بعد أن خضت مع سورين مواجهة لم تكن مواجهة حقًا، وأنهيت بثّ نشرة الأخبار الإذاعية، كان الوقت قد أصبح وقت الانصراف.
كنت على وشك أن أحمل أغراضي وأتجه مباشرة نحو الردهة.
“المذيعة يون، هل ستغادرين الآن؟”
التفتُّ إلى الوراء عندما سمعت الصوت القادم من خلفي.
أحد العاملين في نشرة التاسعة، ممن كنت أعرفهم من قبل، حيّاني بترحاب.
“نعم اليوم هو أول يوم لي، ولا يوجد لدي بثّ، لذا أنوي الذهاب باكرًا أراك غدًا.”
“اذهبي بحذر.”
ولأنني كنت أرغب في الوصول في وقت الزيارة في المستشفى، أسرعت بالنزول عبر السلالم.
وأثناء مروري بالردهة، التقت عيناي بعيني جايها الجالس أمام المقهى البعيد.
لا أعلم كيف كان هو أول من وقعت عليه عيناي وسط كل هذا الحشد.
ويبدو أن جايها قد عرفني أيضًا على الفور، فنهض من مكانه الذي كان مستندًا إليه.
“ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
“كنت هنا لبعض الأمور، فرأيتك تنزلين السلالم هناك.”
سألته حين اقتربتُ منه، فأشار إلى السلالم الموضوعة في وسط الردهة.
استغربت وجوده في محطة البث في هذا الوقت، فأملت رأسي متسائلة.
ولعله شعر بتساؤلي فأردف قائلًا:
“ظننتُ أنه إن كنتِ على وشك الانصراف، يمكننا تناول الطعام معًا، فانتظرتك.”
رأيت نظرات المارّين من موظفي محطة البث تتجه نحوه بين الفينة والأخرى.
فهو يملك مظهرًا يلفت الأنظار.
كان جايها يرتدي بذلة أنيقة، مما جعله يبرز بين موظفي المحطة.
“آه… ما العمل؟ لدي مكان يجب أن أذهب إليه.”
“آه، حقًا؟ هل لديك موعد سابق؟ مؤسف.”
إن كان قد انتظرني، فلا بد أنه كان يريد أن يقول شيئًا.
نظرت إليه بنظرات حائرة، فلوّح بيده ضاحكًا بطبيعته المعتادة.
“لا بأس إن كان لديك موعد مسبق، فلا بأس بذلك.”
“ليس موعدًا بالضبط كنت أنوي الذهاب لزيارة والديّ في المستشفى.”
عند سماعه بوجهتي غير المتوقعة، تغيّرت ملامح جايها من تلك الطبيعية الهادئة إلى نظرة جادة.
وبدت منه هالة مختلفة تمامًا عما كان عليه قبل قليل.
“هل حالتهما سيئة جدًا؟”
“قليلًا تلقيت اتصالًا من الدكتور كيم بعد الظهر يخبرني بأن حالتهما ساءت.”
“دعيني أرافقكِ سأوصلكِ.”
ما إن أنهيت حديثي حتى بادر بالنظر إلى ساعته وأمسك بمعصمي يقودني.
وإذا بي أسير معه إلى حيث كانت السيارة مركونة.
وبينما كنت أنظر إلى ظهره المتقدم أمامي، بدأت الحديث بهدوء.
“لا بأس لو ذهبتُ وحدي.”
“لكنني لست بخير بذلك اصعدي.”
رغم أنني قلت إنه لا حاجة لأن يوصلني، رفض جايها الأمر بحزم.
وفي النهاية، ركبت سيارته.
“إلى مستشفى داي جين، صحيح؟”
“نعم.”
أومأت برأسي وأنا أنظر إليه وهو يضبط نظام الملاحة، فأدار المحرك بعدها مباشرة.
ساد الصمت الطريق المؤدي إلى المستشفى.
لم تدم دهشتي من لطفه طويلًا، وبدأت أشعر بأن الأمر جيد في الواقع.
فقد كانت بداية عملي مرهقة بالفعل، خاصة بعد المواجهة غير المتوقعة مع سورين.
“يا للراحة .”
لم أكن واثقة من قدرتي على القيادة، فكان من الجيد أنه رافقني.
وبينما كنت شاردة في أفكاري، سمعت صوته الخافت يهمس في أذني:
“إن شعرتِ بالبرد، يمكنني رفع درجة الحرارة أكثر.”
“آه، لا بأس.”
كنت أشعر ببعض البرودة، لكن بما أن المستشفى لم يَعُد بعيدًا، أومأت برأسي نافية.
فنظر إليّ نظرة سريعة ورأى جسدي المنكمش، ثم رفع درجة حرارة المكيف.
“تقولين إنك بخير وأنتِ لستِ كذلك، هذه عادة سيئة.”
