن لوح التقطيع.
فزعتُ كمن ارتكب خطأً وضُبط، وحرّكت رأسي بعيداً.
“أهذه أول مرة ترين فيها أحداً يطبخ؟”
سمعت صوته المنخفض يسألني.
“آه… لا فقط استغربت، هذا كل ما في الأمر.”
أحرجني أن أُدرك أنه شعر بنظراتي.
رفعت كأس الماء الموضوع أمامي محاولةً التصرّف بطبيعية، لكن فمي كان جافاً بشكل غريب.
(كل هذا بسبب ما حدث في تلك الليلة…)
هو يتصرّف وكأن شيئاً لم يحدث، أما أنا فأشعر وكأني الوحيدة المتأثرة وهذا أشعرني بالهزيمة.
رآني أتصرف هكذا، فابتسم بخفة، ثم أنزل نظره مجدداً.
“ماذا تطهو؟”
“يخنة فول الصويا بلحم الصدر.”
“واو، تعرف كيف تطهو شيئاً كهذا؟ كنت أظن أنك تأكل دائماً في الخارج.”
خرجت الكلمات من فمي دون قصد.
كنتُ قد توقعت شيئاً منذ أحضرني إلى منزله بدل المطعم، لكني لم أتخيل هذا المستوى.
كنت أعلم أنه بارع في عمله، لكن لم أكن أعلم أنه يجيد الطبخ أيضاً.
“الأكل في الخارج جيد أيضاً، ولكن…”
وعندما رمقني بعينيه المندهشتين، ابتسم ابتسامة عفوية.
ثم تابع حديثه الذي كان قد قطعه:
“ظننتُ أن يوجين لم تتذوق طعام البيت منذ وقتٍ طويل.”
ألقى حفنة من الكوسا في القدر.
ربما كان يخطر في باله منظر ثلاجتي الفارغة.
لم أتصور مطلقاً أن هذا العشاء المفاجئ كان لهذا السبب.
(ها هو يتجاوز الخط مجدداً…)
كان يتخطّى الخط الفاصل بيني وبينه مراراً وتكراراً.
ما هذا الشعور؟ كانت مشاعر تغمرني لا أستطيع وصفها بالكلام.
“همم طعمه خفيف قليلاً هل تحبين الطعام الخفيف؟”
وضع الملعقة التي تذوّق بها الطعم، ثم التفت إليّ.
لكن الأمر لا يتعلّق بكونه خفيف المذاق أو لا…
“أنا… أتناول أي شيء…”
“أنا لا أحب الطعام الخفيف.”
قطّبت حاجبيّ دون أن أشعر لما يسأل إن كان سيفعل ما يريد على أية حال؟
ثم رأيت ابتسامته وكأن في الأمر مزاحاً.
“أوه، هذا التعبير ممنوع المزاح، اتفقنا؟”
خشيت أن يبدأ بمضايقتي مجدداً كما فعل في المرة السابقة، فسارعت إلى منعه.
نظر إليّ وكأنه لا يمكن ردعه، ثم قال:
“حسناً هل تستطيعين إخراج الملح من الدرج العلوي بجوار الثلاجة؟”
“هنا؟”
أشرت إلى خزنة، فأومأ برأسه.
كانت مرتفعة قليلاً، فاضطررت للوقوف على رؤوس أصابعي.
فتحت الباب بصعوبة، ومددت يدي نحو علبة الملح الموضوعة في المقدمة، لكنها كانت بعيدة قليلاً.
“همم… مرتفعة.”
تمتمت لنفسي، ومددت يدي مرة أخرى، لكن فجأة امتدت ذراع طويلة من خلفي.
“…!”
تفاجأت والتفتُّ لأجد جايها قريباً جداً مني.
(قريب… جداً…)
كان قريباً إلى درجة أن أنفه كاد يلامس وجهي لو انحنى قليلاً، فتجمّدت في مكاني.
التقت نظراتنا، وبدأت عيناي تهتزّان بلا حيلة.
“نسيتُ أنني وضعتها على ارتفاع مناسب لطولي.”
كلما تحدّث، كان نَفَسه الدافئ يلامس وجهي ويثير قشعريرتي.
ثانية، ثانيتان… واستمرت النظرات عالقة هكذا.
