لم أنم تلك الليلة… كنت أستيقظ مع كل وخزة في قلبي، مع كل صورة من وجوه الناس وهم يرمون عليّ الحجارة ويقذفونني بالشتائم. كلماتهم كانت أكثر إيلاماً من الطوب نفسه، كلمات حفرت في داخلي جرحاً لا يندمل:
“أنتِ خائنة… أنتِ عروس الموت… أنتِ سبب الخراب.”
تدحرجت الدموع على وجنتي في الظلام، لكني مسحتها بسرعة وكأنني أخجل من أن يراني الليل ضعيفة. ورغم التعب الذي أرهق جسدي، بقي عقلي يقاوم النوم، يحاصرني بأسئلة لا نهاية لها:
هل أخطأت عندما نزلت إلى الناس؟
هل كان عليّ أن أختبئ خلف جدران القصر مثل سجينة مطيعة؟
أم أن قلبي ما زال يرفض الاستسلام ويبحث عن معنى لحياتي هنا؟
مع أول خيوط الصباح، كنت مستلقية على السرير، أنظر إلى السقف الخشبي البارد وأتمنى لو أن العالم كله يذوب ويختفي. فجأة، جاء طرق خفيف على الباب. جسدي كله ارتجف.
لم أردّ.
لكن الطرق تكرر، وهذه المرّة كان أكثر هدوءاً، وكأن صاحبه لا يريد أن يزعجني.
“تفضّلي…” تمتمت بصوت بالكاد سمعته نفسي.
انفتح الباب ببطء، ودخلت الفتاة الشابة من الامس، تحمل عربة طعام صغيرة، مغطاة بغطاء فضي يلمع مع ضوء الصباح. كانت ترتدي زي الخدم، لكن ما شدّني لم يكن ذلك… بل ابتسامتها. ابتسامة دافئة، خالية من التصنّع، امتدت كأشعة شمس اخترقت جدار قلبي المتجمد.
قالت بنغمة خجولة لكنها لطيفة:
“صباح الخير يا سمو الأميرة… أتمنى أن يكون هذا اليوم أفضل من الأمس.”
ارتبكت. لم أكن أريد أن أظهر ضعفي أمامها، فرفعت حاجبي بتصنّع وقلت ببرود:
“انتِ مجددا؟ هل أرسلكِ الأمير لتتجسسي عليّ وتنقلي له كل ما أفكر فيه؟”
توقفت الفتاة لوهلة، وعيناها تلمعان بدهشة، ثم وضعت الصينية على الطاولة القريبة وقالت:
“لو كنتُ هنا لأفعل ذلك… لما ابتسمت لكِ هكذا.”
صمتّ. كلماتها بدت صادقة أكثر مما توقعت. لكنني لم أرد الاستسلام بسهولة، فسألتها بنبرة حادة:
“إذن، لماذا أنتِ هنا؟”
اقتربت قليلاً، ثم انحنت باحترام وأجابت:
“أنا هنا… لأجعل حياتكِ أقل وحدة. صدقيني يا سمو الأميرة، لم أُكلَّف بشيء سوى أن أعتني بكِ، وهذا ما أنوي فعله بإخلاص.”
حدقت في عينيها… عيناها لم تهربا من نظري، كان فيهما بريق صدق نادر. للحظة شعرت أنني أريد أن أصدقها، لكن الخوف قيّدني.
“وماذا كان اسمكِ؟” سألتها ببطء،فلم اكن مركزة في الامس جيدا.
ابتسمت من جديد وقالت:
“سيلينا،لا باس ان نسيته،فامس لم يكن سهلا عليكي.”
كررت الاسم في داخلي… سيلينا. بدا وكأنه يحمل معه نسمة خفيفة، لم أعرف إن كانت قادرة حقاً على لمس جراحي.
جلست سيلينا على الكرسي الصغير قرب السرير، وقالت برفق:
“أعرف أنكِ لا تثقين بي الآن… ومن حقكِ أن تشكّي. لكن صدقيني، أنا لستُ هنا لأكون عيناً لأحد. أنا فقط… أرى فيكِ إنسانة تحتاج لمن يسمعها، لا أميرة سجينة.”
