كنتُ أظن أن الليل سيكون ملاذي، أن تغطيني ظلاله فتُسكت الضجيج في رأسي… لكنني كنت مخطئة. كلما أغمضت عينيّ، عادت كلماته تتردد كطعنة جديدة: “السم… القلادة… أحدٌ من بلاطي هو من خانكِ يا أوفيليا.”
تنهيدة ثقيلة خرجت من صدري وأنا أستلقي على السرير، أحدّق في سقف الغرفة وكأنني أبحث بين نقوشه عن جوابٍ ما. منذ أيام ونحن، أنا وسيلينا، نحاول ربط الخيوط التي بعثرها القدر أمامنا. التاجر ميرون أعطانا أول إشارة… الغراب، رجل من البلاط. ثم جاءت كلمات أوريان في المكتبة لتثقل قلبي أكثر: “الخائن أقرب إليكِ مما تظنين.”
لكن من؟
من يجرؤ على خيانة دمي ومملكتي؟
طرقات خفيفة أيقظتني من شرودي.
“أميرة…؟” جاء صوت سيلينا هامسًا من وراء الباب.
سحبتُ الرداء الحريري على عجل، وفتحت لها. كانت تحمل في يديها سلة صغيرة تفوح منها رائحة خبزٍ طازج. ابتسامة دافئة ارتسمت على وجهها رغم الهالات السوداء التي بدأت تظهر تحت عينيها بسبب السهر.
دخلت بخفة، وأغلقت الباب وراءها، ثم وضعت السلة على الطاولة.
“لم أستطع النوم… فقلت لعلّك لم تنامي أيضًا.”
ابتسمتُ نصف ابتسامة، وجلست إلى الطاولة. “وكأن النوم أصبح حليفنا هذه الأيام.”
“كنت أفكر، يا سيدتي… إن كان ما قاله أوريان صحيحًا، فذلك يعني أن الخيانة لا تأتي من بعيد. يجب أن ننظر حولنا، هنا في القصر نفسه.”
تشنجت أصابعي حول طرف الرداء، وسرت في جسدي قشعريرة باردة. “أتعنين أن من خانني… يجلس إلى موائد البلاط؟ أنني ربما أراه كل يوم؟”
أومأت برأسها ببطء. “لهذا… سمعتُ شيئًا قد يكون مهمًا. هناك سيدة تُدعى إليرا. ليست من علية القوم حقًا، لكنها تتقرب منهم دومًا. كثيرون يهمسون أن يدها تصل حيث لا تصل أيادٍ أخرى.”
إليرا. الاسم وحده كان كشرارة أشعلت في داخلي الحذر. لم أسمع بها من قبل، لكن الطريقة التي نطقت بها سيلينا، المزيج بين التردد والريبة، جعلت قلبي يضرب أسرع.
سألتها بصوت منخفض: “وما علاقتها بما نبحث عنه؟”
اقتربت مني وكأنها تخشى أن تسمع الجدران كلماتها. “يقولون إنها على صلة ببعض التجار في الخفاء… وأنها تدخل وتخرج من القصر بلا أسئلة كثيرة. إذا كان هناك من مرّر شيئًا إلى التاجر ميرون… فهي قد تكون الخيط الذي نبحث عنه.”
صمتُّ لحظة، وأنا أحاول أن أوازن بين العقل والقلب. شيء في داخلي كان يقول إن الأمر قد يكون مجرد وهم آخر، طريق مسدود جديد. لكن… لم أعد أملك رفاهية التردد.
في اليوم التالي، كان القصر يضج بالحركة كخلية نحل. أصوات الحراس تتردد في الممرات، رائحة الورود تعبق من الأروقة المؤدية إلى القاعات الكبرى، لكن كل ذلك لم يبدد ثقل قلبي. كنت أرتدي قناع البرود المعتاد، أسير بين الناس كأني جزء من لوحة لا حياة فيها.
سيلينا لحقت بي بخفة، كظل لا ينفصل. كان علينا أن نبدو طبيعيتين، مجرد سيدة تصحب خادمتها.
