لم يكن النوم ضيفًا على جفوني في تلك الليلة أيضًا، لكن هذه المرة السبب لم يكن دموعي ولا خوف الناس من حولي… بل كان شيئًا آخر: فكرة. فكرة لم تتركني منذ لحظة مواجهة فريدريك، منذ أن اتهمني صراحةً بأنني السبب في موت والدته، وأن القلادة التي أهداها لي يومًا ما هي الدليل على خيانتي.
كيف وصلت القلادة إلى يد القتلة؟
ولماذا اتهموني بالسم؟
ومن المستفيد من كل هذا؟
أسئلة ظلت تتردد في رأسي كالمطارق، ولم أجد لها جوابًا.
كنت جالسة قرب النافذة، أراقب القمر المتسلل من بين الغيوم. الهواء الليلي كان بارداً، لكن داخلي كان يغلي. أمسكت بردائي حول كتفيّ وهمست لنفسي:
“لا يمكن أن أظل هكذا… ضحية الاتهامات، سجينة في قصر ليس قصري، تحت رحمة رجلٍ لا يراني إلا خائنة. عليّ أن أعرف الحقيقة… حتى لو دفعت حياتي ثمنًا لها.”
طرقٌ خفيف أيقظني من شرودي. لم أحتج أن أسأل من الطارق… كان طرق سيلينا مميزًا، فيه تردد وحياء، كأنها لا تريد أن تقتحم عالمي رغماً عني.
“تفضّلي.” قلت بهدوء.
دخلت سيلينا تحمل مصباحًا صغيرًا وكوبًا من الحليب الساخن، وقالت بابتسامة خفيفة:
“لم أركِ تغادرين الغرفة اليوم… خشيت أن تظلي بلا طعام مجددًا. فأحضرت لكِ هذا على الأقل.”
أخذت الكوب منها، وشكرتها بصوت منخفض. جلست على الكرسي المقابل لي وسألت:
“أخبريني بصدق، يا سيلينا… هل كنتِ تعتقدين، ولو للحظة، أنني قد أكون سببًا في موت الإمبراطورة؟”
ارتبكت، وعيناها اتسعتا بدهشة:
“ماذا؟! بالطبع لا، يا سمو الأميرة! حتى لو قال الأمير ما قال… أنا أنظر في عينيكِ وأرى شيئًا مختلفًا. لا يمكن لامرأة بعينيكِ أن تحمل دمًا على يديها.”
كلماتها اخترقتني. شعرت بارتجاف في أصابعي وأنا أمسح حافة الكوب.
“لكنهم وجدوا القلادة، سيلينا. قلادتي التي لم تكن بيدي منذ سنين… قال فريدريك إنها كانت مع القتلة كثمن.”
أطرقت سيلينا رأسها للحظة ثم قالت:
“أحيانًا… ما يُرى بالعين ليس الحقيقة الكاملة. ربما سُرقت منكِ. ربما وُضعت كطُعم. لا تنسي أن هناك من يستفيد من أن يظن الأمير بكِ السوء.”
صمتّ. كلماتها كانت كالماء البارد على نار داخلي، لكنها لم تطفئها، بل جعلتها أكثر شراسة.
نظرت إليها بحدة:
“هل تعتقدين أن هناك من دبّر هذا الأمر؟”
أومأت سيلينا ببطء:
“أنا لا أملك أدلة… لكنني خادمة، وقد تعلمت أن ألاحظ ما بين السطور. في القصر هنا، ليس كل ما يُقال هو الحقيقة. هناك عيون تراقب، وألسنة تهمس. ربما لو انتبهنا… سنجد من يقف خلف هذه المؤامرة.”
ارتجف قلبي. ربما هي محقة.
وضعت الكوب جانبًا وقلت بحزم:
“إذن سأبدأ بالبحث. لا أستطيع أن أظل رهينة الأكاذيب. أريد أن أعرف من سرق القلادة، ومن دس السم… أريد أن أعرف من دمّر حياتي وحياة فريدريك.”
رفعت سيلينا عينيها نحوي بدهشة وخوف:
“لكن هذا خطير، يا أوفيليا! إن علم الأمير أنكِ تبحثين في هذه الأمور، فقد يغضب… بل قد يظن أنكِ تحاولين التلاعب به!”
تنهدت، ثم ابتسمت بمرارة:
“فليظن ما يشاء. هو بالفعل يراني متهمة، فلماذا أخاف من الحقيقة؟ على الأقل… سأعرف من أناحقًا.”
“إذا كنتِ جادة… فأنا معكِ. قد أكون خادمة بسيطة، لكن لديّ أذنان تسمعان الكثير، وعينان ترصدان ما لا يلاحظه الآخرون.”
تسمرت مكاني. شعرت بشيء يتحرك في صدري، شيء يشبه الأمل. لستُ وحدي بعد الآن.
