دخل جيهان مترنحاً وهو يحدّق بـموجين.
في بضعة أيام فقط غارت عيناه وبدت ملامحه شاحبة متعبة، كاشفةً عن حالته المضطربة.
وما إن وقعت عيناه على موجين حتى أخذ يضرب الزجاج بقوة مردداً كلمات متقطعة، ثم لمحه الميكروفون أمامه فأسرع لتشغيله.
قال بصوت مرتجف:
“سيادة الرئيس! سامحني هذه المرة فقط… لقد… لقد فقدت عقلي.”
التزم موجين الصمت.
تابع جيهان متوسلاً:
“حين علمت أنني لست من دم هوجين… كأنني قد تلبّست بشيء أفقدني صوابي…”
نظر إليه بعينٍ بائسة راجياً عطفه.
لكن كما لو أنّ الجميع كان بانتظار هذه اللحظة، سارت إجراءات الادعاء بحق جيهان والسيدة أوه بسرعة مذهلة.
وقد حُدِّدَت مواعيد المحاكمة، ما يعني أنّ صدور الأحكام على الاثنين بات قريباً جداً.
كان سير الأمور الحاسم يدفع الناس جميعاً إلى القول بنبرة واحدة:
جيهان ورقة خاسرة.
ومع إعلان البيان الرسمي لـهوجين، ورؤية الناس كيف أُزيح جيهان عن منصب الوريث، أخذوا يتهامسون: “كنا نعلم أن الأمر سينتهي هكذا.”
ولا شك أن هذا الخبر وصل إلى مسامع جيهان أيضاً.
ولهذا لم يجد أمامه إلا أن يتوسّل متشبثاً بأي أمل، ولو كان بالتعلّق بأطراف ثوب موجين.
مشهد جيهان المتهالك، الذي كان يوماً ما كأن لا دم يجري في عروقه، جعل فم موجين يملؤه مذاق مرير.
قال موجين ببرود:
“لم آتِ لأستمع إلى تبريراتك التافهة.”
حين علم جيهان أن موجين وافق على مقابلته، تمسك بخيط رفيع من الأمل.
خُيِّل إليه أن الرئيس ربما يصفح عنه بدافع المودة الماضية.
لكنّ موجين الذي يواجهه الآن كان بارداً قاسياً.
ومع رؤية هذا الجدار الصلب أمامه، انطفأت الشرارة الصغيرة التي أضاءت قلبه.
نعم… موجين لم يكن رجلاً يصفح.
وربما استشعر جيهان السبب الذي جاء من أجله، فارتجفت جفونه.
“انتهى الأمر.”
قال موجين بحزم:
“لعلك سمعت بالخبر: مجلس الإدارة صوّت على قرار إقالتك من منصب الرئيس التنفيذي.”
كان الغرض من هذه المقابلة إذاً مجرد تبليغٍ بالإقالة.
وعندما سمع جيهان ذلك، أطرق برأسه وكأنه كان يتوقعه.
أضاف موجين:
“نائب الرئيس، سيو مينغوك، سيرفع دعوى قضائية للطعن في نسبك.”
فانفجر جيهان:
“…جدي!”
ارتعشت ملامح موجين من انزعاج هذه الكلمة غير اللائقة.
ثم أردف بصرامة:
“وأنا أيضاً سأحذف اسمك من سجل عائلتنا.”
نهض من مكانه بعد أن قال ما أراد، فانزاح الكرسي إلى الوراء.
توسل جيهان بصوت مبحوح:
“سيادة الرئيس…”
وحين التقيا بنظرات باردة، سأل جيهان بصعوبة:
“هل كان هو؟ أخي… هو من أفشى سر ولادتي؟!”
أجابه موجين:
“أتسأل إن كان جايها هو من أخبرني؟”
أومأ جيهان برأسه.
لكن عيني موجين ازدادت برودة وهو يقول:
“لا كنت أعلم منذ زمن أنك لست من دم مينغوك.”
“…ماذا؟”
ارتبك وجه جيهان على الفور.
لقد كان مذهولاً، فمه مفتوح غير قادر على استيعاب الجواب.
“منذ زمن؟ متى بالتحديد…؟”
كان يعرف أن موجين لا يقبل أبداً بدخول غريب إلى العائلة.
لكن الأخير تابع بهدوء:
“منذ اليوم الذي التحقت فيه بشركة هوجين.”
