دخلتُ الغرفة بعد ان خرجت منها بسبب استدعاء رودريك لي لامر حدث فجأة، دخلت وكأني أحمل معي حقيبة من كلماتٍ ثقيلة. جلستُ أمامها، وبدأت أُفصح بصوتٍ منخفضٍ لكنه مُتقَن، أحاول أن أرتب السطور حتى لا تنهار القصة في يدي كما تنهار الجسور حينما يتهدم أساسها:
«بعد شهرٍ من ذلك اليوم، شهرٌ قضيتُهُ أطارد الحقيقة بلا هوادة، وصل إليّ خبر عن التاجر ميرون. كان حلقة الوصل الوحيدة التي ظننتُ أنها قد تحمل مفتاح ما. ذهبت إليه وحيدًا، ضغطت عليه بخطورةٍ لا تترك مجالًا للمناورة، بل هدّدته بالإعدام إن لم يتكلّم. عندها بدأ يسرد لي كل ما قاله لكِ بنفس التفاصيل التي ذكرتِها، لكنّه أضاف شيئًا لم يأتِ في كلامهِ معك: وصفًا دقيقًا لمَن كانوا يُسمّونه ‘الغراب’.»
توقفتُ للحظة، ونظرتُ إلى وجهها.
كانت أوفيليا صامتةً، عيناها تحاولان أن تلتقطا كل تفصيلة، شفتاها مرتعشتان قليلًا؛ ملامحها الآن أكثر حدةً مما أتذكر، وكأن من ليلةٍ لصقتها فيها رياح الحرب قد تبخرت للتو. كانت خديها شاحبتين، لكن في عينيها لمعانٌ لم يخبْ ـ ربما هو الأمل، أو ربما هو الرعب من ما سيُقال بعد قليل.
«عندما سرد لي ميرون مواصفات الغراب، صار في رأسي شيءٌ نبتُ منه وميضٌ — تذكرت تلك المواصفات، لكن لم أستطع تذكّر المكان الذي رأيتُها فيه. سألته عن الحجر — وها هنا كانت الصدمة — أخرج حجرًا من خلف سترته ووضعه أمامي. قال لي: ‘هذا أُحضر إليّ قبل سبعة عشر عامًا، أثناء الحرب، من قبل عائلة الغراب.’ وعندما حاولت أخذ الحجر، أبدى اعتذارًا غريبًا وأخبرني أن الإمبراطور وحاكم الفارين طلبا منه أن يبقيه عنده. تجمدتُ. هل كان أبي يعلم؟ لماذا أخفى عني هذا؟»
توقفتُ ثانية لأرى رد فعلها، لأنّ الكلمة عندما تقع على قلبٍ ما تتركه يهتز:
أوفيليا تلعثمت، عيناها توسعتا على نحوٍ طفولي كأنها لم تتوقع أن يكون والدها جزءًا من الصفحة المخفية من القصة. شفتيها تفتحتا قليلاً كما لو أنها تحاول أن تقول شيئًا، لكن الكلمات لم تخرج. كان على وجهها خليط من الصدمة والحيرة، وكنتُ أرى أن رداءَ الهدوء الذي تحاول أن تَلبَسه لم يعد يفي بالغرض.
نفضتُ عني بعض الصمت، ووضعتُ يدي فوق الطاولة كأنّي أُثبّت الأرض تحت قدميَّ قبل أن أواصل:
«لم أستطع الصمت. عدتُ فورًا إلى القصر وذهبتُ إلى أبي باحثًا عن سبب الإخفاء. طرقتُ باب مكتبه، دخلتُ والبرود يحيط به كما لو أن ثلجًا علا قلبه منذ رحيل أمي؛ سألني باعتباره الإمبراطور لا كأبٍ بعضُ الأسئلة الحادة. قلت له بصراحة: لماذا أخفيت الأمر عني؟ كيف لك أن تحتفظ بحجرٍ كهذا عند تاجرٍ طيلة هذه السنين؟»
رأيت إلى وجهها الآن، أراقب تعابيرها وهي تتابع السرد، أريد أن أرى إن كان قلبي يكسر أحدًا من دفاعاتها:
أوفيليا انحنت قليلًا للأمام، إبهامها يمسح على طرف ورقةٍ كأنها تحاول أن تجد فيها ثغرةَ طمأنينة. شفتيها ارتعشتا، وتبينَ لي أنها تخاطر بالاستمرار رغم كل ما يعتمل بداخلها.