وضعت يدي على يدها وقلت بامتنان:
“شكراً، سيلينا… لم أكن أعلم أنني أحتاجكِ إلى هذا الحد.”
ابتسمت بخجل:
“وهل هناك أجمل من أن يجد المرء شخصاً يصدّقه حين يكذّبه العالم كله؟”
في اليوم التالي، خرجتُ برفقة سيلينا إلى الحديقة الخلفية للقصر، بعيدًا عن أعين الحراس الفضوليين. كانت أشجار السرو تصطف كجنود صامتين، ونسيم خفيف يحرّك الأغصان. هناك، شعرت أنني أستطيع أن أتنفس بحرية أكبر.
قلت لها وأنا أنظر إلى السماء:
“أريد أن أبدأ من البداية… من القلادة. آخر مرة كانت بحوزتي، كنت في الرابعة عشرة. ضاعت مني ليلة الهجوم على إلڤارين… لم أرها منذ ذلك اليوم.”
أجابت سيلينا:
“إذن، إن عرفنا كيف وصلت إلى أيدي القتلة… قد نعرف من يقف خلف الأمر.”
أومأت:
“لكن كيف؟ القتلة ماتوا جميعًا أو اختفوا. وكل ما تبقى هي كلماتهم التي استند إليها فريدريك.”
ابتسمت سيلينا ابتسامة خفيفة:
“في القصر هنا، هناك من يعرف أكثر مما يظن الأمير. التجار الذين يتعاملون مع البلاط… بعضهم سمع عن تلك القلادة قبل سنوات. ربما لو سألنا بحذر…”
قطعت حديثها حين سمعنا وقع أقدام. التفتنا سريعًا، لكن لم يكن سوى بستاني عجوز يحمل أدواته. ابتسم لنا وقال بتحية سريعة ثم مضى. ومع ذلك، شعرت بتوتر يسري في جسدي.
همست لها:
“علينا أن نكون حذرين. لا يمكن أن نثق بأي أحد.”
في الليل، عدت إلى غرفتي. كان القمر ينعكس على زجاج النافذة، ورحت أحدق فيه. لكن هذه المرة لم يكن مجرد تأمل… كان عهداً.
“يا أمي… يا أبي… إن كنتم تسمعونني، فاعلموا أنني لن أستسلم. لن أدع اسمنا يلطخه كذبهم. لن أبقى سجينة بين الجدران، سأعرف من دمّر حياتنا.”
أغمضت عيني، ورأيت وجه فريدريك. رأيته كما كان في طفولتنا… ذلك الصبي الذي أعطاني القلادة بيديه المرتجفتين وقال:
“احتفظي بها، فهي جزء مني.”
شعرت بدموعي تحرق وجنتي.
“فريدريك… لو كنتَ تعلم أنني بريئة… هل كنتَ ستنظر إليّ كما في الماضي؟”
لكنني هززت رأسي بعناد.
“لا… ليس الوقت للبكاء. الوقت للبحث عن الحقيقة.”
في اليوم التالي، أخبرتني سيلينا وهي تدخل بابتسامة صغيرة:
“سمعت شيئًا الليلة الماضية… أحد الخدم قال إن تاجرًا يدعى (ميرون) كان يتفاخر منذ سنوات بأنه رأى قلادة غريبة بيد رجل مشبوه. ربما يكون هذا خيطًا.”
تسارعت أنفاسي.
“وأين أجد هذا التاجر؟”
قالت:
“لديه متجر صغير في السوق الجانبي للمدينة القديمة. لكن الذهاب إليه وحدكِ مستحيل… يجب أن نتصرف بحذر. ربما يمكننا التسلل في زيّ بسيط، بعيدًا عن الحرس.”
لم أصدق أن الخيط الأول جاء بهذه السرعة. شعرت بقلبي يخفق بقوة، بين الخوف والحماس.
“هذا قد يكون البداية… بداية الحقيقة.”
هكذا بدأ الطريق أمامي يتضح… طريق محفوف بالمخاطر، لكنه الطريق الوحيد للخلاص. ومع سيلينا إلى جانبي، لماعد مجرد سجينة أو ضحية… بل امرأة قررت أن تكشف الظلام الذي ابتلع حياتها.
حل الليل، الظلام كان يغطي القصر كستارٍ ثقيل، يخنق كل زاوية وكل ممر. جلستُ على حافة سريري، أرقب سيلينا وهي تحرك دفاتر صغيرة وخرائط قديمة للقصر على الطاولة. ضوء الشموع المائل على الجدران لم يكن كافيًا، لكنه كافٍ لرؤية ملامح وجهها المشدود، العيون التي لم تعرف النوم كما أنا لم أعرفه.
“علينا أن نعرف كل شيء عن نوبات الحرس…” قالت سيلينا، وهمست كما لو كان أي صوت أعلى من ذلك سيكشف أمرنا. “أي حركة خاطئة… حتى ضحكة أو نفس مرتفع، قد تكشفنا.”
