مع بكاءٍ لا يتوقف، ازدادت تنهيدة جايها ثِقلاً.
وما إن بدا وكأنه ينهض من السرير حتى اقترب مني، وطبع قبلة خاطفة على شفتيّ.
“سأجنّ… كلما منعت نفسي، رغبتُ أكثر.”
“ههه.”
انفجرتُ ضاحكة من كلماته التي حملت أسفًا واضحًا.
فضحكتي المكتومة جعلته يهز رأسه بضعف قبل أن يمسك بمقبض الباب.
“اذهبي واغتسلي سأذهب أنا إلى هاجون.”
وحين أنهيتُ حمامي وخرجت، أبصرت جايها جالسًا غائرًا في عمق السرير.
عيناه نصف مغمضتين، وكأنه كان ينتظرني حتى غلبه النعاس.
“هل نام هاجون؟”
“نعم استيقظ قليلًا، ربما لأنه لم يجد أحدًا، ثم سرعان ما عاد إلى النوم.”
كنتُ قد أسرعتُ في الاستحمام، ومع ذلك كان قد غفا بالفعل سرعة مدهشة.
هل ازدادت مهارة جايها في رعاية الطفل خلال يوم واحد؟ أم أن هاجون قد اعتاد عليه أكثر؟
مهما يكن، فقد كان لا ينام إلا في حضن أمه، وها هو اليوم يألف أبيه شيئًا فشيئًا.
فشعرتُ بالرضا.
وحين اقتربتُ من السرير، فتح جايها ذراعيه نحوي.
هاجون حين يستيقظ أول ما يبحث عنه هو أمه، لكن في مثل هذه اللحظة بدا لي أنه يشبه جايها تمامًا.
بينما كنتُ أنظر إليه بين ذراعيّ، تساءلت فجأة عن يومهما معًا.
“كيف كان يومك اليوم؟ أرى أنكما أصبحتما قريبَين بعض الشيء، أليس كذلك؟”
“أمم… ربما اقتربنا قليلًا؟”
رجل يكره الغموض أكثر من أي شيء، ومع ذلك أجابني على نحوٍ غير حاسم فابتسمتُ بخفة.
إذ هي المرة الأولى التي يمضي فيها وحده مع هاجون وقتًا طويلاً، فلا بد أن مواقف كثيرة حصلت.
“هل أكل كل طعامه؟ في الفترة الأخيرة لا يرغب في الأكل كثيرًا… لا بد أنك تعبت.”
“أكله كله لكن ، نسيت المريلة كنتُ أعتني به وحدي فانشغلت كدتُ أستعين بالسيدة العجوز.”
كان مترددًا في البداية، ثم انطلقت كلماته.
ومن صوته المفعم بالحيوية بدا واضحًا أنه عاش يومًا مميزًا للغاية.
“هه، نعم حين لا تكون المربية موجودة يصبح الأمر صعبًا.”
فكيف وهو قد قضى اليوم كله وحيدًا مع الطفل؟ لا عجب أن يكون قد عانى.
ثم تمدّد جايها على ركبتيّ، يحدّق في وجهي، ويقصّ عليّ ما جرى.
عيناه كانتا تلمعان أكثر من المعتاد وهو يتكلم بلا توقف.
وأنا لم أستطع منع ابتسامتي من البقاء مرسومة على شفتيّ.
يا له من رجلٍ محبّ.
هل يحق لرجلٍ يقترب من أواخر الثلاثين أن يبدو بهذه الجاذبية؟
أم أنني أنا من أرتدي نظارات الحب فلا أرى سواه؟
“أدركت اليوم… لو ذهبتُ إلى الشركة، سيكون الأمر صعبًا عليك.”
لهذا السبب تحديدًا لا أستطيع أن أنزع تلك النظارات ما من أحدٍ يفكر فيّ هكذا سواه.
“لا بأس ما دامت المربية موجودة دائمًا.”
مدّ يده يعبث بشعري المبلل.
كنت قد خرجتُ من دون أن أجففه، خوفًا من أن يستيقظ الطفل، ويبدو أن ذلك أزعجه.
“آه… لم أجففه، خشيت أن أوقظ هاجون لو كان نائمًا.”
“نعم، ظننت ذلك.”
ثم ظلّ يطيل النظر إليّ، قبل أن يسألني بحذر
“كيف كان شعورك وأنتِ تلتقين بزميلاتك؟ ألا ترغبين في العودة إلى العمل؟”
العودة… لم تكن فكرة بعيدة عني.
بل كلما التقيتُ بزميلاتي كما اليوم، راودتني رغبة في العمل من جديد.
ويبدو أن جايها قد شعر بما في نفسي، فسألني بهذه الطريقة غير المباشرة.
“أرغب بالعمل… لكن هاجون يحتاج أمه الآن لذا، ليس الوقت مناسبًا بعد.”
كنت أفكر دائمًا في التوقيت الملائم للعودة.
“يمكنكِ العودة سأأخذ أنا إجازة لرعاية الطفل.”
اتسعت عيناي دهشة حين سمعت كلماته.
فنظرتُ إليه، فرأيت صدقًا حقيقيًا في عينيه.
“أأنت جاد؟”
“نعم أفكر فعلًا أن أفعل ذلك.”
وهل عُرف عنه يومًا أنه قال كلامًا بلا نية؟ بالطبع كان جادًا.
“كيف لرئيس شركة أن يأخذ إجازة؟”
هو حتى الآن يرهق نفسه ليعود باكرًا… فكيف بإجازة كاملة؟ ثمنها سيكون باهظًا بلا شك.
كأنه يظن نفسه من حديد!
“إن قررتُ… فسأفعل.”
(وهذا ما يخيفني حقًا… لأنه سيفعلها فعلًا).
فجايها رجل إذا عزم أمرًا، مضى فيه حتى النهاية.
ولقد سمعتُ أن خطط تقاعد نائب الرئيس قد تأجلت بسبب هاجون.
أفلا يخطر له أن يترك العمل كله ذات يوم؟
تسربت ابتسامة إلى شفتيّ من هذه الفكرة.
قد يراها الآخرون ضربًا من الخيال، أما أنا فلا أعلم لماذا أجدها قابلة للتصديق.
“أبا هاجون… وماذا سنأكل حينها؟”
“…….”
“براتبي كمذيعة، لن أستطيع حتى دفع أجر المربية، وإن خرجتُ للعمل، فستكون أنت، أبا هاجون، من يعتني به.”
“ومع ذلك، حتى لو استعنا بمربية، سيبقى دخلنا بالكاد يكفي.”
“إذن سأترك القناة، وأعمل مستقله وأعيلكما معًا و سأقلّل من نومي، وأملأ جدولي بالبرامج والحفلات.”
“…….”
يبدو أن عليّ أن أتدرّب منذ الآن على التقديم.”
كنت قد بدأت الكلام على سبيل المزاح، لكن ما إن واصلنا الحديث حتى وجدت أنّ الحوار في هذا الموضوع ممتع.
فكرة ليست سيئة، أليس كذلك؟
حياة أكون فيها أكثر انشغالًا، ويكون فيها جايها أكثر راحة.
أن نعيش حياة نهتم فيها بأسرتنا، بدل حياة يطارده فيها الوقت كرئيس شركة تلك حياة أجمل.
كان يصغي إليّ وهو يتأملني، ثم جذب عنقي نحوه.
لم يعد يفصل بين أنفي وأنفه سوى بضع سنتيمترات.
“كلامك هذا جميل جدًا.”
“أمّم؟ تقصد تذمّري؟”
“لا، غير ذلك.”
لم أفهم قصده، فمالت رأسي باستفهام.
“أبا هاجون.”
آه…
صوته المنخفض، العميق، كأنه دغدغ أذني.
“أظنها المرة الأولى التي أناديكِ فيها هكذا.”
كنتُ قد فعلت مثل الأزواج الآخرين، لا أكثر.
لكن نظرته المباشرة جعلت وجنتيّ تتوردان.
لحسن الحظ أن ضوء المصباح الخافت إلى جوار السرير حجبه قليلًا.
ومع ذلك، يكفيني أننا متقابلان هكذا لأشعر بخفقان قلبي.
كيف لي أن أرتجف كفتاة عاشقة ونحن زوجان منذ زمن؟
“لماذا كلما مرّ الوقت، أحببتك أكثر؟”
كنتُ أفكر بالأمر ذاته وكأنه قرأ قلبي.
أحيانًا لا أصدق أنني أحببته وتزوجته فعلًا.
حين أتذكر اختلاف الإحساس علاقتنا في حياتنا السابقة، وأقارنها بما نحن فيه، أكاد أظنها حلمًا.
لكن في لحظات كهذه، أوقن أننا بالفعل أصبحنا زوجين.
“وأنا كذلك.”
تمنيت لو وجدتُ تعبيرًا يوصل مقدار حبي كاملًا.
لكنني اكتفيت بابتسامة هادئة وأنا أنظر إليه.
“أحبك كثيرًا.”
ابتسم جايها وانحنت عيناه في ضحكة جميلة.
وما إن رأيت ابتسامته تلك، حتى وجدتني أنحني بدوري أبحث عن شفتيه.
