الليل كان أثقل من أي وقت مضى، كأنه يضغط على صدري كلما حاولت أن ألتقط أنفاسي. جلست قرب النافذة المفتوحة، أراقب السماء التي ابتلعتها الغيوم، فلا قمر يضيء ولا نجمة تلمع. كان صمت القصر يشبه السجن، جدرانه شاهقة كأنها أُقيمت لتحبس أنفاسي لا لتؤمّن حياتي.
لم تمضِ ساعات طويلة منذ أن غادرت المكتبة… ووجه داريوس لا يزال يطاردني. عينيه الغامضتين، كلماته التي حملت نصف حقائق ونصف أكاذيب. هل كان يعرف شيئًا عن القلادة؟ أم أنه يتعمد إثارة شكوكي كي أبتعد عن الطريق الصحيح؟
طرقات خفيفة على الباب أيقظتني من شرودي.
– “مولاتي؟”
كان صوت سيلينا، هامسًا لكنه يحمل قلقًا خفيًا. سمحتُ لها بالدخول، ودخلت وهي تحمل بيدها شمعة صغيرة، تضيء وجهها الدافئ الذي صار ملاذًا لي وسط كل هذا الصقيع.
جلست قرب سريري، ووضعت الصينية الصغيرة على الطاولة، ثم نظرت إليّ بعينين فيهما رجاء:
– “أوفيليا… أنتِ لم تتناولي شيئًا منذ عودتنا. لا يمكن أن تواصلي هكذا.”
ابتسمتُ بمرارة، وأجبتها:
– “وكيف لي أن أبتلع لقمة… وأنا أشعر أن السم يحيط بي من كل جانب؟”
سكتت قليلًا، ثم مدّت يدها وربتت على كفي:
– “إذن فلنبتلع الخوف أولًا… قبل الطعام. لقد حصلنا على خيط، صحيح؟ علينا أن نتمسك به. الغراب قد يكون مفتاح الحقيقة.”
أغمضتُ عيني للحظة، ثم تنهدت:
– “لكن الغراب ليس سوى ظل، مجرد اسم. لا يمكننا مطاردته في العدم. نحن بحاجة إلى شيء آخر… خيط ثانٍ يقودنا خطوة أقرب.”
رفعت سيلينا رأسها وقد لمعت عيناها بفكرة:
– “ماذا لو لم يكن الغراب يتعامل مباشرة مع النبلاء؟ ربما استخدم أحد الخدم… أو الحراس. أتعلمين؟ سمعتُ أن هناك رجلاً من إلڤارين، كان حارسًا قديمًا في قصركم، يعيش الآن في ضواحي العاصمة. اسمه أوريان. الناس تقول إنه ترك الخدمة بعد سقوط إلڤارين، لكنه يعرف الكثير من الأسرار.”
فتحتُ عيني باندهاش:
– “أوريان…؟ أهذا صحيح؟”
– “أجل. ليس مؤكدًا… لكننا نستطيع المحاولة. ربما كان مجرد إشاعة… وربما يكون الباب الذي نحتاج أن نطرقه.”
صمتُنا طال، كأن الغرفة كلها كانت تفكر معنا. قلبي كان يخفق بسرعة، بين الخوف والأمل. أن ألتقي بأحد رجال إلڤارين القدامى… هذا يعني أن الماضي سيعود ليحكي.
قلتُ أخيرًا، بحزمٍ يشوبه الارتعاش:
– “إذن سنذهب إليه. سنجد طريقة للخروج مجددًا… لكن هذه المرة علينا أن نكون أكثر حذرًا. لقد شعرتُ أن العيون تراقبنا في المرة السابقة.”
ابتسمت سيلينا ابتسامة صغيرة، كأنها تسخر من الخطر:
– “لا تقلقي. إذا كان القدر سيعثر علينا… فليعثر علينا ونحن نقاتل، لا ونحن ننتظر.”
ضحكتُ رغم كل شيء، ضحكة قصيرة لكنها حقيقية، ثم همست:
– “أحيانًا أشعر أنك أشجع مني يا سيلينا.”
– “ولمَ لا؟ أنا لا أملك ما أخسره… أما أنتِ، فأنتِ تحملين مملكة كاملة في قلبك.”
كلماتها وخزتني بعمق. مملكتي… إلڤارين. كم من الأرواح ماتت لأني لم أستطع إنقاذها؟ وها أنا الآن أقاتل على بقايا الحقيقة، أبحث في الظلال عما قد يبرئ اسمي أو يدينني أكثر.
في اليوم التالي، بدأنا التخطيط.
لم يكن الهروب من القصر مهمة سهلة. الحراس منتشرون في كل ممر، والبوابات مراقبة، والطرقات التي تؤدي للخارج تعرف كل خطوة نخطوها. لكن سيلينا كانت تعرف أسرار الخدم.
– “هناك ممر صغير خلف مطبخ الخدم. يستخدمونه أحيانًا لإدخال البضائع ليلاً كي لا يراها أحد. يمكننا أن نستعمله. لن يفتشونا إن كنا نبدو كخادمتين.”