انقبض صدري. كلماتها اخترقتني كالسهم. لم يقل أحد هذا لي من قبل… الجميع يناديني الأميرة، الزوجة، الوريثة، لكن لا أحد تجرأ أن يراني إنسانة.
لم أستطع منع دموعي من الانزلاق، فأدرت وجهي بعيداً وهمست:
“لا أريد طعامكِ… ولا اهتمامكِ.”
فقالت بهدوء:
“إذن، دعيني أبقى فقط. لن أزعجكِ. وجودي قد يخفف قليلاً من هذا الصمت الذي يحيط بكِ.”
جلست صامتة… أكره أن أعترف، لكن وجودها بالفعل جعل الغرفة أقل اختناقاً.
وبينما حاولتُ أن أبقي ملامحي متحجرة، كانت روحي ترتجف من الداخل. هل من الممكن أن أجد في هذه الخادمة البسيطة ما لم أجده في كل من حولي؟
لكن سؤالاً ظل يلح عليّ، فالتفت إليها فجأة وسألتها بنبرة حادة:
“هل أنتِ حقاً لا تنقلين أخباري للأمير؟”
وضعت يدها على صدرها وقالت بصدقٍ مؤلم:
“أقسم أنني لا أفعل ذلك… لو أردتُ أن أكذب عليكِ، لما جازفت بهذا السؤال منكِ. أنا هنا من أجلكِ، يا أوفيليا… فقط من أجلكِ.”
تسمرت مكاني. لم ينادني أحد باسمي مجرّداً منذ زمن بعيد… فقط أوفيليا. وكأنها أعادت إليّ شيئاً سرقته الحياة مني.
ارتعشت شفتاي، لكنني قلت بصوت متهدج:
“إذن… ابقي.”
ابتسمت سيلينا، ابتسامة كانت كافية لتدفئ هذا القلب الممزق. وفي تلك اللحظة أدركت أنني، رغم كل شيء، لم أعد وحدي تماماً.
سألت سيلينا بحذر:
“هل يمكنني أن أقول شيئاً، يا أوفيليا؟”
ارتجفت. لقد. كررت اسمي مجددا لم يحدث هذا منذ زمن طويل… فقط أوفيليا. لم أستطع الرد سوى بإيماءة صغيرة.
“أنتِ أقوى مما تظنين.” قالتها وهي تنظر إليّ بجدية. “رأيت عينيكِ الآن… فيهما جرح عميق، نعم، لكن أيضاً… فيهما بريق لم ينطفئ بعد. لا تدعي أحداً يقنعكِ أنكِ مجرد ظل.”
لم أتمالك نفسي. دموعي انطلقت، رغماً عني. غطيت وجهي بيدي، لكن جسدي كان يرتجف. سيلينا لم تقترب كثيراً، لكنها مدت منديلًا نظيفاً ووضعته قرب يدي وقالت بلطف:
“لا بأس… يمكنكِ أن تبكي. على الأقل أمامي.”
لم أجبها. لكن قلبي… بدأ يشعر لأول مرة منذ زمن، أنني لست وحدي تماماً.
ظلّت الغرفة صامتة بعد انهياري، لكن صمتها هذه المرة لم يكن خانقاً… بل مختلفاً، وكأن وجود سيلينا قد بدّد شيئاً من ثقل الجدران.
مسحت دموعي سريعاً، محاوِلة أن أستعيد بعض كبريائي، لكن سيلينا ابتسمت وقالت برفق:
“ليس طعاماً… مجرد شاي. سيساعدك على الاسترخاء، صدقيني.”
ترددت، ثم استسلمت أخيراً. جلست على حافة السرير وأخذت الكوب من يديها. دفء البخار صعد إلى وجهي، وكأن الكوب نفسه كان يحتضنني.
ارتشفت رشفة صغيرة… ثم أغمضت عيني. لم يكن الطعم استثنائياً، لكنه كان أول شيء يدخل فمي منذ أيام.
