لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يسمع فيها هذا السؤال…
لقد سُئل به عشرات المرات في كوابيسه المتكررة.
ارتعشت شفتا جايها وهو يحدّق في السيدة أوه.
ثم حوّل نظره عنها لينظر إلى جايها الطفل المنكمش في الزاوية.
السؤال الذي لم يجرؤ أحد على طرحه، سألته المرأة التي قتلت أمه.
هل أنت بخير؟
“لا.”
لست بخير، لا يمكن أن أكون بخير…
ارتجفت كتفا جايها الطفل وهو يقاوم رغبته في الانهيار والبكاء.
السيارة التي أقلّته، سيارة السيدة أوه، كانت بمثابة تهديدٍ صامت، أجبرت الطفل على الصمت.
لم يكن يستطيع أن يقول إن هذه المرأة هي التي قتلت أمه.
كان يشعر بأنه إن فعل، فإن تلك اليد المريعة التي قتلت والدته ستلتف حول عنقه.
تجمّد قلب جايها البالغ من العمر ثلاثة وثلاثين عامًا أمام نظرات السيدة أوه الباردة.
انحنت السيدة أوه أمام جايها الطفل، لتلاقي عينيه.
ثم مسحت شعره بنظرة مزيفة لا تقلّ خداعًا.
” حبيبي جابها ، كم أنت مسكين.”
“…”
“طفل صغير، لا بد أنك صُدمت بشدة حتى أنك لم تبكِ… العمة تعرف تمامًا ما تشعر به.”
عندها، ضرب جايها الطفل يد السيدة أوه ليبعدها عنه.
وكان صوت الضربة واضحًا بما فيه الكفاية ليجذب أنظار الناس نحوهم.
كل هذا حدث في اللحظة التي غاب فيها موجين عن العزاء للحظة.
لم يعد الطفل قادرًا على الاحتمال، فنهض مترنحًا وفرّ هاربًا من مكان العزاء.
انقبض قلب جايها وهو يراقب نفسه الطفل يهرب.
المرأة التي سلبته أمه، بدت بوجهها الهادئ المرعب وكأن شيئًا لم يكن.
“ظننتِ أن الجريمة كانت كاملة؟ ستحاسَبين.”
تحدث بدلًا عن الطفل الذي كان عاجزًا عن النطق كان صوته مثقلًا بالكراهية المكبوتة.
لكن كلماته لم تصل إلى السيدة أوه ، ولم تصل إلى أحد.
وفي المعتاد، كانت الكوابيس تنتهي عند تلك اللحظة، حين تنطق السيدة آوه بكلماتها.
لكن الغريب أنه لم يستيقظ هذه المرة.
“كيف استطاعت تلك المرأة أن تأتي إلى هنا…؟”
“إنها حقًا عديمة الرحمة.”
التفت جايها حين سمع همسات الناس.
“لا بد أنه في مكانٍ قريب…”
كان يتذكّر بضع ذكريات باهتة من بكائه في الساحة الخلفية للمستشفى.
وعندما دار حول الزاوية، وجد نفسه الطفل جالسًا هناك، منكّس الرأس، يحتضن جسده.
تنهد جايها عند رؤيته هذا المشهد.
لو كان الأمر ممكنًا، لاقترب وربّت على كتف نفسه الطفل.
ليخبره أن تلك المرأة ستنال عقابها في النهاية.
ويطلب منه ألا يتألم كثيرًا…
خطا جايها نحو الطفل الصغير، لكن في تلك اللحظة…
‘…؟’
سمع صوت خطوات صغيرة.
لم تكن خطواته هو، بل كانت لفتى أو فتاة أصغر حتى من جايها الطفل.
مرّ به أحدهم من الخلف، متوجهًا إلى الطفل المنكمش.
رفع جايها الطفل رأسه، وقد شعر باقتراب أحدهم.
كانت تلك الطفلة يوجين ، في طفولتها.
تعرف عليها جايها فورًا، فقد رأى ألبوم صورها مرات لا تُحصى.
اقتربت يوجين وجلست أمامه على ركبتيها.
رغم أن طرف فستانها الأسود امتص ماء المطر، لم تتحرك من مكانها.
كانت تكتفي بالنظر إليه بصمت.
هطلت الأمطار بغزارة، مبتلة الأرض، ومرسخة بقعًا داكنة على ملابس الاثنين.
“أوبا ، هل تبكي؟”
ركعت يوجين أمامه، تراقبه عن كثب.