أومأت برأسي، أحاول أن أبدو هادئة، رغم أن قلبي ينبض بسرعة لا تهدأ.
“لماذا أنا خائفة هكذا؟” تساءلت في داخلي. “كنت دائمًا أقوى من هذا… أليس كذلك؟”
سحبت نفسي إلى الوراء، أغمضت عيني، وحاولت أن أهدئ أنفاسي. لكن كل أصوات القصر – الصمت، صرير الأبواب البعيدة، خطوات الحرس المتقطعة – كانت تزيد خوفي.
“أوفيليا… هل أنتِ بخير؟” سئلت سيلينا. كانت بصوت هادئ، لكنه يفيض بالقلق.
“أه… نعم… فقط أعد نفسك للخطة.”
أحاول أن أصطنع البرود، لكن داخلي كان يتشنج. لم أستطع إلا أن أراقب يدي، وأنا أشعر بالقلق من كل حركة صغيرة قد تكشفني.
جلسنا على الأرض، ندرس الخريطة بين أيدينا.
“هنا…” أشارت سيلينا إلى ممر مظلم يقود إلى حديقة صغيرة خلف القصر. “إذا ذهبنا من هنا، يمكننا أن نتجنب معظم الحراس. الباب الخلفي قديم، لكنه يؤدي مباشرة إلى الطريق الترابي خارج الأسوار.”
ابتسمت ابتسامة مريرة:
“أشعر وكأنني ألعب على حافة هاوية… حتى لو نجحنا، فإن أي خطأ صغير… كل شيء ينتهي.”
اقتربت الساعة من منتصف الليل. أعدت نفسي في الصمت، راقبت كل شيء حولي. صوت الرياح في الأشجار، خرير الماء في البئر القديمة، كل تفصيل كان يهم.
سحبت الستارة ببطء، أمعنت النظر إلى الخارج. لم أستطع إلا أن أتنفس بعمق وأقول لنفسي:
“هذه فرصتك، أوفيليا. هذه لحظة الحرية… أو السقوط.”
سحبت سيلينا بخفة، وبدأنا السير نحو الممر. خطواتنا كانت خفيفة، كل واحدة محسوبة، كأننا نرقص على حافة الخطر.
“تذكري… أي صوت أعلى… أي ضوء خاطئ… يمكن أن يكون كارثيًا.” همست سيلينا، وهي تشد على يدي.
أومأت، شعرت بحرارة يديها في يدي، شعور لم أعرفه منذ أيام طويلة: شعور بالدعم والأمان رغم الظلام الذي يحيط بنا.
بينما نسلك الممر الخلفي، شعرت بأن قلبي سينفجر من الرعب والخوف. كل ظل كان يبدو كجنديٍ يراقبنا، كل صرير خشب كأنه تنبيه بأننا اكتشفنا.
سرت فكرة في رأسي:
“ماذا لو اكتشفنا؟ ماذا لو… عادوا وأمسكوا بي قبل أن أبدأ رحلتي للتحقيق؟”
لكن سيلينا همست، كأنها قرأت أفكاري:
“لا تنظري إلى الوراء… فقط إلى الأمام. لا تقلقي، أنا هنا.”
أخذت نفسًا عميقًا، ثم ركزت على خطواتي. كل خطوة تقربنا من الحرية، وكل خطوة تزيد من التوتر.
وصلنا أخيرًا إلى الباب الخلفي، القديم والمتهالك قليلاً. كان الباب صلبًا، لكنه بدا كأملٍ صغير، طريقنا إلى الخارج.
“هل أنتِ جاهزة؟” سألت سيلينا.
أومأت برأسي، شعور بالرهبة والخوف يغمرني. قلبي كان يدق بسرعة لا تصدق.
“هيا…” همست لنفسي.
فتحت الباب ببطء، ودخلنا الظل الذي خلفه الطريق الترابي. كل شيء كان هادئًا… لوهلة شعرت بأنني أستطيع التنفس بحرية.
لكن لم ينقطع قلقي. شعرت بعينين تراقبان كل حركة. كان الظلام يخفي كل شيء، لكنه لم يكن حجب الحقيقة. كل خطوة، كل حركة، كانت محفوفة بالخطر.
ومع ذلك، للمرة الأولى منذ أسابيع، شعرت بلمحة من الحرية. شعور بأنني أملك شيئًا مني، شيئًا لم يستطع أحد أن يسلبه مني بعد الآن.
سحبت سيلينا بجانبي، همست:
“لقد نجحنا… تقريبًا.”
ابتسمت رغم الرهبة:
“نعم… تقريبًا.”
ظلّت أصوات القصر تتلاشى خلفنا، بينما الطريق أمامنا مظلم وطويل. لكن شعرت بأن هذه المرة، كل خطوة أخطوها لن تكون بلا هدف. كل خطوة كانت بداية بحثي عن الحقيقة… عن السم، عن القلادة، وعن كل شيء أُخذ مني منذ سنوات.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات