ما إن غابت الشمس تمامًا، حتى بدأ المطر بالهطول.
ورغم الأمطار الغزيرة، ظل الحطب مشتعلًا بهدوء، ينشر دفأه في المكان.
“ألم يكن من المفترض ألّا تمطر؟”
“كان هناك احتمال لهطول المطر، لكن لم يُذكر أنها ستكون بهذا الغزارة.”
لم يكن يُسمع سوى صوت المطر المتساقط على السقف المؤقت، يتقطر ويتردد صداه في الأرجاء.
ظننا أن المطر سيتوقف سريعًا، لكن مع مرور الوقت، كان يزداد غزارة وحدة.
“يبدو أن النار ستنطفئ من تلقاء نفسها، علينا الانتظار حتى يتوقف المطر.”
قالها جايها بنبرة استسلام، ثم تمدد على ظهره.
ثم أشار بذراعه كما لو أنه يدعوني للاستلقاء بقربه، فابتسمت وانضممت إليه.
كانت الأغطية أكثر راحة مما توقعت، ولفّت ظهري بلطف.
من زاوية استلقائي، لاحظت تجمع مياه المطر على سقف الغطاء المؤقت.
“جايها، يبدو أن الغطاء قد ينهار بسبب الماء، هل تعتقد أنه بخير؟”
– “…”
“ماذا إن لم يتوقف المطر؟”
سألت بينما أحدّق في السقف الذي أخذ الماء يتجمع فوقه، لكن لم أتلقَ أي إجابة، فاستدرت نحوه.
وإذ بي ألتقي بنظراته، كان قد استدار ناحيتي يحدّق بي بصمت.
نظراته العميقة جعلت قلبي ينبض بقوة. وحين لمح وجهي المتوتر، ابتسم بهدوء.
“هل كان هذا ما يشغل بالك؟”
“ماذا تقصد؟ المطر يزداد غزارة، ماذا لو…؟”
ضحك بخفة، ثم جذبني ناحيته بحنان.
“أظن أن عليك القلق عليّ أكثر من قلقك على الغطاء.”
“ما الذي تعنيه؟”
أمالت رأسي بتساؤل، فلم أفهم قصده في البداية.
“سواء أكان مطرًا أم ثلجًا، فأنت تبدين جميلة دائمًا وكلما نظرت إليك، أرغب في تقبيلك.”
كان كلامه صريحًا لدرجة أن وجهي احمرّ خجلًا.
لكن على ما يبدو، لم يكن يدرك ارتباكي، فقد همس بصوته العميق مجددًا في أذني:
“لكن المشكلة أنني لا أعلم إن كنت سأتمكن من التوقف إن بدأت.”
ضحكت دون أن أشعر، ربما لأن قلقه بدا لي بسيطًا.
حينما لاحظ تغير نظراتي إلى شيء من العبث، بدت ملامحه أكثر جدية.
“تضحكين؟ لا أظن أن الموقف يحتمل ذلك.”
اقترب مني أكثر، حتى شعرت بحرارة أنفاسه.
نظرت إليه بابتسامة عريضة وقلت:
“ولم القلق؟ أعتقد أن بإمكاننا معرفة ذلك إن جرّبنا.”
أشرت بعيني نحو ظلام الليل خارج السيارة.
كان فوقي بالفعل، شعره المبتل يتساقط على جبينه، فمد يده وأزاحه إلى الوراء.
“المكان مناسب لكل شيء، أليس كذلك؟ فقط نحن هنا.”
“وكأنك تعرفِين ما أنوي فعله…”
وقبل أن يُكمل جملته، جذبت عنقه إليّ وهمست:
“وفي هذا الليل المظلم، ما الذي يمكن أن يفعله زوجان غير ذلك؟”
ثم قبّلته قبل أن يتمكن من الرد.
تفاجأ في البداية، وفتح عينيه على وسعهما، لكن سرعان ما انجذب إلى القبلة.
تداخلت أنفاسنا، واختفى كل شيء حولنا عدا ذلك الشعور المشترك.
لم نعد نعي أننا داخل السيارة، فقط كنا نغرق في بعضنا.
لكن أثناء ذلك، شعرت بأن ظهر جايها مبلل بالكامل.
“ستُصاب بالبرد إن استمر الحال هكذا.”
“هاه… لم أكره الطقس في حياتي كما أكرهه الآن.”
قالها بامتعاض، وهو يرمق المطر المنهمر بنظرات غاضبة.
ثم هزّ رأسه، فتطايرت قطرات الماء من شعره.
وكان قميصه المبتل قد التصق بجسده، كاشفًا عن تفاصيل جسده المشدود.
“كنت أعلم أنني لن أستطيع التوقف إن بدأت… لذلك لم أكن أرغب ببدء شيء.”
قلت بصدق وأنا أحدّق في عينيه:
“ولا أنا أريد التوقف هنا.”
ارتجفت عيناه قليلاً للحظة، وكأنه يفكر، ثم اعتدل جالساً.
