قاطع سؤالي كلام جيهان، فلم ينبس ببنت شفة.
غير أنّ عينيه الموجهتين إليّ كانتا تهتزان بعنف.
يبدو أنّه فضولي حقاً.
نهضت من على الكرسي واقتربت من الحاجز الزجاجي الذي يفصل بيننا.
“لأنك قتلتني.”
“ماذا؟”
تصلبت ملامح جيهان وفغر فاه مندهشاً.
كان وجهه يقول إنه لم يتوقع إطلاقاً مثل هذا الجواب وهو أمر طبيعي في الحقيقة.
لأنك لا تذكر الماضي.
ارتسمت ابتسامة مُرّة على شفتي وأنا أحدّق فيه.
“هاه، ما هذا الكلام…؟ متى قتلتك أنا؟”
قهقه جيهان ضاحكاً بمرارة، وكأنّ الأمر يبعث على السخرية.
طبعاً، لا يصدق لكن ما فعله في حياته السابقة كان فظيعاً إلى حد أنّه لو سمعه بنفسه لارتاع.
“لا بد أنّك لا تعنين ذلك حقاً، أليس كذلك؟”
إلا أنّ اتساع حدقتيه شيئاً فشيئاً دلّ على أنّه قرأ الصدق في عيني.
“تشاي سورين وجونغ دايهو… ما ارتكباه لا علاقة لي به! لم أكن أعلم شيئاً! أقسم لك!”
ذهب يصرخ بعلو صوته حتى احمرّ عنقه من شدة الانفعال، وكأنه مظلوم حقاً.
لكن كيف يمكنه أن يدّعي الجهل وهو كان متورطاً بعمق في جرائم سورين؟
ثم…
“ليس من الضروري أن تقتل بيديك كي تكون قاتلاً.”
ربما لم تكن ساعة موتي على يد أعوانك هي اللحظة التي انتهى فيها عمري، لكن…
لقد متّ على يديك مراراً وتكراراً.
حين خنتني وأقمت علاقة محرمة مع سورين.
حين نزعت مني كل ما أملك ودفعت بأوراق الطلاق في وجهي.
حينها، كنت ميتة بالفعل.
بل إنني شعرت بخيانة أمرّ وأقسى من ألم الموت نفسه.
كاد لساني يفضح كل ما اقترفته بحقي، كي تعيش عمرك كله غارقاً في الندم.
لكنني سرعان ما أدركت أن ذلك بلا جدوى.
“أأنا… مجرد خيانة ارتكبتها قبل الزواج تكفي لتجعلك تفعلين بي كل هذا؟”
ارتجف صوته وهو يسألني، فأفلتت مني ضحكة ساخرة.
“لا … السبب الحقيقي مختلف تماماً.”
اهتزت نظرات جيهان بلا حول ولا قوة لسماعه تلك الكلمات.
“لكنني لن أبوح به.”
أليس أشد عذاباً أن تجهل السبب الذي جعلني أحقد عليك حتى الآن؟
“ما هو مؤكد، أن من صنع هذا الجحيم لي هو أنت، جيهان هذا نتيجة أفعالك لذا، أتمنى أن تدفع الثمن.”
لا شيء في هذا العالم قادر على تعويضي عن الألم الذي ذقته في حياتي السابقة.
حتى لو قضيت ما تبقى من عمرك خلف القضبان، فلن يعود العمر المسلوب ولن تُمحى النهاية المأساوية التي منحتني إياها.
“لقد حقدت عليك كثيراً، جيهان بل إنني ما زلت أكره رؤيتك حتى هذه اللحظة.”
لكنني الآن قررت أن أتوقف عن كرهك.
لا أريد أن أهدر وقتي الثمين الذي مُنح لي من جديد في حقدٍ عليك.
حين استيقظت من الموت، كان إسقاطك من مكانك هو غايتي الوحيدة.
لكن الآن… ظهرت أشياء أهم من الانتقام.
“ولذلك، سأنهي الأمر هنا سأمحوك من حياتي.”
“……”
“ليس غفراناً، بل لأنك لم تعد تستحق حتى الكراهية.”
أريد أن أخرج من هذا الجحيم… أريد أن أعيش سعيدة مع طفلي القادم، ومع جايها.
ومع صوت الجرس الذي أعلن نهاية وقت الزيارة، نهضت من مكاني.
ثم التفتّ إلى جيهان الغارق في صمته المحدّق بالفراغ، وألقيت كلمتي الأخيرة
“أنا حامل.”
عندها امتلأت عيناه بمزيج متناقض من شتى الانفعالات.
“في العام القادم، سأصبح أمّاً أما أنت… فلن ترى هذا الطفل أبداً، ولن تعرف ابن أخيك.”
ثم أدرت ظهري إلى جيهان الذي أطرق رأسه منكسراً.
***
الآن انتهى حقاً كل شيء.
حتى بعدما انتهى انتقامي، ظلّ قلبي مثقلاً.
لكن حين تخلّيت عن مشاعر الحقد تجاه جيهان، أحسست بخفة وراحة.