قالت سيلينا بخفة، محاولة أن تكسر ثقل اللحظة:
“انتصار صغير، أليس كذلك؟”
رفعت حاجبي باستغراب.
ابتسمت هي وأكملت:
“لقد جعلتكِ تشربين شيئاً أخيراً. هذا يعني أنني أقوم بعملي جيداً.”
لم أتمالك نفسي من أنفاسي التي خرجت كضحكة قصيرة… ضحكة خجولة، لكنها حقيقية.
نظرت إليها مطوّلاً، ثم همست:
“أنتِ غريبة… لا أعرف إن كنتِ ساذجة أم شجاعة.”
ضحكت بخفة وهي تهز كتفيها:
“ربما الاثنان معاً.”
لأول مرة منذ زمن بعيد، شعرت بأن جزءاً صغيراً من الجدار الذي بنته حول قلبي قد تصدّع. لم يكن انهياراً كاملاً، لكنّه كان بداية.
قبل أن تغادر، التفتت عند الباب وقالت:
“أنا هنا، يا أوفيليا… سواء أردتِ ذلك أم لا. لن أترككِ وحدكِ في هذه المعركة.”
وبقيت واقفة للحظة، تحدّق بي بابتسامة صافية، ثم غادرت، تاركة خلفها دفئاً لم أتوقعه.
أما أنا… فقد بقيت أنظر إلى الكوب الفارغ بين يدي، وأتنفس بعمق.
للمرة الأولى منذ زمن… لم أشعر بالبرد.
بعد أن غادرت سيلينا، بقيت وحدي في الغرفة.
الهدوء عاد ببطء، لكن لم يكن مجرد صمت… كان صمتاً يثقل على قلبي، يذكّرني بكل شيء حدث. جلست على السرير، أمسكت بالكوب الفارغ بين يدي، وأغمضت عيني محاوِلة أن أرتب أفكاري.
تذكّرت كلمات فريدريك، صوته الثقيل حين ذكر السم، وحين رفع القلادة الفريدة وقال:
“أنا لم أصدق أنكِ من ارسلتي السم ، لكن قلادة طفولتنا … القتلة قالوا لي إنهم أخذوها كثمن…”
تملكني شعور غريب، مزيج من الغضب والحزن، وخوف دفين.
كم كنت غافلة؟ كم فقدت من الوقت وأنا أعيش في وهم؟
فكرت بالوالدة، بالأيام التي عانت فيها، وباليأس الذي اجتاح حياتها… وكل شيء بدا مرتبطاً بذلك اليوم، بتلك القلادة، وبالرسائل التي لم أرسلها.
صرخت في داخلي، لكن هذه المرة لم تكن دموعي السبب… كانت رغبة في كشف كل شيء، رغبة في معرفة الحقيقة كاملة.
قلت لنفسي بصوت هادئ ولكن حازم:
“لن أظل أعيش في الظلال بعد الآن. سأعرف من وراء هذا السم، سأكشف كل الأكاذيب، سأعرف من أراد أن يفرق بيني وبين من أحب، ومن أراد قام بقتل والدتي،والدة فريدريك،اجل فهي امي التي لم تلدني. ولكني لن أترك شيئاً مبهمًا.”
اقتربت من النافذة، ونظرت إلى السماء الصافية.
الرياح كانت تهب بخفة، تحمل معها صدى الماضي، وكأنها تقول لي:
“قوتك ليست في الهروب، بل في المواجهة.”
رفعت يدي إلى قلبي، وشعرت بعزم ينمو داخلي:
“سيلينا معها حق… أحتاج إلى أن أكون قوية من أجل نفسي، ومن أجل كل ما فقدته. لن أسمح للغموض أن يحكم حياتي بعد الآن.”
الهدوء عاد، لكن لم يعد صمتاً قاتلاً. أصبح صمت التفكر، صمت العزم، صمت بداية رحلة جديدة.
جلست على السرير، أغمضت عيني، واستنشقت الهواء بعمق. شعرت لأول مرة منذ زمن بعيد، أن قلبي ليس مجرد جرح… بل شعلة صغيرة تتأجج، مستعدة لتكشف الحقيقة مهما كانت صعبة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات