“صباح الخير.”
حين فتحت باب المكتب وألقيت التحية، توقفت أصوات المذيعين الذين كانوا يتحدثون بصخب.
وعندما أدرت رأسي نحو الجدار، رأيت عقرب الساعة يشير إلى الثامنة.
كان الصباح باكرًا، أبكر بكثير من وقت الحضور المعتاد.
ورغم أن عدد الحاضرين كان قليلاً، لم يردّ أحد على تحيتي.
وخلال مروري في الرواق، لم أسمع إلا صمتًا يخيّم، مع بعض النظرات الخاطفة التي كانت تلاحقني.
وحين وضعت حقيبتي على المكتب، التقت عيناي بعيني المذيعة التي كانت تجلس أمامي.
“هَيُنجونغ، صباح الخير.”
“آه… نعم، صباح الخير.”
بادلتني التحية بوجه مرتبك.
ثم أدارت رأسها مباشرة نحو الصوت القادم من جانبها.
“هَيُنجونغ، هل تذهبين إلى المقهى؟ سنذهب الآن.”
“رائع! هيا، هيا بنا.”
كان فرق المزاج واضحًا، مختلفًا تمامًا عن وجهها المتحرّج منذ لحظة.
وكان الأشخاص الجالسون في المكتب قد تجمعوا عند الباب دون أن أشعر.
وقفت هي من مكانها، وألقت عليّ نظرة سريعة قبل أن تتجه إلى زميلتها.
“أليس… اليوم هو موعد الاختبار؟”
“بلى، يُقال إنه سيكون بعد وقت الغداء.”
سمعت حديثًا خافتًا وهم يغادرون المكتب.
وعندما جلست في مكاني، رأيت جدول التقييم العلني مؤشّرًا عليه بتاريخ اليوم.
كان الجو الغريب بين المذيعين قد بدأ منذ أيام.
“تشاي سيورين وجهت لها ضربة موجعة.”
كان الأمر طفوليًّا للغاية.
نظرات بدأت بأشخاص معدودين، لكنها أخذت في التزايد يومًا بعد يوم ككرة ثلج تتدحرج.
أسندت ظهري إلى المقعد، وأغمضت عيني تحت وطأة التعب.
من البداية، كنت واثقة أن مصدر تلك الشائعات التي لاحقتني كانت هي.
ومنذ اجتماع المساهمين، وكأنها لم تعد تنوي إخفاء شيء، إذ بدأت تُظهر عداءً تجاهي.
تذكّرت تلك اللحظة عندما التقيت بها أمام غرفة التسجيل في المرة الماضية.
“لا يوجد دليل.”
كان هذا جوابها عندما واجهتها وسألتها: “ألم تكوني أنتِ من فعلها؟”
“صحيح، لا يوجد دليل على أنك من فعلتها.”
مرّت بضعة أيام بعد ذلك التوتر النفسي.
ومع ذلك، لا تزال نظراتها المليئة بالاحتقار عالقة في ذهني.
وعندما فتحت جفني، كان المكتب الفارغ أمامي.
لا تزال الهمسات القادمة من خارج حمام النساء عالقة في ذاكرتي كأنها حدثت بالأمس.
“المذيعة يُون قاسية حقًّا، ألم تقل إن والديها مريضان؟”
“رغم أن والديها بين الحياة والموت، ها هي تعود من إجازة المرض مباشرة لتسعى لأن تصبح مذيعة رئيسة لا بد أنها مهووسة بالعمل.”
“كان من الأولى أن تلازم سرير المرضى وتقوم بالتمريض بدلاً من ذلك.”
كانت شائعات تفوق الخيال.
“أليست من عائلة ثرية؟ لماذا تعود للعمل إذًا؟ حقًّا لا أفهم.”
وريثة لعائلة ثرية، عادت للعمل لتصبح مذيعة رئيسة.
موضوع مثير يجذب اهتمام الناس بسهولة.
“مهووسة بالعمل، هكذا يقولون…”
مرّرت يدي على شعري الذي انساب جانبًا.
كيف لإنسان يختبئ تحت قناع أن ينسج أكاذيب فظيعة كهذه؟
“كيف فكّروا بإطلاق شائعات لا أساس لها كهذه؟”
هل كانت تشعر بذلك القدر من الطمع تجاه موقعي رغم أن لديها سُو جِيهان؟
أم أنها شعرت بالقلق من تغيّر موعد التقييم العلني المفاجئ؟
كانت تصرفاتها دنيئة إلى درجة أنني بت أتساءل: إلى أين يمكن أن تصل في دناءتها؟
***
مرّ وقت العمل الصباحي بسرعة.