كيف عرف أنها عادة…؟
قول “أنا بخير” حتى عندما لا أكون كذلك، كانت بالفعل عادة عندي.
أقولها دون أن أشعر أحيانًا.
“خذي، غطّي نفسكِ بهذا.”
مدّ يده إلى المقعد الخلفي وأخرج سُترة ناولني إياها.
ما إن غطيتُ نفسي بسترة جايها حتى شعرتُ بدفء لطيف يحتويني.
ما الذي يجعلني أشعر بهذا…؟
سواء في صالة العزاء في المرة الماضية، أو الآن، كنت أشعر بنوع من العزاء في السترة التي يمنحني إياها هذا الرجل.
“تقولين إنك ستشاركين في تجربة الأداء، أليس كذلك؟”
بينما كنت أحدق في ملامحه الجانبية المركّزة على القيادة، تسللت كلماته إلى مسامعي.
“كيف عرفت ذلك؟”
اتسعت عيناي من الدهشة تجربة الأداء هذه لم يُنشر عنها إعلان رسمي بعد، فذهلت من قدرته على الوصول إلى المعلومة.
بل والأدهى أنه يعلم أنني تقدّمت لها.
“هناك طرق يمكنني من خلالها معرفة كل شيء.”
رغم أن جوابه بدا غير منطقي، إلا أن ثقته بنفسه جعلتني أبتسم رغماً عني.
رأى ابتسامتي الخفيفة من زاوية عينيه، فارتسمت على شفتيه ابتسامة لطيفة.
“أخيرًا، ها أنتِ تبتسمين. مرّ عام كامل وأنتِ متوقفة عن العمل، هل ستكونين بخير؟”
“إنه عمل اعتدت عليه دومًا، لا داعي للقلق.”
***
كنت أظن أنه سيكتفي بإيصالي إلى المستشفى ويعود، لكنه صعد معي إلى جناح كبار الشخصيات حيث يرقد والداي، وكأن ذلك أمر طبيعي.
وعند باب الغرفة، كان الدكتور كيم واقفًا في انتظاري.
“لقد أتيتِ؟ والسيد جايها أتى معكِ أيضًا.”
“دكتور لم أرَك منذ الفحص الأخير قبل ذهابي إلى أمريكا، مضى وقت طويل.”
ابتسم الدكتور في وجه جايها الذي لم يره منذ مدة، ثم اقترب مني.
شعرت بانقباض مؤلم في صدري عندما رأيت كمية الأدوية الزائدة التي أُعطيت لوالدي.
“دكتور، كيف حال والديّ؟”
“كما أخبرتكِ في الظهيرة، لا تحسن يُذكر ولا يزالان في غيبوبة.”
“ألا توجد أي طريقة…؟”
لو أنهما فقط يعيشان… لو عاد وعيهما…
عندها ستُحل كل المشاكل، سواء مع جيهان أو حتى مع نائب الرئيس كيم يونغ مين الذي قاد عملية اندماج مجموعة دبليو في الماضي.
فوق كل شيء، لم أكن أرغب في أن أبقى وحيدة في هذا العالم.
مسحت على ظهر يد والدتي، فشعرت بدفء ينبض فيها.
هم على قيد الحياة بهذه الطريقة…
وقف جايها بجانبي دون أن ينبس ببنت شفة، ثم التفت إلى الدكتور وسأله:
“نحن في شركة هوچين لن نبخل بأي دعم مادي أو علاجي وإن لم يكن العلاج ممكنًا في كوريا، ألا توجد وسيلة للعلاج في الخارج؟”
أومأ الدكتور برأسه ببطء نافيًا.
“يؤسفني قول ذلك، لكن السيدين لن يحتملوا رحلة طيران طويلة هذه أفضل طريقة ممكنة في الوقت الحالي.”
“هاه…”
كادت ساقاي أن تخوناني لولا أنني تمسكت بحافة السرير.
في حياتي السابقة، حاولت البحث في كل اتجاه عن طريقة لعلاجهم، لكن في النهاية، توفيا.
عندما أمسكت بيدي التي مدّها إليّ جايها، ونهضت، تحدث الدكتور من جديد:
“آنسة… يؤسفني قول ذلك، لكن يبدو أن…”
أغمضت عيني بقوة، فقد توقعت ما سيقوله ولم أرد سماعه.
“عليكِ أن تبدئي في الاستعداد النفسي.”
كان التشخيص نفسه كما في المرة السابقة.
…
غادرنا غرفة والديّ، وكان الطريق إلى المنزل أكثر صمتًا من قبل.
شعرت أنه يفهم تمامًا حالتي المزرية، فلم ينبس بكلمة.
“لقد وصلنا.”
سمعت صوت جايها بينما كنت مغمضة العينين بهدوء، ففتحت جفنيّ.
ظهرت أمامي صورة مجمع الشقق المألوف من خلال نافذة السيارة.