أردفتُ قائلاً بصوتٍ يئنّه ثقل ما رأيت:
«أبي نظر إليّ، ثم إلى الأرض. تنهد، ورمى بعض الأوراق عن يده. طلب مني أن أجلس، ثم بدأ يسرد — ليس مُبررًا بل مُقرًا وموضحًا — أن ما حدث لم يكن مجرد حادثة مُنفصلة. والدينا علِما بوجود مَن يخطط لإشعال الحرب. لقد تبّعوا خيوطًا، حتى وصلوا إلى هذا التاجر، وعندما كشفوا تَورُّطًا، كانت النتيجة أن من وراء الأمر هم عائلة الغراب. لذا… أُعدموا.»
سكتُ قليلًا، أستجمعها في كلامٍ واحدٍ لأنّ كل كلمةٍ كانت تقطع.
ثم نظرتُ مباشرةً إلى عينيها وقلت بصوتٍ مُقيّد بالغضب والذهول معًا: «سألت أبي عن اسم هذا الغراب. قلت له إنني شعرتُ أنني رأيته من قبل. فأمسك أبي أنفاسه، وقال لي: ‘هي مارتينا.’»
توقفتُ مجددًا، لأن الاسم حين يُقال يملأ الهواء بوزنٍ لم يَكن موجودًا قبل لحظة.
أوفيليا تلوّنت ملامحها كأنما لو ضربتها يدٌ باردة. رأيتها تتذكر، تذكرتُ كيف أن لحظاتٍ صغيرةً في البلاط، ابتسامة، حركةٌ طفيفة، يمكن أن تُبحر بالذاكرة إلى أمواجٍ كانت قد هدأت. عيناها امتلأتا بوميضٍ من الحزن بسبب تذكرها لذلك، فمدّ صدرها هواءً عميقًا ثم ارتدّ رأسها للخلف.
أتممتُ حديثي بصوتٍ مُنهك:
«أخبَرَني أيضاً أن والدكِ اقترح أن تُؤتى بها لتكون وصيفةً لكِ، لأنكِ لم يكن لديكِ إخوة، ظنّوا أنها صغيرة ولا تعلم شيئًا. أنا حين سمعْتُ ذلك تذكرتُ صورةً لها تقف خلفكِ يوم عرض الزواج… إنها المواصفاتُ التي ذكرها ميرون بالضبط. حينها، لم أعلم ماذا أقول. انصرفتُ إلى مكتبي مسرعًا لأربط الخيوط.»
جمعتُ أنفاسي وأبصرتُ إحساسها يتبدل: كانت الدموع تلمع الآن على حدود جفونها، لكنّ عينيها تترقّبان الكلمات التالية كمن ينتظرُ سجينةً قرارها بالحرية أو بالسقوط.
قلتُ لها أخيرًا، بخفتٍ يكاد يكون اعتذارًا: «هكذا ابتدأتُ الربط بين ما رأيته وما سمعته، وهكذا بدأتُ أفهم لماذا قُضي على تلك العائلة، ولماذا ظل الحجر مخفيًا طوال هذا الوقت. لكن هناك أوراقًا وشهودًا أكثر… وكما قلتُ سابقًا، سأفصح لكِ عن كل ما لدي. ليس لأنّكِ فقط تستحقين أن تعرفي، إنما لأن الحقيقة — مهما كانت مؤلمة — تستحق أن تُواجه وجهًا لوجه.»
«كنتُ أعرف أنني دخلت أخطر مرحلة من حياتي… المرحلة التي عليّ فيها أن أتعقب خيوط مارتينا.»
نظرت نحوها لبرهة، ابحث في عينيها عن أي ارتعاشة أو تذكّر.
«كنتِ تجهلين يا أوفيليا أن كل ما حدث بيننا – الرسائل الممزقة، السم، القلادة المسروقة – كان عملها هي.»
«هي من مزقت رسائلي قبل أن تصل إليك، هي من سمّمتنا، هي من سرقت قلادتك وأعطتها للقتلة وقالت لهم إن ذلك أمر منك، بل جعلت القلادة “جائزة” لهم… كل هذا فقط لتزرع الكراهية بيننا مدى العمر.»
توقفتُ عن الكلام لحظة، أشيح بنظري عنها كنت أخاف أن أرى انعكاس الألم في عينيها.
«خمسة أشهر كاملة قضيتها أبحث وأفتش في كل تفصيل صغير، أحاول أن أجد الخيط الذي يقودني لمخططها الأكبر خلف تلك الخطط الصغيرة. كنتُ أنام قليلاً وأعمل كثيراً، وكلما خطرت في بالي صورتكِ وأنا عاجز عن تبرئتك كانت روحي تتمزق.»
إلتفتُ إليها من جديد، صوتي يهبط تدريجياً.