ارتبكتُ لدرجة أنني لم أستطع تحريك جسدي بسهولة.
وضع علبة الملح إلى جانبه، وحدّق بي.
“لماذا تنظرين إليّ هكذا؟ قلت إنني لن أمزح، صحيح؟”
تلاشت الابتسامة المازحة عن وجهه فجأة.
ثم سألني بصوتٍ عميق ودافئ:
“إن واصلتِ النظر إليّ هكذا، سأبدأ في إساءة الفهم.”
…إساءة الفهم؟ بأي معنى؟
حين اخترقت عيناه اللامعتان نظراتي، احمرّ وجهي.
وأخيراً عدت إلى رشدي، فتراجعتُ خطوة للخلف.
“احترسي!”
فجأة جذب خصري نحوه بقوة.
كنت أحاول الابتعاد، لكنني التصقت به أكثر من ذي قبل.
“هناك زاوية حادة ماذا لو مشيتِ هكذا دون أن تنظري خلفك؟”
في نهاية نظره، رأيت حافة الطاولة الحادة.
لكن الشعور بالدفء في خصري من لمسته كان أقوى من الشعور بالخطر.
أحسست بوجهي يحمر مجدداً رغم إرادتي.
وخفتُ أن يسمع صوت قلبي الذي بدأ ينبض بعنف.
كنت أبحث عن كلمات أقولها، بينما كان بصري يتشابك مجدداً بنظراته العميقة.
وفي اللحظة التي أوشكتُ فيها على الذوبان، التفت عني أولاً.
“اذهبي واجلسي. العشاء انتهى.”
.
.
.
بعد الانتهاء من العشاء، أوصلني جايها إلى البيت.
“شكراً على العشاء. كان لذيذاً جداً.”
“سعيد أنه أعجبك.”
مرّ وقت طويل منذ أكلت طعاماً أعدّه أحد من أجلي.
كنتُ دوماً من يعدّ للآخرين فقط.
“سأذهب الآن عَد بحذر، رجاءً.”
استعجلت في أخذ حقيبتي والنزول من السيارة بسبب تأخّر الوقت.
“لحظة.”
فكّ حزام الأمان وأخرج شيئاً من المقعد الخلفي.
كان باقة من زهور الأقحوان البيضاء.
ناولني جايها الباقة التي فاح منها عبير الأعشاب.
“ما هذا؟”
سألت بصوتٍ متفاجئ دون قصد لم أتوقع مطلقاً أن أحصل على هدية زهور منه.
“تهنئة… وهدية؟”
أجاب ببساطة، فتبسّمت دون شعور.
وحين رآني أبتسم برقة، أضاف تفسيراً وهو يبدو راضياً:
“كأنها طريقة لأقول: أتمنى تعاوناً جيداً في الانتقام القادم أيضاً.”
ومضى جايها في طريقه بعد أن قال ذلك.
نظرتُ إلى الزهور البيضاء التي تتلألأ حتى تحت ضوء الليل، وارتسمت على وجهي ابتسامة مشرقة.
كنت أحب الزهور حقاً… متى كانت آخر مرة تلقيت فيها زهوراً كهذه؟
لم أستطع تذكّر مناسبة بعينها، مما جعلني أشعر وكأنها كانت من زمنٍ بعيد.
“…رشوة لطيفة تبعث على السرور.”
غرست وجهي بين الزهور.
كانت رائحتها العشبية عطرة لدرجة أنها أعادت إليّ ذكريات قديمة نسيتُها منذ زمن.
***
استندت سيورين إلى الأريكة وغرقت في تفكير عميق.
كانت تسترجع صورة يوجين التي رأتها في المقهى.
في ذلك اليوم، خلال ساعة الغداء، رأت يوجين تتحدث مع رجل في منتصف العمر داخل المقهى.
لم تكن تعرف من يكون، لكن مظهره الأنيق وهالته لم يكونا عاديين.
وقبل كل شيء، كانت قد رأت بوضوح الرجل وهو يسلم يوجين ظرفاً يحتوي على مستندات مع وحدة USB.
وعندما استعادت وعيها، كانت قد نسخت بالفعل محتويات تلك الـUSB على قرص صلب خارجي.
“هاه…”
لا، إن أرادت أن تكون صادقة، فقد شعرت بذلك بشكل غريزي شعرت أنه سيكون ورقة مهمة للغاية.
