أشرق صباح يوم الأحد.
كنت أظن أن جايها سيقترح أن نذهب إلى البيت الريفي، ولو متأخرين، لكنه قال إن علينا العودة إلى سيول.
هل غيّر رأيه فجأة؟ أم أن خططه في البيت الريفي تبدلت؟
على أي حال، ما دام وجهه اليوم أفضل من الأمس، فقد بدا لي أن الذهاب إلى سيول هكذا ليس بالأمر السيئ.
على كل حال، كان هناك مكان عليّ أن أزوره.
نظرت إلى جايها، ثم اتجهت نحو مقعد السائق.
وحين رآني أتهيأ للقيادة بنفسـي، اتسعت عيناه دهشة.
“السيدة يوجين تريدين أن تقودي؟”
“نعم سأقود في طريق العودة هناك مكان أود المرور به.”
جلس جايها في المقعد المجاور دون أي اعتراض.
“هل وجهتنا سرّ؟”
سألني متردداً وهو ينظر إليّ، إذ لم أخبره بالوجهة.
“نعم، سرّ ستعرف حين نصل.”
ابتسمت له.
كنت أعلم أنه سيُدهش أكثر بكثير عندما يكتشف وجهتنا الحقيقية.
فلن يخطر بباله أبداً أننا في طريقنا إلى قبر والدته.
لطالما فكرت أن عليّ أن أذهب يوماً، لكن لم أتوقع أن يكون بهذا الشكل.
وكان من حسن الحظ أن المكان يقع في طريق عودتنا إلى سيول.
أتذكر حين أخذني جايها لزيارة والديّ المريضين في المستشفى.
كل كلمة قالها لهما آنذاك لامست قلبي بعمق.
وبفضله أصبح التفكير بوالدي لا يحمل ثِقلاً كما كان من قبل.
فلقد استطعتُ أن أريهما آخر مرة صورةً سعيدة مني ومن فرط امتناني له على ذلك، رغبتُ أن أقدم له أيضاً ذكرى دافئة.
وحين وصلنا إلى الوجهة ونزل من السيارة، ابتسم جايها ابتسامة باهتة.
نظر حوله إلى المشهد المألوف له للغاية، ثم سألني
“هذا هو المكان الذي قصدتِه؟”
أومأت برأسي بصمت.
بدا عليه الذهول؛ لم يتوقع أن آتي به إلى المدفن العائلي لعائلة هوجين، حيث ترقد والدته.
أمسكتُ بيده المتصلبة من المفاجأة، وصعدنا معاً التلة حتى لمحنا القبر الذي كنا نبحث عنه.
وكانت أحواض الزهور على جانبي القبر مزينة بأزهار تناسب كل موسم، أما حجر القبر فبدا نظيفاً لامعاً، إذ كان يُعتنى به باستمرار.
جثا جايها على ركبة واحدة، ومدّ يده ليمسح اسم والدته المنقوش على الشاهد.
انعكس على وجهه طيف حزن مرير وهو يتذكرها.
وقفت إلى جواره، وغرست الأزهار التي جلبتها في المزهرية الخالية بجانب القبر.
“كنت أتساءل لماذا أصررتِ على المرور بمحل الزهور منذ الصباح…”
تمتم وهو يتأمل أزهار السولتشِه وقد تفتحت بأناقة، ثم ابتسم ابتسامة رقيقة.
كنت قد اشتريتُها قبل أن نصل.
وحين سألني في البداية لماذا نشتري الزهور، أجبته إجابة غامضة: “ستعرف حين نصل.”
“كيف عرفتِ أن والدتي كانت تحب أزهار السولتشِه؟”
سألني وعيناه تلمعان بالامتنان.
ابتسمت بخفة بينما خطر ببالي شخص موثوق يمكن الاعتماد عليه
“السيد هان هو من أخبرني شرح لي الكثير من الأمور الفضل كله له.”
“كنت أظن ذلك.”
ضحك جايها ضحكة قصيرة وكأنه توقع الجواب.
كنت قد علمت من السكرتير هان أن ذكرى رحيل والدته كانت قبل أيام قليلة فقط.