صورة جيهان برأسه المنحني التي رأيتها قبل مغادرتي قاعة الزيارة ما زالت تلوح في ذهني، لكنني هززت رأسي.
لقد قررت أن أتركه وراء ظهري.
حين خرجت من مركز التوقيف، هبّت نسائم الخريف.
وكأنها تخبرني بأنّ الفصل قد بلغ نهايته.
سيأتي الشتاء، ثم الربيع، ثم يعود الصيف مرة أخرى.
وعندها… ستأتي إلينا.
مرّرت يدي برفق فوق بطني الذي لم يظهر بعد.
“من الآن فصاعداً، لن تراودني أفكار سيئة، يا صغيري.”
شعرت بالذنب وكأنني نقلت إليك حزناً ومعاناة بدل أن أروي مسامعك بالقصص الجميلة التي تليق بك.
لكن بما أنّني تخلّيت عن الحقد تجاه جيهان، فلن يكون هناك ما يُبكيني بعد اليوم.
سأريك من الآن فصاعداً جمال هذا العالم.
“يا هاجون “
[ يعني الصيف ]
حين نطقت لأول مرة باسم طفلي المنتظر، “هاجون”، غصّ حلقي بالعبرة.
في الحقيقة، فصل الصيف لم يكن يحمل لي ذكريات سعيدة بقدر ما كان يحمل جراحاً.
فهو الفصل الذي شهد طلاقي من جيهان.
وحتى بعد عودتي بالزمن، لم يكن الصيف بالنسبة لي إلا زمناً مليئاً بالانتقام والتعاسة.
فصلٌ أنهكني بالألم… لكنني اليوم أنتظر قدومه بشغف.
لأنه سيكون الفصل الذي ألتقي فيه بصيفي الغالي.
“أشتاق إليك كثيراً.”
تساءلت: كم ستكون جميلاً؟
كيف سيكون شعور أن أمتلك عائلة؟ أن أنجب طفلاً يجمع ملامحي وملامح جايها؟
بمجرد التفكير في هاجون ، أخذ قلبي يخفق بخفة وسعادة.
“وأنا أيضاً أشتاق إليه.”
رفعت رأسي، فإذا بجايها واقف أمامي وقد اقترب دون أن أشعر.
منذ متى كان هنا؟
ابتسم بعينيه المنحنيتين برقة.
“صيفي.”
ثم احتواني بذراعيه بحذر.
“لقد كنتِ محتارة بشأن اسم مؤقت للطفل… لكنك اخترتِ أجمل اسم.”
مع كلماته، تذكرت كم ليلة قضيتها وأنا أفكر في أسماء محتملة.
لكن لم يجذبني أي اسم مثل “هاجون”
أومأت برأسي، وانغرست أعمق في حضنه.
كان عبير الحمضيات المتداخل مع رائحته يمنحني راحة وطمأنينة.
حتى القلق الخفيف والاضطراب الذي بقي في قلبي بعد لقائي بجيهان، تلاشى تماماً.
“هلاّ تمشّينا قليلاً؟”
.
.
.
كنتُ أتمشّى مع جايها في الحديقة القريبة.
كانت أمواج الضوء على سطح البحيرة المشرقة بأشعة الشمس تتلألأ بلطف.
كان كل شيء هادئاً.
حتى صخب الأطفال الذين يركضون بدا لي آنذاك وديعاً وسلامًا
توقّف جايها عن السير وهو يمسك بيدي.
“لقد عانيتِ كثيراً.”
”…….”
“لو أني لم أفسخ خطوبتنا آنذاك، لما كنتِ قد مررتِ بكل هذا العناء.”
هل كان يفكر طوال هذا الوقت في فسخ خطوبتنا؟
حين قرأتُ الندم المنعكس في عينيه شعرتُ بانقباض في صدري.
“إنني حين رفضت الزواج منكِ…….”
“جايها، لم أعد أحمل همّ ذلك الأمر الآن.”
في الماضي، كنت أتساءل لماذا رفض الزواج بي.
لكن لم يعد يهمني أن أعرف السبب.
فقد خُيّل إلي أن السبب لا يختلف كثيراً عن سببي أنا في حياتي السابقة، حين كنت متشائمة من الزواج.
كما أنني لم أرغب في خوض زواج آخر جعلني أموت بسببه، فكذلك هو ربما كان يكره الزواج الذي دفع بوالدته إلى حتفها.
“أعرف، لقد كنتَ تحمل مرارة ذلك الزواج الذي دفع بوالدتك إلى الموت.”
اتّسعت عيناه دهشةً، وكأن كلماتي أصابت الحقيقة.
“أظن أنني بدأت أفهمك قليلاً يا جايها.”
في البداية، كان رجلاً عصياً على الفهم بالنسبة إلي.
لكن في لحظة ما، بدأت أتبين شيئاً فشيئاً أفعاله وملامح قلبه.
منذ أن فتحت عينيّ يوم الزفاف، كانت حياتي كلها ألغازاً.