نظرت إليها بتردد:
– “وهل تظنين أن التنكر سينطلي عليهم؟”
– “نعم… إذا كنتِ قادرة على إخفاء هيبتكِ يا مولاتي.”
ضحكتُ بمرارة:
– “هيبتي؟ لقد أذلّني القدر بما فيه الكفاية. لن يكون صعبًا أن أتظاهر بأنني مجرد خادمة.”
وبالفعل، في الليلة الموعودة، ارتدينا ثيابًا بسيطة، وشددنا الوشاح حول وجوهنا. قلبي كان يخفق بعنف مع كل خطوة. كأن الأرض تحت أقدامي كانت تحذرني من العودة.
مررنا من الممر الضيق، ثم عبرنا بوابة جانبية صغيرة. لم يلتفت إلينا أحد، أو ربما تجاهلونا لأنهم اعتادوا على حركة الخدم ليلاً. وعندما لامست قدماي تراب الشارع خارج القصر… شعرت وكأني تحررت للحظة قصيرة من القيود.
سارت سيلينا بجانبي، تهمس:
– “سنذهب إلى الحي الشرقي… حيث يعيش أوريان. لكن يجب أن نتجنب الطرق الرئيسية.”
بعد مسافة طويلة، وصلنا إلى منزل متواضع على أطراف المدينة. بيت خشبي قديم، بلا زينة ولا حراس. لكن النوافذ كانت مضاءة بوهج نار هادئة.
طرقتُ الباب بخفة، وانتظرت. لم يجب أحد. طرقت مرة أخرى، بصوت أوضح. وبعد لحظة، انفتح الباب ببطء، وظهر رجل في منتصف العمر، شعره أشيب ووجهه متجهم.
– “من أنتما؟”
ترددتُ لحظة، ثم قلت بصوتٍ حاولت أن أجعله ثابتًا:
– “أبحث عن رجل كان يومًا حارسًا في إلڤارين… اسمه أوريان.”
تغيرت ملامحه فجأة، كأنه تلقى ضربة في صدره.
– “من قال لكِ هذا؟ ومن أنتما حتى تبحثا عني؟”
تقدمت سيلينا خطوة، وقالت بنبرة هادئة:
– “لسنا عدوك. نحن فقط… نبحث عن الحقيقة. هناك من يحاول أن يلطخ دماء إلڤارين بالسم والخيانة. ونحتاج مساعدتك.”
ظل يحدق فينا لبرهة، ثم أفسح المجال ببطء:
– “ادخلا.”
جلسنا حول موقد صغير يبعث دفئًا في الغرفة. أوريان ظل صامتًا، يراقبني بنظرة غريبة. وأخيرًا قال:
– “وجهك… لم يتغير كثيرًا. أنتِ… الأميرة.”
تجمدت الدمعة في عيني. نعم… لقد عرفني. مهما حاولت أن أتنكر، ملامحي لا تزال تحمل عبق إلڤارين.
– “أوريان… أرجوك. كل ما أريده هو الحقيقة. قلادة ظهرت في السوق… قيل إنها كانت تخص إلڤارين، لكنها سُمّمت… ومن هناك بدأ الشك.”
شد قبضته بقوة، حتى بدت عروقه بارزة:
– “القلادة… أعرفها. كنتُ أحرس الملكة حين قُدمت لها يومًا هدية. لكنها اختفت ليلة السقوط. ومنذ ذلك اليوم… علمتُ أن هناك خيانة.”
قلبي كاد يتوقف. اقتربت منه، أسأل بلهفة:
– “من؟ من الذي أخذها؟”
ارتجف صوته وهو يهمس:
– “لا أستطيع أن أقول الاسم… ليس بعد. لكنه من البلاط… من رجال درافينور أنفسهم. لو تكلمت، سأُقتل قبل أن أصل إلى فراشي.”
مددت يدي إليه برجاء:
– “أوريان… من فضلك. حياة الكثيرين، وذكرياتي، وكرامتي… كلها على المحك. ساعدني.”
نهض واقفًا، وبدأ يتمشى بخطوات متوترة، ثم التفت نحوي:
– “كل ما أستطيع قوله… هو أن الخائن لا يزال قريبًا منك. أقرب مما تظنين. ومن يلاحقك الآن… ليس سوى واحد من أذرعه.”
كلماته نزلت عليّ كالسيف. نظرت إلى سيلينا فرأيت في عينيها نفس الصدمة.
خرجنا من عنده والليل لا يزال يغطي المدينة. خطواتنا كانت سريعة، لكن أفكارنا كانت أثقل من أن تُحمل.
في داخلي، كان الصراع يشتعل: الخائن… من البلاط. من حولي. ربما يبتسم لي الآن في الممرات، ربما يجلس إلى طاولتي غدًا.
همست لنفسي بمرارة، وأنا أشد قبضتي:
– “لن أرتاح… حتى أعرف من طعنني بهذا السم. ولو كان أقرب الناس إليّ.”