تلقيت الماكياج استعدادًا لاختبار المذيعة، ثم نزلت إلى الطابق المخصّص للاختبار.
وحينما فُتح باب المصعد وبدأ استوديو آخر الرواق بالظهور، تفاجأت بشخص غير متوقع جعلني أفتح عينيّ دهشة.
(ما الذي يفعله هذا الشخص هنا؟)
كان وجهًا مألوفًا للغاية بارزًا بين الحاضرين.
كان “جِايها ” يرتدي بدلة رسمية، ويتحدث مبتسمًا مع المدير.
(ما الوضع هنا؟)
أملت رأسي باستغراب دون أن أشعر.
“الاستوديو هنا، وهناك اختبار للمذيعين اليوم أيضًا، كما تعلمين.”
“أفهم.”
كان يتفحص المكان بنظراته الباردة، متابعًا ما يُعرض عليه من دليل المكان.
وبعد أن ألقى نظرة سريعة، استدار عن الاستوديو.
من الواضح أنه لم يكن مهتمًّا بمرافق محطة البث، فلماذا أتى إذًا؟
لكن عينيه تغيّرتا بوضوح حين التقت نظراته بي.
“متى يبدأ الاختبار؟”
وجّه “جِايها” سؤاله إلى المدير وهو ينظر نحوي.
“سيبدأ قريبًا أعتقد أنه في الساعة الثانية صحيح؟”
“نعم، يبدأ في الساعة الثانية، سيدي المدير.”
استدرت على صوت فتح باب الطوارئ القريب.
ظهر أحد أفراد الطاقم عند الباب، وبوجه مفرط في الفرح اقترب مني.
“المذيعة يُون! كنا نبحث عنك!”
“تبحثون عني؟”
“نعم! لماذا لا تردّين على هاتفك؟”
كانت تلهث وكأنها ركضت في أرجاء المكان بحثًا عني.
وحين رأيت العرق المتصبّب على جبينها، شعرت ببعض الذنب.
“أنا آسفة لم أجد هاتفي منذ قليل.”
كنت في الأساس أنوي العودة لغرفة الانتظار لأبحث عنه.
يبدو أنني وضعته في مكان ما بينما كنت أتنقل بين غرفة التجميل وغرفة الانتظار…
“هل هناك أمر ما؟”
“رئيس القسم يبحث عنك قال أن تذهبي فورًا إلى الاستوديو الموجود في الطابق الثاني تحت الأرض.”
“الآن؟”
نظرت إلى ساعتي.
كان الاختبار سيبدأ قريبًا، وفوق ذلك لم يُطلب مني الذهاب إلى مكتبه، بل إلى استوديو التصوير.
الاستوديو في الطابق الثاني تحت الأرض عادةً ما يُستخدم لتصوير الدراما.
شعرت بالغرابة، وكأنها فهمت ذلك، فحكت مؤخرة رأسها وقالت:
“وصلني الأمر عبر الرسائل أيضًا قيل فقط إنه أمر عاجل، وطلبوا أن تذهبي فورًا.”
“أفهم هل يمكنك الاتصال برئيس القسم مرة واحدة من فضلك؟”
تناولت الهاتف منها واتصلت برئيس القسم، لكن كل ما سمعته كان صوت الإشارة فقط.
“لا يرد، أليس كذلك؟”
“نعم، يبدو أنه مشغول سأنزل لأتفقد الأمر، شكرًا لك.”
أعدت الهاتف إليها.
ربما كان الأمر طارئًا، وبما أن دوري في الاختبار سيكون في النهاية، فلا بأس إن ذهبت وعدت بسرعة.
(لا خيار آخر.)
وحين التفتُّ، التقت عيني بنظرات “جِايها” وسط الحاضرين في البعيد.
أشار بذقنه نحو الاستوديو، كأنه يسألني: “لماذا لا تدخلين؟”
أشرت برأسي نفيًا، ثم استدرت وتوجهت نحو الاستوديو في الطابق الثاني تحت الأرض.
.
.
.
فتحتُ البابَ الذي كُتب عليه “استوديو في نهاية الممر”.
وحين ضغطتُ الزر خارج الباب، أضاء المكان من حولي.
وبما أن الاستوديو كان تابعًا لمسلسل انتهى بثه حديثًا، فقد كانت الأدوات المستخدمة في التصوير لا تزال موجودة في مكانها.
“يبدو أنهم لم يبدأوا عملية التفكيك بعد…”
لم يكن المدير قد وصل بعد، وكان الاستوديو خاليًا تمامًا.
وبينما كنتُ أتجول متأملةً المكان، فُتح الباب.