***
بعد ست سنوات.
كنت في طريقي للخروج بعد أن تمكنت بصعوبة من تهدئة هاجون الذي أصرّ على عدم النوم.
في المعتاد، كان ينبغي أن نخلد إلى السرير قبل الحادية عشرة، لكن هذا اليوم بدا مختلفًا.
“هل حدث شيء في الروضة اليوم؟”
لم يتواصل معنا المعلم بشكل مباشر.
هل تشاجر مع أحد الأصدقاء؟
كان هاجون يشبه جايها في مزاحه وفضوله، لكنه كان طفلًا اجتماعيًا ينسجم مع أصدقائه بسهولة.
وبالتأكيد، لو تشاجر مع أحد، لكان أخبرني بذلك.
أمر غريب.
بدأ هاجون الذهاب إلى الروضة منذ أن انتقلنا إلى بيت مستقل صغير مع حديقة صغيرة في الطابق الثاني، مراعاةً لنشاطه وحركيته، بدل الشقة.
عند نزولي إلى غرفة المعيشة في الطابق الأول، لاحظت باب الشرفة الخارجية نصف مفتوح.
ظننت أنه نُسي إغلاقه، لكن وجدت جايها مستندًا على حاجز الشرفة، يطلّ إلى الخارج.
“ماذا تفعل هنا؟”
“مجرد… كنت أفكر في بعض الأمور وأنتِ هاجون؟”
ربما شعر بقدومي إلى الخارج، فالتفت نحوي.
“آه… اليوم كان يومًا عصيبًا، لا يريد الذهاب إلى الروضة الآن لماذا كل هذا؟”
“يبدو أنه تشاجر مع جيوو.”
“مع جيوو؟”
جيوو كان أفضل أصدقاء هاجون، صديق روحه تقريبًا لماذا يتشاجران؟
“لماذا تشاجروا؟”
سألت جايها بخفة، إذ بدا أنه يعلم شيئًا.
بعد أن أصبحت مشغولة بتقديم الأخبار، بدأ جايها يعتني بهاجون نيابة عني، من إيصال الطفل للروضة واستقباله، إلى الاهتمام بكل شؤون الطفل المهمة.
ومع زيادة الوقت الذي يقضيه الاثنان معًا، أصبحا طبيعيًا قريبين من بعضهما.
“إنه سر وعدتُ هاجون بألّا أُخبر أحدًا.”
كنتُ بالطبع أترقب أن يشرح لي الموقف كما هو متوقع، لكنه فجأة قال إنه سر.
نظرتُ إليه بنظرة تعني: “منذ متى وُجدت أسرار بيننا؟”، لكنه بدا حازمًا، وكأنه لا ينوي أن يخبرني.
“حقًا لن تخبرني؟ حقًا؟”
أومأ جايها بدل الإجابة.
شعرت بالارتباك، وتملكني إحساس غريب.
هاجون الذي كان يتشبث بي منذ الصغر بدأ يكبر، وبدأت تظهر مسافة بيننا.
ومؤخرًا، بدا أن جايها يفهمه أفضل مني.
لم يعد يشاركني أسراره كما كان يفعل…
“أمي! هذا سرّ! جيوو تقول… إنها تحب هاري!”
ثم سمعت ضحكة هاجون الخفيفة المبهجة.
“جيوو تحب هاري؟”
“نعم! لكن سرّ، لا تخبري أحدًا، حسنًا؟”
عندما كنتُ أذهب لاستقباله من الروضة، كان هاجون يركض إليّ مسرعًا ليهمس في أذني وكأنها أسرار عظيمة.
في تلك الأيام، كنت أظن أن ذلك أمر طبيعي جدًا، فلم أقدّرها كما يجب.
لكنه الآن كبر و أصبح يحتفظ بالأسرار عن أمه…
لا، لا يمكن القول إنه كبر؛ فهو لا يزال في السادسة من عمره.
راودني شعور بأنني أريد إيقاظ هاجون من نومه وسؤاله، لكنني بالكاد تماسكت.
ثم رمقت جايها الذي يبتسم بخبث بدلاً من الطفل وسألته، معتقدة أن ذلك سيكون أسرع
“يبدو أنكما أصبحتما أقرب مؤخرًا، أليس كذلك؟”
“صحيح نحن أصدقاء حتى أثناء الاستحمام معًا عادةً، هكذا يقترب الأولاد من بعضهم.”
أجابني جايها وهو يضحك ضحكة خفيفة رافقها بشيء من المزاح الطفولي، ما أثار استفزازي أكثر.
“وحتى الأسرار تُشارك بينكما.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 125"