بدا عليها القلق وهي تراه صامت، لا يعبّر إلا بعينيه.
“ملابسك مبللة…”
لم تستطع يوجين تحمّل المشهد، فتمتمت بصوت خافت، مما دفع جايها الطفل لرفع رأسه بعنف.
“وما شأنك؟ ابتعدي.”
ردّ عليها بصوتٍ حادٍ غاضب.
“قلت لك، اذهبي.”
رغم ردّه القاسي، مدت يوجين يدها لتغطيه بالمظلة الصغيرة.
فكّر في أنها قد تكون تائهة، وأن والدتها ربما تبحث عنها.
كان وجود تلك المرأة هنا أمرًا مؤلمًا أيضًا لـجايها
هو لا يريد الشفقة، بل يحتاج فقط إلى لمسة حنان حقيقية.
“اخرجي من هنا، أمك ستبحث عنك.”
قال ذلك وهو يشهق، مشيرًا بيده نحو المستشفى.
“عودي إلى والدتك.”
في نظر جايها البالغ، كان ما تفعله يوجين مجرّد عزاءٍ غير ناضج.
أما جايها الطفل، فلم يكن يعلم أن لوجودها معنى أعمق.
لذلك كان يراها مزعجة فقط.
“أنت تبكي،اوبا .”
“لا، لست أبكي.”
لكن وجه جايها الصغير كان غارقًا في الدموع، مما جعله يشعر بالإحراج من كذبته.
فمسح دموعه على عجل وهو يردف قائلًا…
“هذا مبلل بسبب المطر ثم، لا تتدخلي.”
كادت الكلمات “لسنا قريبين حتى” أن تنفلت من فم جايها الصغير.
فهي لم تكن حتى تبادله التحية بلطف، فكيف لها أن تتدخل الآن؟
لكن جايها لم يتمكن من قول تلك الكلمات القاسية، واكتفى بزفرة طويلة.
وكانت يوجين تنظر إليه وكأنها تفكر في أمرٍ ما، حين التقت نظراتها بعيني جايها الطفل.
– “يوجين! أين أنتِ؟ يا إلهي، إلى أين ذهبت هذه الطفلة!”
– “كان عليكِ مراقبتها جيدًا!”
– “ماذا؟! هذا بسبب تلك المرأة المجنونة التي اقتحمت المكان!”
وصلت أصوات والدي يوجين وهما يتجادلان بينما يبحثان عنها في مكانٍ بعيد.
وأشار جايها الطفل بذقنه إلى ذلك الاتجاه كأنه كان يتوقع هذا تمامًا.
“انظري، بسبَبك أُمّك وأبوك يتشاجران.”
“هممم، صحيح.”
اقتربت أصوات والديها شيئًا فشيئًا نحو المكان الذي كانا فيه.
تمنى جايها الصغير لو تذهب يوجين من هذا المكان في أسرع وقت.
فهو لا يريد للبالغين أن يروه على هذه الهيئة البائسة وتحت المطر.
ويبدو أن يوجينرفهمت ذلك دون أن يُقال.
“يجب أن أذهب.”
قالت وهي تقف مستقيمة بعد أن كانت تجلس على ركبتيها.
ثم نظرت مباشرة في وجه جايها وقالت بصوتٍ خافت
“أوبّا، لا تبكِ في أماكن مثل هذه.”
“قلتُ لكِ إنني لا أبكي.”
وقبل أن يفرغ انزعاجه الذي كاد أن ينفجر، مدّت يوجين يدها أمامه.
كان في راحة يدها الصغيرة سوار مصنوع من خيط.
“يقولون إن أمنيتك تتحقق عندما ينقطع هذا الخيط.”
“…”
“لقد ارتديته لوقتٍ طويل، لذا سينقطع بسرعة سأعطيه لك.”
نظر جايها الطفل إلى يدها الممدودة وسأل بصوتٍ مرتجف فيه شيء من الحرج
“أتعطيني هذا؟”
“نعم.”
“ولماذا؟”
لكن يو جين لم تُجب، فقط وضعت السوار في يده.
ذهب ينظر إلى السوار ثم إليها بدهشة.
وراقب جايها البالغ هذا المشهد، وابتسم بخفة.
“أجل، كنت واقعيًا حتى حينها.”
كان جايها الطفل يعلم جيدًا أن مثل هذه الأشياء لا تحقق الأمنيات.
لكن مبادرة يوجين كانت نقية، خالية من أي نية خفية، صادقة تمامًا.
ولعل هذا هو ما جعله يشعر بالارتباك.
“لا حاجة لي به على أي حال، أمنيتي لا يمكن أن تتحقق.”
فما كان يتمناه هو عودة والدته الراحلة.
لكنه يعلم أنه لا يمكن لمن مات أن يعود إلى الحياة.
“حينها سيتحقق الشيء التالي الذي تتمناه!”
كاد أن يضحك بسخرية.
أراد أن يسألها من الذي أخبرها بهذا الكلام الساذج، لكنه آثر الصمت.
فما فائدة الجدال مع طفلة صغيرة؟
أما يوجين ، فلم تكن تدرك ما يدور في داخله، وابتسمت ببراءة.
ثم ناولته المظلة التي كانت تمسك بها.
“سأُعيرك المظلة عندما تأتي إلى بيتنا لاحقًا، أعدها لي.”
وبدون أن تترك له فرصة للرفض، أعطته المظلة وركضت تحت المطر.
وبعد أن غابت عن ناظريه بلحظات، سمع صوت والديها يقتربان.
– “يوجين! كنا نبحث عنك طويلًا! لماذا أنتِ هنا؟ وملابسكِ مبللة تمامًا! ألم تجلبي المظلة؟”
– “هممم، المظلة ضاعت.”
– “هاه؟ كيف ذلك؟ على أي حال، هل رأيتِ جايها؟ لم يكن في الداخل.”
وبينما كانت خطواتهم تقترب من المكان، سمع جايها صوت يوجين تمنعهم من التقدم نحوه
– “أوبّا ذهب إلى الحمّام، على ما أظن.”
– “حقًا؟ السيد سو كان يبحث عنه، سأذهب وأخبره.”
وهكذا، بدأت خطواتهم تبتعد من جديد.
نظر جايها البالغ نحو المكان الذي اختفت فيه يوجين، وضحك بخفوت.
“لقد نسيت هذا الأمر تمامًا…”
مع أن هذه اللحظة تركت أثرًا واضحًا في ذاكرته، إلا أن الكابوس القاسي طمسها.
“ولذا وقعت في حبها.”
ربما لم يكن جايها الطفل يدرك، لكن جايها البالغ كان يشعر بعمق نية يوجين
أو ربما حتى الطفل شعر بها، إذ أن يوجين التي كانت تكتفي بالاختباء خلف والدتها، بدت مختلفة تمامًا بعد هذه الحادثة.
“هاه.”
وفجأة، سمع جايها صوت تنهيدة.
فالتفت، ليرى نفسه الطفل ينظر إلى الفراغ بشرود.
“تلك الطفلة… لما أعطتني مظلتها، تزعجني فقط.”
“…”
“ماذا سأفعل بشيء طفولي كهذا؟”
“يا لك من مضحك… أنت طفل أيضًا، أيها الأحمق.”
نظر إلى المظلة الصغيرة المزيّنة برسومات لطيفة وضحك بسخرية.
رغم شكواه، كانت عيناه دامعتين.
أما جايها البالغ، فضحك عندما رأى المظلة عن قرب.
“إنها جميلة فعلًا عليك أن تشكرها لقد نلت تعزية ثمينة.”
ربّت على كتف الطفل عدة مرات، رغم علمه أن لمسته لن تُحَسّ.
“وتلك الطفلة الصغيرة… ستكون زوجتك بعد عشرين سنة.”
ربما لن يفهم الطفل اليوم المعنى العميق وراء ما فعلته يوجين
لكن جايها البالغ كان يعلم أن اللحظة التي تنفس فيها الطفل قليلًا كانت بفضلها.
راقب جايها الطفل وهو يعود أدراجه.
“لم يكن كابوسًا كاملًا على الأقل.”
ربما لن يكون هذا الحلم مؤلمًا بعد اليوم.
رغم أن يوجين طلبت منه أن يأتي إلى منزلها ليعيد لها المظلة، إلا أنهما لم يلتقيا بعد ذلك اليوم.
فبعد فترة قصيرة، غادرت يوجين مع والديها إلى الخارج.
وعندما عادت إلى الوطن، كان جايها قد سافر إلى الولايات المتحدة.
ومع مرور الوقت، بدأت الذكريات بينهما تتلاشى تدريجيًا.
حتى التقيا مجددًا بعد أكثر من عشر سنوات، حين كبرا وأصبحا بالغَين.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 123"