لكن بسبب انشغالنا حينها وما أحاط بنا من شبهات، لم أتمكن من الحضور مع جايها
كنت أتمنى لو جئت في يوم الذكرى ذاته، لكن الظروف لم تسمح.
نهض جايها بعد أن ظل راكعاً قليلاً، ووقف إلى جانبي.
ولم تكن هذه زيارتي الأولى لوالدته.
أتذكر، رغم أن الذكرى باهتة لبعد عهدها، أنني التقيت بها مرة في حفل أقامه مجموعة هوجين
ابتسمت لي بلطف ومدّت يدها لتصافحني، قائلة:
“أأنتِ يوجين؟ سررت بلقائك هل تعرفين من أنا؟”
كنت يومها صغيرة وخجولة، فاختبأت خلف ظهر أمي ولم أعلم أن ذلك سيكون أول وآخر لقاء.
قالت بابتسامة:
ــ “تبدو يوجين خجولة جداً أنا والدة جايها أليس كذلك يا جايها ، لقد التقيتما من قبل؟”
كان جايها يقف إلى جانبها طفلاً، ينظر إليّ بصمت.
كنت بلا إخوة، لذا بدا لي غريباً وموحشاً.
وكذلك بدت والدته التي تحدثت إليّ بود لم أعهده.
«ومن كان يظن أنني سأتزوج من جايها يوماً ما…»
كنت صغيرة ولم أكن أدرك أن حديث الخطبة كان قد بدأ بين العائلتين.
ولو علمت أن ذلك سيكون آخر لقاء معها، لجمعت شجاعتي وتحدثت إليها أكثر.
انحنيت تجاه القبر وهمست بكلمات ملؤها الحزن:
“تأخرت كثيراً في المجيء لأقدم سلامي أنا يون يوجين لست متأكدة إن كنتِ تذكرينني…”
“…”
“كنت صغيرة جداً آنذاك، ولم أستطع أن أمس اليد التي مددتها نحوي وها هو المشهد يعود إليّ دائماً…”
التفت إليّ جايها وهو يستمع، وعلامات الخشوع ترتسم على وجهه.
“أظن أن أكثر ما كنتِ تتمنينه هو سعادة ابنك لكني أشعر أن رؤية جايها وهو يستهلك نفسه في طريق الانتقام كانت ستؤلمك كثيراً.”
ترددت العَبرة في صدري.
شعرت أن كلماتي الموجّهة إلى والدته كانت في الحقيقة رسائل لوالديّ أيضاً، الراقدين في السماء.
ألم يكن هناك سبيل آخر غير الانتقام؟
ربما كانت هناك طرق أسهل، لكن ما من شيء غير إسقاط جيهان كان قادراً على شفاء ذلك الجرح الغائر في القلب.
كنت أظن أن الانتقام هو كل ما أملك، أن التوقف يعني الضعف والانكسار.
لكن ما إن تحقق وانتصرنا حتى اكتشفت أنه لم يجلب السعادة التي توهمتها.
الراحة لم تدم طويلاً، والانتصار لم يكن سوى فكّ قيد قديم، لا أكثر.
بدأت أشك في أن الطريق كان خاطئاً منذ البداية.
ألَم يكن الانتقام الحقّ هو سعادتنا نحن، لا سقوط أعدائنا؟
رفعت رأسي وأكملت
ــ “دار بنا الزمن طويلاً، لكنني الآن سأحرص أن أعيش مع جايها بسعادة لذا أرجوكِ لا تقلقي بعد الآن.”
أغمضت عينيّ وانحنيت في صمت.
عندها تقدم جايها نحوي وأمسك بيدي برفق.
كان ينظر إليّ بملامح مرتاحة لم أرها من قبل.
ثم قال بصوت ثابت وهو ينظر إلى القبر، وإن كان يخاطبني بعينيه
ــ “أمي، أنا سعيد لأن هذه المرأة بجانبي وسأكون أكثر سعادة معها من الآن فصاعداً فلا تقلقي.”
ابتسم وهو يوجّه كلامه إليها وليّ.
وفي تلك اللحظة، هبّت نسمة عليلة كأنها همس موافقة من والدته الراحلة.
.
.
.
كانت تراقب جيها من داخل السيارة وهو يتحدث مع القائم على إدارة المقبرة.
على ما يبدو، طال الحديث بينهما لأنهما جاءا لزيارة الضريح بعد غياب طويل.
لم يمضِ وقت طويل منذ جلوسها في السيارة، لكنها بدأت تشعر بثقل في جفونها.
أخذت تتثاءب مرارًا وتكرارًا، فغطّت فمها بيدها.
“هاهُم… لماذا أشعر بالنعاس هكذا؟”
هل تعبت بالفعل لمجرد أنها قدت السيارة صباحًا؟ كان جسدها مرتخيًا كما لو أنه إسفنجة مشبعة بالماء.
وبما أن الحديث بينهما طال، استندت إلى مقعد السيارة وأغلقت عينيها.
لكن فجأة، أحسّت بشخص يوقظها بلطف، ففتحت عينيها.
وعندما رأت مجمع الشقق السكنية المألوف، انتفضت فجأة وجعلت جسدها في وضع مستقيم.
“هاه؟! لا أصدق، هل كنت نائمة طوال الوقت؟”
لم تكن تعتقد أن كل هذا الوقت قد مرّ بينما كانت تظن أنها أغمضت عينيها للحظات فقط!
أومأ جايها برأسه مؤكِّدًا، وكان على شفتيه ابتسامة مرحة وكأنه استمتع بمشاهدتها وهي تغط في نوم عميق.
“نعم، لم تستيقظي أبدًا.”
“آآه… لا بد أن الطريق كان طويلاً كان عليك أن توقظني.”
فالمسافة لم تكن قصيرة، وكان من الصعب أن يقود كل تلك المسافة وحده.
وبما أن المقعد كان مائلًا بشكل مريح، بدا أن جيها قد عدّله من أجلها.
وكان من المفترض أن يتوقفا في مطعم لتناول الطعام أثناء العودة إلى سيول، لكن تلك الخُطّة قد فشلت تمامًا.
“كنا سنأكل سويًا…”
“لا بأس، يمكننا الأكل في المنزل كنتِ نائمة كفرخ مريض، فقررت أن أدعك ترتاحين.”
“يبدو أنني كنتُ مرهقة حقًا.”
لم يحدث لها هذا من قبل، ولكن يبدو أنها شعرت بالأمان بجانب جايها، فاستسلمت للنوم.
وما إن فكّ جايها حزام الأمان حتى اقترب منها قليلًا.
“بالمناسبة، أظن أن لديك حرارة خفيفة.”
مدّ يده ليلمس جبهتها.
وبعد أن سمعت ملاحظته، وضعت يدها على جبهتها، فشعرت فعلًا بارتفاع طفيف في حرارتها.
“منذ عدة أيام أشعر بسخونة خفيفة.”
تذكّرت أنها كانت تنوي تناول دواء للزكام في وقت سابق لكنها تراجعت، لأنه لم يكن هناك دواء في المنزل، فأجّلت الأمر.
“يبدو أنني بحاجة إلى تناول دواء… هه؟”
فجأة، ومض في ذهنها أمر كانت قد نسيته تمامًا.
درجة حرارتها المرتفعة نسبيًا، والنعاس الشديد الذي تشعر به… جعلها تفكر في احتمال معيّن.
“هل أتتني الدورة هذا الشهر؟ لا أظن… هل يُعقل؟”
فتحت هاتفها لتتأكد، فوجدت أن موعد دورتها الشهرية قد تأخر كثيرًا.
قد تكون مجرد شكوك متسرعة… لكن الاحتمال موجود.
***
عاد يوم الاثنين، ولم أستطع التركيز طوال الاجتماع.
فما أن استندت إلى ظهري على المقعد، بغض النظر عن المكان، حتى اجتاحني النعاس فجأة.
وبعد اجتماع طويل، عندما عدت إلى وعيي، كان الجميع يجهزون أغراضهم حول الغرفة.
يبدو أن الاجتماع قد انتهى بالفعل.