حين وصلنا إلى الرواق الطويل المؤدي إلى قاعة الاستقبال، رأيتها.
إليرا.
امرأة في منتصف الثلاثينيات، ترتدي ثوبًا أزرق داكنًا مرصعًا بخيوط فضية، شعرها الأسود المصفف بعناية ينساب على كتفيها، وابتسامة لا تخلو من تكلف تزين وجهها. كانت محاطة بثلاث سيدات أصغر منها، يضحكن لكل كلمة تقولها، وكأنها شمسٌ تدور الكواكب حولها.
همست سيلينا بجانبي: “إنها هي.”
أجبرت نفسي على الثبات. “فلنقترب إذن.”
اقتربنا بخطوات واثقة، واصطنعتُ اهتمامًا بزهورٍ على الطاولة القريبة منها، حتى التفتت إليرا إلينا بعينيها الرماديتين اللامعتين. للحظة، شعرتُ أنها تقرأ أفكاري.
“آه… الأميرة أوفيليا.” نطقت اسمي ببطء، كما لو تتذوقه. “شرف كبير أن أراكِ هنا بيننا.”
ابتسمتُ ببرود. “القصر مليء بالوجوه الجديدة عليّ… من الطبيعي أن أتعرف إليكم.”
ضحكت ضحكة خفيفة، وضعت يديها المزدانة بالخواتم على صدرها. “إليرا… لستُ سوى امرأة متواضعة تسعى لخدمة البلاط بما تستطيع.”
كذبة. رأيتها تتسرب من عينيها. لكني ابتلعت شكوكي، وأجبت بهدوء: “خدمة البلاط شرف كبير بلا شك.”
دار بيننا حوار قصير عن توافه القصر، عن الولائم القادمة وأزياء الحاشية. كلماتها كانت عذبة كالعسل، لكن تحتها مرارة لم يستطع قلبي تجاهلها.
حين ابتعدنا، كان قلبي يطرق أضلعي بقوة. التفتُّ إلى سيلينا، فوجدت وجهها متجهمًا.
“هل لاحظتِ؟” سألتها.
أومأت بسرعة. “عينان تلمعان كمن يخفي أكثر مما يقول. إنها ليست بريئة، يا سيدتي.”
عضضت على شفتي، وأنا أفكر. ربما هي الخيط التالي… وربما ليست سوى قناع جديد يخفي وجها آخر.
في تلك الليلة، جلستُ إلى نافذتي، أرقب السماء المرصعة بالنجوم، بينما كلمات إليرا تدور في رأسي. كان شيءٌ في ابتسامتها، في نبرتها، يوحي بأن لها يدًا فيما حدث. لكن صوتًا آخر في داخلي، أكثر عمقًا وأشد إيلامًا، همس لي: “الحقيقة ليست هنا بعد… الأفعى الحقيقية لم تكشف عن أنيابها.”
وضعت يدي على صدري، حيث فراغ القلادة ما زال يثقلني.
“سأكشفكم جميعًا… واحدًا واحدًا.”
لكن ما لم أكن أعلمه تلك الليلة… هو أن خطواتي نحو الحقيقة ستقودني أقرب فأقرب إلى مارتينا.
في اليوم التالي، كان الصباح قد أطلّ على القصر ببرودة خفيفة، لكن قلبي ظلّ يضطرب. شعرت وكأن كل حجر وكل نافذة يهمس باسمه، باسمه الذي لم يُذكر بعد، لكنه يقترب منّي شيئًا فشيئًا.
جلستُ مع سيلينا في إحدى الغرف المنخفضة، نخطط بحذر لمراقبة إليرا.
– “أوفيليا… علينا أن نكون حذرتين. كل كلمة، كل حركة، يمكن أن تكشف شيئًا.”
أومأت برأسي، أحاول أن أتمالك نفسي.
– “أعرف… لا أريد أن أفقد السيطرة هذه المرة. أريد أن أعرف من هو وراء كل هذا.”
تبادلنا النظرات، وبدأنا برسم خطة دقيقة. سيلينا سألتني:
– “هل تظنين أنها تعمل بمفردها، أم أن هناك من يحركها من الخلف؟”
تنهدت وأجبت بصوت منخفض:
– “لا أحد يعمل بمفرده في البلاط… دائمًا هناك من يقود الخيوط من بعيد.”
خرجنا إلى الممرات، وأنا أراقب كل حركة، كل ابتسامة، كل كلمة تُقال من قبل إليرا. كانت تتصرف بثقة، تضحك وتحادث السيدات، لكنها تتفقد كل زاوية، كل باب، وكأن القصر كله مرآة لها.
أخذت سيلينا مكانها خلفي مباشرة، تحسب كل خطوة.
– “أرى ما تقصدين، يا سيدتي… كل تصرفاتها محسوب، لكن هناك شيء أكثر.”
– “ما هو؟”
– “نبرة صوتها، طريقة نظرها… هناك خوف خفي، كما لو أنها تخشى شيئًا لم نره بعد.”
صمتتُ، أمعن النظر فيها. شعرت برعشة باردة، شيء ما في داخلي يصرخ: هناك من يستخدمها… هناك من يختبئ وراء هذه الابتسامة.
جلسنا في ركن بعيد من القاعة، أراقب إليرا وهي تمر بالقرب من أحد الحراس. لاحظت تلميحات صغيرة: حركة خفية من إصبعها، نظرة خاطفة للأعلى، همسة قصيرة لم أستطع سماعها لكنها كانت واضحة في لغة جسدها.
– “لاحظتِ الطريقة التي همست بها للحارس؟” قالت سيلينا بصوت خافت، وكأن أي صوت يمكن أن يسمعه أحدهم.
– “نعم…” هممت، أشعر ببرودة تسري في عروقي. “لكن هذا لا يكشف شيئًا بعد. قد يكون مجرد ترتيب عادي داخل البلاط.”
أغمضت عينيّ للحظة، وأحاول تهدئة قلبي. لكن شيءً ما، شعور داخلي، كان يصرخ بأن ما نراه ليس سوى السطح. هناك من يقف خلف كل حركة، من يدير الأمور من الخفاء.
– “أعتقد أن هناك من يوجهها…” قالت سيلينا، تهمس لي وكأنها تكشف سرًّا كبيرًا. “من ليس هنا جسديًا… لكنه يملك القوة للتأثير على كل ما يحدث.”
تذكرت كلمات أوريان والغراب، وابتلع قلبي الخوف.
– هل يكون هذا الشخص قريبًا مني حقًا؟
بدأت أسجل كل تفصيل في ذهني: خطواتها، الطريقة التي تتحدث بها مع الآخرين، كل حركة تجعل قلبي يضطرب أكثر. كنت أعلم أن كل لحظة مراقبة تقرّبني من الحقيقة… ولكن الحقيقة لم تكن بعد واضحة.
تابعنا مراقبتها طوال اليوم. إليرا لم تكن تعرف أننا نراقبها، لكنها كانت حذرة، تتجنب أي حوار قد يفضح نواياها. مع كل لحظة، كنت أشعر بأن اللعبة أكبر مما توقعنا، وأن كل خطوة نخطوها قد تكشف لنا أكثر مما نحن مستعدون له.
في منتصف النهار، قررت أن نتخذ خطوة أكثر جرأة.
– “علينا أن نعرف من يتعامل معها… من يزودها بالمعلومات أو الأموال.” همست سيلينا.
– “نعم…” أجبت، وأنا أشعر بخفقان قلبي يتسارع. “سنقترب من التاجر ميرون مجددًا، ولكن بطريقة ذكية… لن نفصح عن نوايانا الحقيقية.”
تسللنا خلال الممرات الخلفية للقصر، كل خطوة محسوبة، كل نظرة للوراء تذكرنا بأن أي خطأ قد يكون مكلفًا.