تساقطت الكلمات كالصاعقة على مسامع جيهان، فسقطت يده المرتجفة من على الميكروفون.
ترددت صور الماضي في ذهنه:
“منذ ست سنوات…”
لم يصدق كيف عَرَف ولم يتفوّه بشيء طوال تلك المدة؟
تمتم:
“لا يعقل… كيف…؟”
كان يريد أن يسأله: كيف بقى صامتًا وهو يعلم؟ ولماذا إذاً اختار أن يضعه في موقع الوريث بدل جايها؟
لكن حين اصطدمت عيناه ببرودة نظرة موجين، لم يستطع أن ينطق.
ابتسم موجين بسخرية خفيفة وقال:
“تتساءل لماذا تبنيتك رغم علمي بأنك لست من دم العائلة؟”
ثم تابع بنبرة حازمة:
“كنت بمثابة جرحي الغائر كان عليّ أن أبعدك، لكنني لم أستطع… لأنني رأيت نفسي فيك، في نضالك اليائس من أجل البقاء.”
بدت في عينيه غمامة حزن عابر، ثم اختفت ليعود بوجه بارد كالعادة.
قال جيهان وهو يرتجف:
“لكن… في النهاية، كنتَ تنوي أن تمنح كل شيء لأخي، أليس كذلك؟”
“نعم كنت أنوي أن أترك شركة هوجين لـجايها.”
ارتعش جسد جيهان بكامله، وكأن بركاناً داخلياً انفجر فيه.
لقد كان كما توقع… الوريث الحقيقي كان جايها.
ومع ذلك، أضاف موجين بنبرة واثقة:
“أما أنت… فكنتُ سأجعلك تدير شركة W وزواجك من يوجين كان لهذا السبب.”
شهق جيهان مذهولاً.
كأن روحه خرجت من جسده.
“إذن… كنتُ سأحصل على W؟!”
لم يصدق أذنيه.
وهو لا يعلم أنه في سعيه المحموم لحماية نفسه، حاول اغتيال الرجل الذي أراد منحه مستقبلاً خاصاً به.
انهارت قواه، واسند نفسه على الطاولة، واضطرب صدره حتى كاد ينفجر.
تمزق داخله صوت صامت:
“لماذا ارتكبت كل هذا؟ من أجل ماذا؟!”
كل جريمة اقترفها بدت له الآن كسكين يغوص في لحمه.
تمتم بصوت خافت، يحدّق في يديه المرتعشتين:
“لقد كنتُ من حطمت نفسي بيدي…”
كان هذا السقوط المريع أشد إيلاماً من كل ما مرّ به: أشد من فسخ خطوبته مع يوجين وزواجها من جايها، وأشد من خيبة مشروع إنتيك.
أشد حتى من الفشل والهزيمة.
لقد كان شعوراً خانقاً بالعار والاشمئزاز من نفسه.
وعندها فقط، أدرك جيهان أن كل شيء قد انتهى.
رنّ صوت الحارس:
“انتهى وقت المقابلة.”
نهض موجين، فيما ظل جيهان خافض رأسه، جسده كله يرتجف.
وبينما استدار موجين للمغادرة، دوّى صراخ جيهان من خلفه، نحيباً مريراً يتفجر من أعماق صدره.
***
منذ الصباح الباكر، أخذني جايها قائلاً إن هناك مكاناً علينا الذهاب إليه معاً.
كانت السيارة محمّلة بالأمتعة حتى امتلأت، فبادرت بسؤاله:
“إلى أين سنذهب؟”
ابتسم مجيباً:
“في رحلة.”
لكن حين وصلنا، كان المكان مألوفاً جداً بالنسبة لي.
لقد كان قصر بيونغتشانغ-دونغ المعروف جيداً لدي.
هل يُعقل أن يكون هذا هو المقصود بالرحلة؟
رفعت بصري إليه بوجه يملؤه الارتباك، فإذا به يبتسم لي.
“والدي طلب أن يراك للحظة سنتحدث قليلاً ثم نغادر.”
.
.
.
لم يكن نائب الرئيس (والده) داخل القصر كما توقعت، بل كان جالساً في شرفة الحديقة.
ويبدو أنه لم يتوقع مجيئي مع جايها، إذ ارتسمت على وجهه علامات الدهشة.
قال بنبرة عادية:
“لو كنت أعلم أن يوجين ستأتي معك لقلت لك اجلسي.”
ثم أضاف:
“أما الرئيس فقد خرج في زيارة قصيرة.”