“ما الذي تفعلينه هنا؟”
ظننتُ أنه المدير، لكن الذي دخل إلى الاستوديو لم يكن سوى جايها.
اقترب مني بخطى واسعة، بينما كنت واقفة بمفردي.
“آه… لأن المدير قال إنه يبحث عني.”
“هنا؟ أليست تجربة الأداء ستبدأ قريبًا؟”
بدا أن الوضع غريب في نظره، فضحك بسخرية.
ثم أخذ ينظر حول الاستوديو وجلس على الأريكة الموضوعة أمامه.
“صحيح الأمر غريب فعلًا لكن كيف علمتَ أنت بالأمر ؟”
“سألتُ أحد الموظفين الذين كنتُ معهم.”
ألم يكن قبل قليل يتلقى جولة تعريفية داخل مبنى البث؟
جلس متكئًا على الأريكة وكأنه يقول إن الأمر لا يستحق الذكر، ناظرًا إليّ.
“كان الوضع مملًا للغاية، فهربت.”
“نعم…؟”
مرت أمامي صورته وهو يستمع إلى الشرح بوجه خالٍ من الاهتمام.
ذلك الشرح الممل كله كان لأجله، على الأرجح.
“قلتُ إن هناك مكالمة طارئة وخرجت الآن لا بد أن السكرتير المرافق لي يعاني لسماع ذلك الشرح بدلًا عني.”
“…آه.”
“على كل حال، لا يبدو أن المدير سيأتي، فلنغادر؟”
حين نظرت إليه وكأنني فهمت السبب، نهض جايها فجأة من مكانه.
وعندها حدث ذلك.
صوت انغلاق الباب تردد في أرجاء الاستوديو الصامت.
أو بالأحرى، كان صوت قفله.
“…؟”
شعرتُ بقلق شديد وركضتُ نحو باب الاستوديو.
درتُ مقبض الباب مرات عدة، لكنه لم يُفتح، فقد تم قفله من الخارج.
ثم انطفأت أضواء الاستوديو وغمرنا الظلام التام.
“أوه، لحظة من فضلك!”
طرقتُ الباب بلهفة، لكن لم أجد إلا الصمت ردًا.
“هناك أحد هنا!”
صرخت وأنا أدير المقبض، لكن خطوات الأقدام البعيدة أخذت تبتعد تدريجيًا.
وحيث إن الاستوديو بلا نوافذ، فقد خيم الظلام الدامس.
“من الذي يمكن أن يفعل شيئًا كهذا…؟”
الأمر كان مريبًا أن يأتي شخص إلى هذا الاستوديو في الطابق السفلي ويقفل الباب!
وفي ظلامٍ حالك لا يُرى فيه شيء، سمعتُ وقع خطوات تقترب.
“جاي… جايها، أين أنت؟”
ارتجف صوتي وأنا أناديه.
خشيتُ أن أبتلعني الظلمة، فتشبثتُ بالمقبض بقوة دون وعي مني.
“أنا هنا هل أنتِ بخير؟”
“نعم… بخير، لكن لا أراك جيدًا بسبب الظلام.”
سمعت صوته، ثم سلط نور خافت نحوي.
كان ضوءًا خفيفًا ينبعث من هاتف جايها الذي يحمله بيده.
ولما رأيته، غمرتني الراحة فجثوت على الأرض.
“هل لا يمكن فتح الباب من الداخل؟”
اقترب من الباب وأدار مقبضه، ثم سألني.
“لا… هناك قفل مزدوج يبدو أن أحدًا أقفله من الخارج.”
“هذا جنون لكن يمكننا إضاءة المكان من الداخل، صحيح؟”
“بما أن هذا استوديو مؤقت، فربما هناك مفتاح للإضاءة على الجدار لا، سأذهب أنا.”
تبعته في الاتجاه ذاته، لكنني تعثرتُ بشيء عند قدمي وسقطت.
“آه! أوه، آي.”
بسبب الصوت العالي، هرع إليّ بسرعة وقد فزع.
“هل تأذيتِ؟ آه، لا ألم تقولي إنك لا ترين شيئًا؟ لماذا تتحركين إذًا؟”
في الضوء الخافت المنبعث من الهاتف الذي وضعه على الأرض، ظهر وجه جايها متجهمًا.
“إنكِ تنزفين عليكِ أن تتخلي عن تهورك، يوجين.”
كانت الدماء تسيل من راحتي يدي اللتين احتكتا بأرضية الاستوديو الخشبية.
كنتُ أنا المصابة، لكن وجهه المتألم بدا أكثر تألمًا من ألمي.