اقترب يون جون سينباي من كتفي، وهو يربت عليها بلطف قائلاً
“يون، مؤخرًا لا تنامين جيدًا، أليس كذلك؟ إذا كنت متعبة، اذهبي إلى غرفة الاستراحة وخذي قسطًا من النوم.”
“آسفة… لم يحدث لي هذا من قبل، هذا غريب.”
يبدو أن سينباي ظن أني أعاني كثيرًا بسبب جيهان لدرجة أنني لم أتمكن من النوم.
لكن الحقيقة أن المشكلة كانت بسبب النعاس المتواصل الذي يغمرني في أي وقت.
“يمكن أن يحدث ذلك، خذي قسطًا من الراحة قليلًا.”
أومأت برأسي له.
وبينما كانت فكرة احتمال الحمل تدور في رأسي، لم أستطع الجلوس ساكنة.
تحت ذريعة الذهاب إلى المتجر، توجهت إلى الصيدلية واشتريت اختبار الحمل.
وعندما أجريت الاختبار، أخبرني أنني لست حاملاً.
كانت الخطوط واضحة…
شعور الفراغ الذي انتابني عند التخلص من الاختبار استمر منذ الليلة الماضية وحتى الآن.
لم أكن أتطلع لإنجاب طفل، فلماذا شعرت بهذا الحنين والخفّة في قلبي؟
وعندما خطرت لي فكرة احتمال الحمل، بدا كل شيء من حولي وكأنه يذكّرني بأعراض الحمل المبكرة.
في النهاية، رتبت مكتبي ونهضت.
كنت قد حجزت موعدًا للفحص عند طبيب النساء والولادة لمجرد الاطمئنان.
سأعرف الحقيقة عند زيارة الطبيب.
جاءتني أفكار التوتر مع انتظار دوري في العيادة، فقد كان وقت الغداء مزدحمًا بالمراجعين.
رغم أن احتمال الحمل منخفض لأن الاختبار كان سلبيًا، كان قلبي يخفق بشدة أثناء الانتظار.
“يون يو جين، يمكنك الدخول إلى غرفة الفحص رقم 1.”
قررت ألا أعلق آمالًا كبيرة، لأن الاختبار كان سلبيًا.
لكن في اللحظة التي شاهدت فيها تصوير الموجات فوق الصوتية، خفق قلبي بشدة.
“يبدو أنك في الأسبوع السادس تقريبًا هذا هو كيس الحمل، والجنين هنا.”
أشار الطبيب إلى نقطة صغيرة على الشاشة، كانت تمثل الجنين.
صغر حجمه لدرجة لا تسمح بعد بالتمييز بين ملامحه، لكنني لم أستطع أن أغض الطرف عنه.
“كنت قد أجريت اختبار الحمل وكان سلبيًا… هل يحدث هذا؟”
ابتسم الطبيب ابتسامة خفيفة رداً على سؤالي.
“نعم، بالطبع هل جربتِ أكثر من اختبار؟ أحيانًا قد يكون أحد الاختبارات معيبًا بشكل نادر.”
يا إلهي… الطفل كان ينمو في بطني بالفعل… لم أكن أتوقع هذه الأخبار، فارتعشت يدي بشكل لا إرادي.
الحمد لله أنني لم أتناول أي دواء.
تذكرت الليلة الماضية، وارتاحت نفسي قليلاً.
لو كنت قد تناولت دواءً دون أن أعلم بحملي، لكان قلقي مستمرًا طوال الوقت.
“هل تودين سماع نبض قلب الطفل؟”
“…نعم، أود سماعه.”
سمعت دقات قلبه تتردد بصوت قوي، فاحمرّت عيناي.
كان يبدو وكأن قلبه النابض يخبرني بأنه هنا معي.
في البداية، عندما شاهدت تصوير الموجات فوق الصوتية، لم أشعر بالواقعية.
لكن لحظة سماع دقات قلبه، امتلأت قلبي بمشاعر لا يمكن وصفها بالكلام.
لقد شعرت كأنني تلقيت هدية لم أتوقعها.
“نبض قلب الطفل قوي جدًا مبروك على الحمل.”
أومأت برأسي للطبيب، ويداي ما زالت ترتجف.
لقد بدأ للتو هدف جديد في حياتي.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 117"