عند التاجر، جلسنا متخفيات. سيلينا فتحت الحديث أولاً، تتحدث عن شائعات بسيطة حول تجارة القلائد والخواتم، بينما أنا كنت أراقب ردات فعله عن كثب.
– “وهل سمعتِ شيئًا عن امرأة اسمها إليرا؟” سألت سيلينا، وكأن السؤال عابر، لكنها كانت تختبر التاجر.
ابتسم ميرون ابتسامة قصيرة، عينه تلمع بخبرة. “إليرا؟ نعم، تأتي أحيانًا، لكنها حذرة… دائمًا تعرف ما تريد، وتعرف كيف تخفيه.”
أخذت نفسًا عميقًا، شعرت بقلبٍ يقفز من مكانه. هذه هي الخيط الأول.
– “ومن يقف خلفها؟” همست لنفسي، أكثر من كونه سؤالًا للتاجر.
أومأ ميرون ببطء، وكأن الإجابة ستكلفه الكثير. “يقول البعض إن هناك من يحرك الأمور من بعيد… أحدًا من البلاط، شخص مقرب من الأميرة… ربما قريب جدًا مما تتصورون.”
تبادلت نظرات مع سيلينا، وبرغبة قوية بدأت تتشكل في داخلي: سأعرف الحقيقة، مهما كان الثمن.
في طريق العودة إلى غرفتنا، كانت سيلينا صامتة، وأنا أمعن النظر في كل تفصيل حولنا. كل حجر، كل نافذة، كل ظل يبدو وكأنه يحمل سرًّا.
جلست في غرفتي بعد العودة، استندت إلى نافذتي، أراقب القصر من الأعلى. الليل جاء بسرعة، والظلال الطويلة للبوابات والجدران تلتف حولي وكأنها تهمس باسمي.جلست سيلينا إلى جانبي.
– “أوفيليا… من الممكن أن يكون الخائن قريبًا جدًا منك… أقرب مما تتصورين.”
صوتها جعل قلبي يتوقف لحظة، شعرت ببرودة تسري في عمودي الفقري. تذكرت كلمات أوريان: الخائن أقرب إليكِ مما تظنين.
– “من؟” همست، كأن مجرد السؤال يمكن أن يكسر قلبي.
– “لا أعلم… لكن هناك دلائل تشير إلى أن شخصًا تعرفينه جيدًا.”
ابتلعتُ ريقي، ورفعت نظري نحو النافذة. ضوء الشمس يخترق الستائر الثقيلة، لكنه لم يضيء شيئًا في داخلي سوى الغموض المتصاعد.
– إذا كان الخائن قريبًا مني… فهل يمكن أن يكون من أحببتهم؟ تساءلت في صمت.
– الخائن قريب… قريب جدًا… لكنه ليس إليرا فقط. همست بعد ذلك لنفسي، أشعر بضغط ثقيل على صدري. هناك من يوجه كل شيء من الخفاء… ومارتينا… لا أستطيع أن أستبعدها بعد.
جلسنا صامتتين، والليل يقترب، وأنا أمعن التفكير في كل لحظة، كل ابتسامة، كل همسة. شعرت بأن شيئًا ما يوشك على الانكشاف، لكنني لم أكن مستعدة بعد لمواجهة الحقيقة كاملة.
ثم تذكرت قلادتي، الفراغ الذي تركه فقدانها، والوعود المكسورة. شعرت بالعزم يتجذر في داخلي:
– سأعرف الحقيقة. مهما كلف الأمر… سأكشف كل خيط، كل سر، وكل خيانة.
سحبت سيلينا بجانبي، وابتسمت ابتسامة واثقة:
– “سنكتشف من الخائن… معًا.”
ابتسمتُ، رغم كل خوف، وقلت:
– “معًا.”
ومع هذه الكلمات، بدأت رحلتنا الحقيقية نحو قلب الخيانة داخل البلاط، دون أن ندرك كم هي معقدة، أو كم ستقربنا من شخصيات لم نتوقعها أبداً… ومن مارتينا نفسها، التي كانت الخيط الأكثر خطورة، رغم غيابها عن القصر.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 8"