“حتى مجيئكِ إلى هنا كذلك كيف تجرئين على القدوم وحدك؟ ماذا لو تم احتجازك من دوني؟”
تحقق من راحتيّ، ثم أمسك بذراعي برفق وساعدني على الوقوف.
فكرتُ أنني حتى لا أملك هاتفي الآن.
لو لم يكن جايها هنا، لكنتُ محبوسة في هذا القبو وحدي… مجرد التفكير بذلك أرعبني.
نظر إليّ ثم قال بصوت منخفض:
“فقط ابقي واقفة هنا سأذهب أنا.”
ثم التقط جايها هاتفه واتصل بأحدهم.
“مرحبًا، السكرتير هان.”
من الطرف الآخر سُمعت بوضوح أصوات السكرتير هان وهو يبحث عنه بلهفة.
لوّح جايها لي بيده وكأنه يقول “لا تقلقي”، ثم توجه نحو المفتاح الموجود على الحائط.
“الطابق الثاني تحت الأرض يوجين، ما اسم هذا المكان؟”
رددتُ بصوت مرتفع على سؤاله الذي وجهه إليّ من بعيد:
“الاستوديو الثاني!”
“نحن محبوسان داخل الاستوديو الثاني انزل فورًا إلى هنا.”
سلط ضوء الهاتف على الحائط ثم عاد إليّ.
ثم صرخ من مسافة ليست قريبة:
“أي زر أضغط؟ هناك أزرار كثيرة.”
“أنا أيضًا أول مرة أزور هذا المكان اضغط أي شيء.”
ترددتُ في الإجابة لأنني أول مرة آتي إلى هذا الاستوديو.
فكرتُ أنه لا بد أن يضيء أحد الأزرار جهازًا من الأجهزة الكثيرة المثبتة هنا.
“اشتغلت! كيف هو؟ هل هو ساطع جدًا؟”
وفي تلك اللحظة…
مع صوت طقطقة، سطع وميض قوي أمام عيني مباشرة.
فجأة أضاء أحد الأجهزة الكبيرة التي كانت في مواجهتي.
(ما، ما هذا؟ لا أستطيع فتح عيني…)
ةقطبتُ حاجبيّ.
تدفق إليّ ضوء قوي موجّه نحوي، فهاجمتني ذكريات ذلك اليوم المرعب الذي حاولت نسيانه.
سيارة سوداء كانت تندفع نحوي بأقصى سرعة أمام مبنى المحكمة.
حتى ضجيج المارة والهواء الذي لامس بشرتي، شعرتُ به بوضوح.
كأنني عدتُ إلى تلك اللحظة، قبل عودتي بالزمن.
(لا… لا يمكن!)
صوت الفرامل الحاد قبل الاصطدام لا يزال حيًا في ذاكرتي.
لقد صدمتني تلك السيارة، ومِت.
كنتُ أعلم أنه مجرد وهم، لكن المشهد كان حيًا لدرجة أنني مددتُ يدي أمامي بشكل لا إرادي.
“لا، لا تقترب! هااه، هاااه.”
ضاق نفسي شيئًا فشيئًا.
ثم تذكرتُ الوميض الساطع الذي انهمر عليّ قبل لحظة الاصطدام، فتوقفت أنفاسي تمامًا.
“هاه… هاااه، هااه…”
جثوت على الأرض كأنني سقطت.
وفجأة غرق جسدي كله في عرق بارد.
(لا أستطيع… لا أستطيع التنفس…)
بدأت أفقد وعيي.
رغم أنني فتحت فمي، إلا أنني لم أستطع أن أتنفس تشبثتُ بصدري كأنني سأختنق.
“يوجين!”
سمعتُ صوته وهو يناديني، وكل ما استطعتُ فعله هو اللهاث.
عندها أحس جايها أن شيئًا ما ليس على ما يرام، فركض نحوي.
“ما بكِ! منذ متى وأنتِ هكذا؟ هل تعانين من مرض ما؟”
هززتُ رأسي لذلك الذي اقترب مني دون أن أشعر.
وانحنيتُ حتى كدتُ ألمس الأرض، وأشرتُ بصعوبة إلى الضوء.
“هااه… هاااه… الضوء… فجأة… لا أستطيع التنفس…”
في لحظة، وقف جايها أمام مصدر الضوء.
ظننتُ أنني سأهدأ إذا لم أرَ الضوء…
لكن حتى بعد فعله ذلك، كان الضوء يتسرب، ولم أستطع أن أهدأ بسهولة.
“اللعنة! ستُصابين بفرط التنفس يوجين، استفيقي!”
ابتعد صوت جايها الذي كان يمسك بكتفيّ ويصرخ فيّ بينما كنتُ ألهث بشدة.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 21"