ناولته سترته التي كانت ممدودة على ركبتي.
“شكرًا… على كل شيء اليوم.”
“هل ستكونين بخير؟”
هل أنا أتلقى عزاءً من جايها؟ سؤاله اللطيف حرّك مشاعري وأثر فيّ بعمق.
رغم أنني عرفته لفترة طويلة في حياتي السابقة، إلا أن جايها بعد عودتي بدا وكأنه شخص مختلف تمامًا.
“سأكون بخير.”
ابتسمت له ابتسامة خفيفة وأومأت برأسي، ثم أمسكت بحقيبتي وهممت بالنزول من السيارة، لكنني تراجعت والتفت إليه مجددًا.
“صحيح… ما سبب زيارتك لي اليوم؟”
“لاحقًا.”
نظر إليّ بصمت، ولعله شعر بأن وضعي لا يسمح الآن، فأومأ نافيًا برأسه.
“لكن بما أنك أتيت لرؤيتي، لا بد أن الأمر مهم.”
“…”
“لا بأس، يمكنك إخباري هل هناك شيء ما؟”
تنهد جايها بعمق إثر إصراري.
“قلت لكِ لاحقًا… عنيدة كعادتك.”
ثم سألني بهدوء، بينما كنت أحدّق فيه بثبات:
“هل تعرفين شيئًا يُدعى ‘إنتيك’؟”
إنتيك؟ الاسم يبدو مألوفًا… شعرت بشيء غريب يجعلني أقطب حاجبيّ.
ولعله لاحظ التغير الطفيف في ملامحي، فتابع الشرح:
“داخل شركة هوچين، يتم الآن مناقشة خطة توسّع في مشروع ضخم جديد المشروع يقوده سو جيهان بنفسه.”
مشروع ضخم يقوده سو جيهان… ضخم…
شعرت وكأنني أغفل أمرًا مهمًا للغاية.
لحظة، إنتيك…
وفجأة، تدفقت الذكريات المنسية من ماضيّ إلى ذهني.
“هل تقصد إنتيك، الشركة المتخصصة في معدات البناء…؟”
لم أدرِ كيف بدأت نبرة صوتي ترتجف.
بدأت الذكريات الضبابية تتضح، وتدفقت صور الماضي كالسيل الجارف.
نعم، كان في مثل هذا الوقت تقريبًا.
كان هناك مشروع استثماري خطير قام به جيهان لتثبيت مكانته كوريث.
استثمر بمبالغ ضخمة في شركة معدات البناء الأجنبية “إنتيك” لتوسيع أعمال الشركة.
في البداية، وبفضل إنتيك التي كانت تتصدر السوق، أصبحت هوچين بسرعة الشركة الأولى في المجال.
لكن سلسلة من الإخفاقات وسوء الإدارة المالية أدت إلى انهيار المجموعة بأكملها.
“هذا مفيد لكل من دبليو وهوچين.”
“لو اندمجت المجموعتان، يمكن لهوچين أن تصبح مجموعة عالمية بفضل رأس المال الهائل.”
“ولو سار كل شيء كما ينبغي، فالفضل سيكون لكِ.”
تذكرت تلك الوعود المعسولة التي كان جيهان يهمس بها في أذني.
لكن الحقيقة أنه لولا اندماج مجموعة دبليو، لكان قد خسر موقعه كوريث.
“أنت! ما الذي فعلته لتستحق وراثة مجموعة هوچين؟!”
لا تزال كلمات رئيس المجموعة تصدح في أذني، عندما كان يصرخ به.
هل من الممكن أن يكون حدسي صحيحًا؟ سألت جايها بصوت مرتجف، فبدت عليه علامات الصدمة.
“إنتيك… نعم كيف عرفتِي، يا يوجين؟”
حين التقت عيناي بعينيه الثابتتين، شعرت بقشعريرة تسري في ظهري.
كيف يمكن أن أكون قد نسيت هذا؟
قلبي الذي كان قد هوى من الصدمة، عاد ليدق بعنف.
“هل تقول إن المشروع يُنفذ الآن…؟ هل هذا حقيقي؟”
ذاك المشروع الذي لعب دورًا في سقوط مجموعة هوچين لاحقًا…؟
شعرت فجأة بأن بصيرتي قد انفتحت.
“نعم سمعت أن سو جيهان يتواصل حاليًا مع إنتيك لماذا؟ هل تعرفين شيئًا؟”
“انتظر لحظة… فقط لحظة…”
أربكتني المعلومات غير المتوقعة، وتزاحمت الأفكار في رأسي.
ثم تذكرت شيئًا كان لا بد من التأكد منه أولًا.
“جايها، دعنا نتحدث غدًا مجددًا سأتصل بك أنا.”
وبينما كان يحدق بي بصمت، فتحت باب السيارة ونزلت على عجل.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 13"