الليل كان قد حان بالفعل، والقصر يغرق في صمتٍ يخفي خلفه ألف سرّ. جلست في غرفتي، أراقب ضوء القمر الذي ينكسر بين ستائر النوافذ الثقيلة. لم أعد أستطيع التمييز بين ما هو حقيقي وما هو خوف داخلي يثيره قلبي كلما تحرك أحد في الممرات.
سيلينا جلست بجانبي على الأرض، تراجع خطواتها قليلًا، ثم نظرت إليّ بعينين تنبضان بالقلق:
– “أوفيليا… هل أنت متأكدة أننا نستطيع أن نبدأ؟ ربما من الأفضل أن ننتظر حتى الصباح.”
ابتسمت ابتسامة قصيرة، لكن عينيّ كانتا مشتعلة بعزم لا يهدأ:
– “لا، سيلينا. كل ساعة تمر، وكل حركة غير مراقبة… تزيد الخطر. إذا كان هناك أحد يتربص بنا، فعلينا أن نعرفه الآن.”
همست لنفسي: أشعر به… شعورٌ خفي، كأن شيئًا ما يتحرك خلف الستائر، يراقبني، يختبر صبري.
خرجنا من الغرفة متخفّتين في الظلام، خطواتنا خافتة، لكن قلبي كان كأنه يطرق صدري بقوة. كل زاوية في الممر، كل باب، كان يرسل رسائل تحذيرية. كانت ليانا هناك، في الطرف الآخر من الممر، واقفة بطريقة هادئة، متسمة بالبرود الذي يخفف من وضوح أي شعور فيها، لكنه يزيد من حدة توتري.
– “أوفيليا… انظري إليها…” همست سيلينا، وهي تتنقل خلفي بخفة.
ليانا لم تحرك ساكنًا، لكنها كانت تراقب كل حركة لنا، كل همسة، كل إشارة. شعرت وكأن عينيها تخترقان جسدي، يقرأان أفكاري قبل أن تتشكل.
– لماذا تراقبني بهذا الشكل؟ تساءلت في داخلي. لماذا كل اهتمامها… لمصلحتها أم لأمر آخر؟
حاولت أن أتمالك نفسي، أتنفس ببطء، وأقول بصوت داخلي: ابقِ هادئة، أوفيليا… لا شيء واضح بعد، كل شيء مجرد إحساس.
مرّت دقائق ثقيلة، ثم ابتعدت ليانا عن الممر، لكن شيئًا بدا لي… نظرة خاطفة، لم تكن موجهة إلينا مباشرة، لكنها تركت أثرًا في قلبي.
جلست سيلينا وأنا خلف عمود في الظلام، نتبادل نظرات مختلطة بين القلق والحذر.
– “أوفيليا… ما رأيك؟ هل هي مجرد امرأة فضولية أم أكثر من ذلك؟”
– “لا أعلم… لكن كل شيء حولها يبدو محسوبًا… مثل الشطرنج، كل خطوة محسوبة.”
بدأنا بمحاولة جمع المعلومات، مراقبتها في كل لقاء مع المقربين من البلاط. كل كلمة كانت تبدو بريئة، كل حركة كانت طبيعية، لكنها كانت تتوافق مع تفاصيل صغيرة لاحظتها من قبل، أمور لا يمكن تجاهلها.
ومع الوقت، بدأ شيء ما يتضح… ملاحظات، تلميحات، كأنها تشبه بعض التفاصيل التي لاحظتها عن مارتينا.
تذكرت كل مرة كانت فيها مارتينا متوترة، تلمس قلادتي أو تنظر إليّ بعينين تخفيان شيئًا. كل كلمة كانت تقولها في الماضي، كل إيماءة… بدأت تتجمع في رأسي كلوحة فسيفسائية، لكنها لم تكتمل بعد.
جلست في غرفتي بعد العودة، أغمضت عيني، والصداع يضغط على رأسي:
– هل يمكن أن تكون مارتينا…؟
صرخت بداخلي، لا بصوت مسموع، بل صرخة قلبية مليئة بالخوف والخيانة المحتملة. شعرت بأن العالم كله بدأ ينهار حولي، وأن كل من أحببتهم قد يخونني.
سيلينا جلست بجانبي، لا تقول شيئًا، لكنها أمسكت يدي بحنان:
– “أوفيليا… مهما حدث، لن تكوني وحدك. سنكتشف الحقيقة معًا.”
نظرت إليها بعينين دامعتين:
– “لكن إذا كانت مارتينا… كيف سأواجهها؟ كيف سأكسر قلبي بهذه الطريقة؟”
صمتنا طويل، فقط أصوات القصر الليلي تتسلل بين الجدران. كل خفقة قلب كانت تذكرني بأن اللعبة بدأت للتو، وأن الظلّ الأكبر لم يظهر بعد.
ثم وقفت، وأنا أشد قبضة يدي:
– لن أدع أحدًا يلهو بحياتي، ولن أدع القصر يخفي الأسرار عني. سأعرف الحقيقة مهما كلف الأمر… حتى لو كانت قريبة مني أكثر مما أتوقع.
سيلينا لم تقل شيئًا، لكنها ابتسمت، وابتسامتها كانت وعدًا بأننا سنمضي قدمًا، معًا، في هذا الطريق المظلم.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 7"