حينها فقط توقفت عيناي عن التمشيط القلق للمكان
كنت قد تساءلت في نفسي عن غيابه، واتضح أنه خرج لبعض الوقت.
وبعد لحظة، عاد نائب الرئيس إلى ملامحه المعتادة الجامدة وكأن شيئاً لم يكن.
قال جايها:
“نحن نريد فقط الاستماع إلى ما لديك لتقوّله ثم نغادر مباشرة سنقضي عطلة نهاية الأسبوع في مكان هادئ.”
ابتسم نائب الرئيس قليلاً وقال:
“حقاً… لقد مررتما بالكثير من المتاعب استريحا جيداً.”
كان واضحاً أنه قد سمع من الرئيس عمّا حدث مؤخراً.
وكانت تلك أدفأ كلمة سمعتها منه على الإطلاق، هو الذي لم يكن معتاداً على اللطف.
فقلت بصدق:
“شكراً لك ، أبي.”
ارتسمت على وجهه ابتسامة مترددة عوضاً عن جواب مباشر.
لكن رغم ذلك، بدا راضياً عن اللقب الجديد الذي ناديته به.
لطالما حملت صورة نمطية عنه: أنه انتهازي يمكن أن ينقلب في أي لحظة حيثما مالت الكفة.
حتى إنني كنت مترددة في أن نخبره بمخطط الرئيس وجايها.
فهو من أكثر من قد يستفيد من غياب الرئيس سو، ولا شك أنه يطمع بمنصب الزعامة أكثر من أي أحد.
لذا كنت أخشى أن ينحرف عن المسار الصحيح.
لكن بعد أن عرف الحقيقة، أبدى قدراً من العقلانية والهدوء فاق توقعي.
سأل بجدية:
“ما الذي تريدان مني أن أفعله؟”
كنت أتوقع منه غضباً عارماً، لكن كلماته خرجت رصينة وهادئة.
حتى إنني بدأت أشك أنني ربما ظلمته بسوء ظني.
ثم أردف موجهاً إليّ النظر:
“وماذا عن W؟ ما رأيك يا يوجين؟”
شعرت بلمسة خفيفة على يدي أيقظتني من شرودي، فرفعت بصري فرأيت نظراتهما معاً مسلطة عليّ.
همس لي جايها وكأنه يذكّرني:
“سألك ماذا تنوين أن تفعلي بشأن W.”
فأجبت بثبات:
“أفكر بتعيين مدير تنفيذي محترف لقد أخبرت العم هيونيك بنيّتي هذه بالفعل.”
تردد نائب الرئيس:
“مدير تنفيذي محترف؟”
ثم رمقني بعينيه بالتناوب، وكأن لسان يقول: “ولماذا كل هذا العناء بوجود جايها؟”
حتى جايها نفسه بدا متفاجئاً من ردي.
تابعت قائلة:
“نعم على كل حال، جايها سيتولى إدارة شركة هوجين.”
كنت قد سمعت تلميحات عن صفقة بين الرئيس وجايها.
فبعد أن انكشفت قضية جيهان والسيدة أوه، تكبّدت شركة هوجين خسائر كبيرة.
ومع ذلك، وقف الرئيس إلى جانب جايها، مقابل ثمن كبير بالتأكيد.
ثم إن من المستحيل أن يدير جايها مجموعتين في آن واحد.
وإذا كان لا بد من الاختيار، فالطبيعي أن يتخلى عن W.
فالغاية الكبرى له منذ البداية كانت استعادة شركة هوجين.
شعرت بنظرات جايها المتفحصة لي، وكأنه لم يتوقع أن أعلن هذا القرار أمامه مباشرة.
تدخل نائب الرئيس قائلاً:
“إذن لم يُحسَم الأمر بعد.”
ابتسم ابتسامة غامضة وقد التقط الخيط من التوتر الذي دار بيننا.
ثم التفت إلى جايها قائلاً:
“على كل حال… سبب دعوتك اليوم أن لديّ أمراً أريد التحدث به معك.”
وبينما كان يحدق بي ويعبث بذقنه بتردد، فهمت أنه يريد محادثة لا يجب أن أسمعها.
فابتسمت بلطف ووقفت.
“سأخرج لأتمشى قليلاً تحدثا براحتكما.”
رمقني جايها بنظراته الحادة، لكنني تجاهلتها واستدرت بهدوء.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
التعليقات لهذا الفصل " 114"