كنت خائفة من المستقبل المجهول الذي قد يتغير في أي لحظة.
لكن في كل مرة، كان هو من يجعلني أتمسك بزمام نفسي.
فهو دائماً كان بجانبي، يمنعني من الانهيار.
لم أُلقِ اللوم يوماً على جايها.
حتى لو كنا قد تزوّجنا زواجاً مدبّراً، فلا ضمان أننا كنا سنكون سعداء.
فأنا لم أستطع أن أعرفه على حقيقته إلا بعد أن عُدت بالزمن.
“لذا، لا تشغل بالك بما مضى صحيح أننا مررنا بأوقات عصيبة، لكننا أصبحنًا قادرين على فهم بعضنا البعض… أريد أن أعتبر ذلك شيئاً جيداً.”
ارتسمت ابتسامة دافئة على شفتيه وهو يحدّق بي.
“لقد كنتِ نعمة في حياتي القاسية.”
“وأنا أيضاً.”
ارتسمت ابتسامة على وجهي من تلقاء نفسها وأنا أنظر إلى ضحكته.
“إنه لأمر عجيب.”
”……؟”
“في حياتي السابقة، لم أكن لأتخيل أن أقضي وقتي هكذا معك كنتَ شخصاً يصعب الاقتراب منه بالنسبة إلي.”
ففي ذلك الحين، كان جايها يضع مسافة بينه وبين العالم كله.
يرسم خطاً واضحاً حوله، ولا يسمح لأحد بتجاوزه.
لكنني الآن، أصبحت أفهم تلك العداوة التي كان يُظهرها.
لو كنتُ مكانه، لربما لم أرغب أيضاً في أن أثق بالناس بسهولة.
“أعظم ما فعلته منذ أن عدتُ إلى الماضي هو أنني وثقتُ بك يا جايها.”
لم أكن أريد من زواجي بـجيهان في حياتي السابقة سوى حياة هادئة، أن يكون لي سنداً قوياً بعد أن فقدت عائلتي باكراً.
كان جيهان بالنسبة إلي آخر ما تبقّى لي من عائلة.
لكن عندما خذلني ذلك الإيمان وعاد إليّ كخيانة، اعتقدت أنني لن أستطيع أن أثق بأحد مجدداً.
فالجُرح الذي يتركه من تثق به أكثر من غيره، يكون عميقاً لا يُشفى.
وربما… لو لم ألتقِ جايها ، لكنتُ عشتُ تعيسة العمر كله.
حتى لو أنجزتُ انتقامي، لكنتُ انتهيت وحدي، بلا أحد أستند إليه.
كم أنا محظوظة.
لأنني التقيت بك ولأنني استطعت أن أكون معك.
“أنا أحبك.”
صحيح أنني متّ بسبب الزواج، وصحيح أن حياتي السابقة كانت تعيسة بسببه لكن مع ذلك، فقد استعدتُ سعادتي لأنني تزوجتك.
صحيح أن الطريق كان قاسياً حتى أصل إلى هذه اللحظة، لكنك كنتَ سبب قدرتي على تحمّل كل شيء.
“لو لم تكن في حياتي، لما كنتُ أنا كما أنا الآن.”
”…….”
“شكراً لأنك ذكرتني أن في حياتي أشياء أثمن من الانتقام هذا كله بفضلك يا جايها.”
رفعتُ قدمي ببطء على أطراف أصابعي، وأطبقتُ شفتي على شفتيه.
وحين انفصلت، التقت عيناي بعمق عينيه المظلمتين.
كان النسيم يحرك أوراق الأشجار خلف ظهره.
وبين الأغصان، تسللت خيوط الشمس دافئة أكثر من أي وقت مضى.
ومع هبة الريح مجدداً، ارتسمت على شفتيه ابتسامة بطيئة.
ابتسامة عليلة كنسيم الخريف، منعشة وهادئة.
جذب معصمي، ليعيدني بين ذراعيه.
“وأنا أيضاً أشكرك.”
صوت عذب رنّ في أذني.
“وأحبك.”
اقترب حتى لامس أنفاسه وجهي، ثم طبع قبلة رقيقة على شفتي.
تحت أشعة الشمس الدافئة، كان صوت أوراق الشجر المتمايلة مع الريح يأتيني ناعساً وحنوناً.
تمنيتُ لو أن هذه الطمأنينة، وهذا السعادة، يبقيان معنا طويلاً.
عانقتُ عنقه وأسلمت نفسي تماماً لذراعيه.
وفي تتابع القبلات العذبة، كان قلبي يغمره دفء لم أعرفه من قبل.
أشعر أنني لن أستطيع نسيان هذه اللحظة لأنني لم أبلغ كمالي إلا إلى جانب جايها.
فكما أن الظلام حين يشتدّ، يزداد النور إشراقاً… كذلك كانت حياتي ولأنني عشتُ التعاسة، أصبحت لهذا السعادة الآن معنى أعمق.
ليت هاجوني أيضاً يشعر بما أشعر به من حب…
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 121"