وقال بحزم:
“لكنني لا أريد أن يكون هنا… فلنغادر.”
وفي النهاية، جمعنا ما تبقى من أغراضنا، ووضعناها في السيارة، ثم انطلقنا.
.
.
.
ما إن دخلنا غرفة الفندق حتى تنهد جايها بصوت منخفض.
كان منذ البداية معترضاً على المجيء إلى الفندق.
كان يُصرّ بعناد على التوجّه إلى الفيلا، لكنه لم يستطع إلا أن يرضخ لقراري بعد بضع دقائق من انطلاقنا.
وذلك بسبب المطر الغزير الذي حجب الرؤية تماماً.
هكذا اضطررنا إلى تغيير الطريق والقدوم إلى أقرب فندق.
قلت بدهشة:
“واو، لطالما رغبتُ في زيارة هذا الفندق.”
“هذا حسن إذن لكن مع ذلك…….”
ملامحه المتجهمة لم تزل.
هل كان هناك سبب يجعله يصرّ على الذهاب إلى الفيلا؟ بدا عليه الحزن وكأنه يفتقد شيئاً ما.
حتى في السيارة، كان جايها غريب الأطوار.
فعلى غير عادته، ظل يتذمّر من المطر.
ولأنه ليس من طبعه أن يُظهر مشاعره بهذه الصراحة، بدا الأمر أكثر غرابة.
فقلت محاولة تهدئته:
“يمكننا الذهاب إلى الفيلا في وقت لاحق لدينا الكثير من الوقت معاً، أليس كذلك؟”
فالأيام كثيرة، ونهاية كل أسبوع ستعود دائماً.
وعند كلماتي المطمئنة، اتخذ جايها تعبيراً غريباً، لا ابتسامة ولا عبوساً.
قال بهدوء:
“صحيح يمكننا الذهاب في المرة القادمة……. نعم، هذا صحيح.”
ثم رمقني بنظرة جانبية، وبعدها لم يلبث أن جرّني نحو الحمام عندما لمح شعري المبتل وبلوزتي الرطبة.
قال بإصرار:
“اذهبي لتستحمي أولاً.”
فقلت مترددة:
“لكن أليس من الأفضل أن تستحم أنت أولاً يا جايها؟”
فأجاب بابتسامة خفيفة:
“لا بأس، سأستحم بعدك.”
وعلى الرغم من اعتراضي، دفعني إلى الداخل برفق.
قلت مازحة وأنا عند الباب:
“أو ربما نستحم معاً؟”
كان كلامي نصفه مزاح ونصفه الآخر جاد ، فالقميص المبلل الملتصق بجسده كان يثير فضولي.
لكن جايها اكتفى بابتسامة ساخرة وهو يقول:
“لا، هذا غير ممكن ادخلي.”
كان حازماً إلى درجة لا تسمح لأي مزاح بأن يهزمه.
فاضطررت إلى الاستحمام قبله، وما إن خرجت حتى دخل هو.
وقفت أنظر إلى المطر المنهمر بغزارة عبر نافذة التراس.
لم أتوقع أبداً أن يهطل بهذا الشكل الجارف حينها فهمت لمَ كان جايها متضايقاً ،وعندما التفت، وقع بصري على سترته المعلّقة.
تذكّرت أنها مبتلة تماماً.
فمددت يدي لأتناولها وأنا أفكر أن أرسلها مع ملابسي إلى خدمة الغسيل في الفندق.
مددت يدي إلى جيبها لأخرج أي شيء ثمين قبل إرسالها، فشعرت بأطراف أصابعي تلامس شيئاً صلباً.
تمتمت بدهشة:
“ما هذا؟”
أخرجت علبة صغيرة مربعة الشكل.
بدا من أول وهلة أنها علبة خاتم.
قلت متفاجئة:
“هل جايها جلب خاتم الزواج معنا؟”
ظننت أول الأمر أنه خاتم زواجنا.
لكن العلبة بدت مختلفة قليلاً عن تلك التي سلّمني إياها سابقاً.
دفعني الفضول لفتحها.
وبداخلها وجدت خاتماً يلمع بوهج أخّاذ.
“أه……؟”
لم يكن خاتم الزواج.
وبينما أحدّق فيه، شعرت بأن ذهني قد فرغ تماماً.
ثم أخذت أستعيد أحداث اليوم منذ بدايته.
(لا يعقل…… هل كان يفكّر في خطبتي من جديد؟)
عندها فقط أدركت تصرفاته الغريبة طوال الطريق إلى الفندق.
(لابد أن في الفيلا شيئاً ما……!)
ولهذا كان متضايقاً لأنه لم يستطع الذهاب إليها.
ما إن أدركت ذلك حتى تسللت الضحكة من بين شفتي.
كان الخاتم ذا تصميم أبسط بكثير من خاتم زواجنا السابق، وكأنه صُنع خصيصاً ليُرتدى بسهولة في الحياة اليومية.