“لا أعلم ما هو، لكن يبدو أنني عثرت على شيء مذهل، أليس كذلك؟”
والآن، بعدما رأت محتوى الشاشة على الحاسوب المحمول، أدركت مدى دقة حدسها المخيف.
في الحقيقة، لم تكن سيورين على دراية بتعقيدات أمور الشركات.
لكن ما إن فتحت الملف، حتى وقعت عيناها مباشرة على ثلاثة أحرف مألوفة.
“المدير التنفيذي لمجموعة هوچين، سيو جيهان.”
حتى من النظرة الأولى، أمكنها أن تدرك أن المشروع كان مشروعاً طموحاً تُعدّه مجموعة هوچين.
وأن الشخص الذي يقود هذا المشروع هو جيهان.
“لكن… هذا بحوزة يون يوجين؟”
حتى بنظرة سريعة، بدا الأمر مريباً للغاية.
رفعت سيورين كأس النبيذ الموضوع بجانبها وأمالته قليلاً.
مجرد التفكير بيوجين كان يجعل فمها، الذي لطالما كان جافاً ومراً، حلو المذاق الآن.
حين بدأت علاقتها مع جيهان، لم تكن تتصور حتى أن تصل إلى مقعده الجانبي.
لكن إن استمرت الأمور على هذا المنوال، فلن يمر وقت طويل قبل أن يُطلق عليها لقب “سيدة مجموعة هوچين”.
في تلك اللحظة، اهتز الهاتف الموضوع بجانبها وأضاءت شاشته.
[تم استلام طلبك الخاص بطلب كعكة كاملة ، الاستلام…]
وما إن قرأت الرسالة، حتى تبدلت حالتها فجأة، ووضعت الهاتف بعصبية على الطاولة.
إلى متى عليها أن تستمر في هذا التمثيل كالملاك؟!
“هاه، مزعج… لا أستطيع حتى التظاهر بأنني طيبة بعد الآن.”
“بما أن المذيعة الجديدة قد تم اختيارها، ألا يجدر بنا تقديم كعكة تهنئة على الأقل؟ حضّري شيئاً.”
تذكرت سيورين تلك اللحظة عندما رمى المدير هذه العبارة عرضاً، فتغير جو قسم البرامج كلياً إلى البرود.
أن يهتم المدير، الذي لم يكن يبالي سابقاً، فجأة بيوجين، كان بحد ذاته تمييزاً واضحاً.
في تلك اللحظة، لم يتقدم أحد رغم كلمات المدير، واكتفى الجميع بتبادل النظرات المريبة.
“سأحضّر الكعكة.”
رفعت سيورين يدها على مضض وسط ذلك الجو البارد.
“لأنني أعرف ما تحبه أختي أكثر من أي شخص.”
ما زالت تتذكر بوضوح كلمات زميلاتها اللاتي حاولن ثنيها عن ذلك متسائلات لماذا تبذل كل هذا الجهد.
“بالطبع، لم أكن أرغب في أن أصل إلى هذا الحد أنا أيضاً.”
لكنها فعلت ذلك فقط لتتجنب أي عواقب لاحقة.
منذ أن التحقت بالعمل بعقد مؤقت، كانت تكافح لتحتفظ بموقعها كمقدمة لنشرة الأخبار الرئيسية.
“تجربة أداء المذيعة، كم كان من الصعب أن أحصل على تلك الفرصة.”
حتى تلك الفرصة، التي حصلت عليها بصعوبة بعد إقناع جيهان، سُلبت منها لصالح يوجين.
لم تكن ترغب أبداً في تحضير كعكة من أجل يوجين، لكنها اضطرت إلى تحمل ذلك.
“صحيح… حان الوقت لأتوقف عن هذا التمثيل البغيض.”
فالمنصب الذي تطمح إليه أكثر من منصب المذيعة أصبح أقرب من أي وقت مضى.
وإن استطاعت أن تصبح فرداً من عائلة هوچين، فهل يهم حينها كل هذا القهر؟
حينها، سيبدأ الجميع في النظر إليها بإعجاب.
وبينما كانت تستسلم لفكرة أن هذه الفرصة قد لا تتكرر مجدداً، تلألأت عينا سيورين ببريق الطمع.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 27"