رغبت في تجربته على إصبعي، لكنني قررت أن أترك ذلك لجايها نفسه.
(سأتظاهر بأني لم أرَ شيئاً.)
أغلقت العلبة وأعدتها إلى داخل سترته، في أعمق مكان فيها.
ثم وقفت أمام المرآة لأجفف شعري المبتل.
في تلك اللحظة، فُتح باب الحمام وخرج جايها وهو يلف جسده بمنشفة.
انعكس شكله في المرآة أمامي.
ولم تكد عيوننا تتلاقى للحظة حتى اقترب مني بخطوات بطيئة، حيث كنت أجفف شعري.
قال مبتسماً:
“الآن تجيدين تجفيفه من دون أن أقول شيئاً.”
“لأنك لو لم أفعل، لكنتَ بدأت بالتذمّر، أليس كذلك؟”
ضحك وقال:
“صحيح تماماً يعجبني هذا كثيراً.”
ثم أخفى وجهه في كتفي وهو يبتسم برضا.
كان قد خرج للتو من الحمام، ففاحت منه رائحة عطرة قوية من غسول الجسم.
“أما تجففين شعري أنا أيضاً؟”
“شعرك؟”
أومأ برأسه ثم جلس على الكرسي أمام منضدة الزينة.
بدأتُ أجفف شعره المبتل، بينما أغمض هو عينيه بطمأنينة.
(أيّ رجل يملك رموشاً طويلة بهذا الشكل؟)
كانت رموشه تمتد ناعمة نحو الأعلى.
وربما لأنني أنظر إليه من الأعلى هذه المرة، شعرت بأن الأمر غريب عليّ.
دفعت خصلاته المبتلة عن جبينه، فكشف عن جبين عريض مستقيم.
ثم وقعت عيناي على حاجبيه المرتّبين وكأنهما مرسومان بدقة، ثم على أنفه الحادّ، وأخيراً على شفتيه الندية المبللة.
كنت أتأمله مبهورة ملامحه، حتى فاجأني أن شدّ ذراعيه حول خصري.
“هل انتهيتِ من النظر ؟”
وعندما فتحت عيناي، وجدته يحدّق بي مباشرة بعينيه السوداوين العميقتين.
ارتبكت ورمشت بعينيّ بسرعة.
(متى فتح عينيه؟! أليس كان مغمضاً؟ بدا كالأشباح…)
سحبني بخفة، وإذا بي أجد ركبتيّ بين ساقيه الجالستين.
لم يكتفِ بذلك، بل أحاط خصري بذراعيه، يمنعني من أي حركة أو هروب.
قلت بخجل:
“كيف عرفتَ أنني كنت أنظر؟”
ابتسم بخبث وقال:
“حتى وأنا مغمض العينين، شعرتُ بنظراتك لي.”
ارتسمت على شفتيه ابتسامة متراخية، ومعها مال برأسه ناحيتي، حتى أصبح على وشك أن يلامس شفتيّ.
تراجعت للخلف قليلاً قائلة:
“انتظر، لم أنتهِ من تجفيف الشعر بعد.”
لكنه أجاب بلا مبالاة:
“لا بأس.”
ضحكت بمرارة، فقبل قليل فقط كان يحذّرني من الإصابة بالبرد إن لم أجفف شعري جيداً!
أما الآن فيتصرّف وكأنه لا يهتم.
أحاط ذراعيّ وجعلني أضعهما حول عنقه، فتلاقت عيوننا من قرب أكثر.
كان في نظراته بريق مشتعل.
قال وهو يقترب أكثر:
“أشعر أنني لن أستطيع الانتظار حتى ينشف شعرك.”
وبنصف عينين مغمضتين، مال نحوي أكثر فأكثر…
كان الفاصل بيننا مجرد لحظة، مجرد نَفَس واحد.
لكن – دينغ دونغ!
رنّ جرس الغرفة.
تذكرت فجأة أنني كنت قد اتصلت بالاستقبال لأجل خدمة غسيل الملابس.
فقلت بسرعة:
“آه، لابد أنهم جاءوا ليأخذوا الملابس المبتلة التي أردت إرسالها للتنظيف.”
كان التوقيت في غاية السوء.
حاولت أن أتحرر من ذراعيه لأخرج، لكن جايها أطلق تنهيدة ثقيلة وشدّني أقرب، محكمًا حصاره عليّ.
ناديت بخفوت:
“جايها؟ الموظف بالخارج ينتظر دعني فقط أعطيه الملابس وأعود.”
لكن الجرس رنّ مرة ثانية، بإلحاح أكبر، وكأن من بالخارج يستعجل.
تنفس جايها بعمق ونهض بدلاً مني.
“سأتولى الأمر.”
حمل الملابس وخرج للحظة، ثم عاد سريعاً.
وقبل أن أنطق بكلمة، انحنى وقبّل شفتي قبلة قصيرة، ثم همس في أذني:
“انتظريني هنا.”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 116"