«بعد خمسة أشهر، عرفت الحقيقة… عرفت أن كل ما فعلته كان انتقاماً لعائلتها التي ظنت أنها بريئة، وأن والدينا أعدموهم ظلماً في نظرها. أرادت أن تقتلني أنا وأمي معاً، نجوتُ بالصدفة، لكنها لم تتوقف. خططت لاغتيالي أنا وأبي في اجتماع مع كبار حكام الممالك، لكننا – بعادة قديمة – لا نشرب شيئاً خلال الاجتماعات، ففشلت خطتها. ومع ذلك، استمرت تحيك مؤامراتها لتصل إليكِ وإلى عائلتكِ بعد أن تنتهي منا… كل هذا لتروي ظمأها للانتقام.»
«حين رأيتكِ لأول مرة بعد غيابي الطويل —لمدة ستة اشهر—في تلك اللحظة التي أنقذتكِ فيها من ذلك المجهول، كنتُ قد جمعتُ كل المعلومات. كنتُ أعرف أن المواجهة قادمة لا محالة.»
أشحتُ بوجهي للحظة، ثم تنفستُ ببطء كنت أعتذر كأنني اعتذر عن جرح قديم.
«أرسلتُ رسالة إلى قصركم أخبرتُ فيها والديكِ أنكِ تريدين مارتينا بشدة بجانبك، لأنني كنت أعلم أن هذه الأشهر الستة كانت ثقيلة عليكِ ولن يقنعهم إلا هذا السبب. وفعلاً وافقوا.»
عيناي تتفحصان ملامحها بحذر، لمحتُ ارتعاشة خافتة في يدها.
«حين أتت مارتينا، كنتُ قد طلبتُ من الخدم أن يدلوها إلى الغرفة التي كنتِ تتجادلين فيها مع أولئك الثلاثة بمساعدة ساميلان وسيلينا. كانت سيلينا قد طلبت مني أن أقف خلف الباب لأسمع حواركِ… وهذا ما جعلني أرسل مارتينا إلى تلك الغرفة، حتى تتواجه معك وتكشف الحقيقة.»
اقتربت قليلاً منها، صوتي يخفت ويصبح أكثر دفئا.
«والباقي أنتِ تعرفينه… حتى وصلنا إلى هذه اللحظة، وأنتِ أمامي الآن.»
انتهيت من الكلام وبقيت أنتظر أي إشارة منها، أي لمحة تدل على شعورها بما قلته، صمتُ، أراقب وجهها وكنت أحاول أن أقرأ فيه ردة فعلها على كل ما قيل، هل كان في عينيها غضب؟ دهشة؟ أم بقايا حب قديم يحاول أن يتنفس؟… لكن الصمت استمر، حتى بدأت فجأة دموعها تنهمر، وكأن كل كلمة نطقتها قد حطمت آخر ذرة برود في قلبها.
فجأة، دون سابق إنذار، قفزت في حضني. صدمتي كانت كاملة، لم أعرف ماذا أفعل أو أقول. كل ما استطعت فعله هو أن ألف ذراعي حولها، أحتويها، أريد أن أشعرها بالأمان بعد كل هذه السنوات وكل هذه المشقات.
سمعتهت تتحدث بين بكاء متقطع:
“لماذا… لماذا أخفيت كل هذا عني؟ لماذا ما زلت تحبني إلى هذه الدرجة؟ لو أخبرتني بما تفعله، لكنت ساعدتك على الأقل، دون أن ترهق نفسك طوال هذه الأشهر… أسفة… أسفة جدًا لأنني لم أستطع أن أراك، ولو لمرة واحدة خلال هذه السبعة عشر عامًا… لقد جعلتك تتألم جدًا… وماتت والدتك بسببي، لأنني لم أحافظ على قلادتي… لو أنني حافظت عليها، لما استطاعت مارتينا أن تجد ما تعطيه للقتلة… أنا حقًا أسفة، أسفة جدًا، فريدريك…”
صوت بكائها كان يملأ المكان، وأنا واقفٌ عاجز عن النطق، لا أعرف كيف أرد، كل كلمات العالم تبدو صغيرة أمام دموعها.
بعد لحظات من الصمت، رفعتُ وجهها بيدي، وعيناها تلمعان بالدموع، وأنا ابتسمت لها ابتسامة دافئة لم أبتسمها منذ سبعة عشر عامًا… ابتسامة كانت هي آخر من رآها قديما ، ابتسامة نابعة من قلبي بالكامل، صافية، صادقة.
همستُ بصوت خافت، لكن مليء بالحب:
“لا تقولي هذا… فلا ذنب لك بما جرى. وكل ما فعلته كان فقط لأرى ابتسامتك مجددًا… لأعيد أوفيليا التي كنت أحبها قبل سبعة عشر عامًا، والتي أحبها قلبي حتى اليوم…”
هدأت فجأة، وبقيت تنظر إليّ لوقت طويل. ابتسامة خافتة بدأت ترتسم على شفتيها، ابتسامة جعلت قلبي يفيض بالفرح، استرجعت معها صورة أوفيليا الصغيرة، البريئة، الطاهرة.
احتضنتها بقوة، وهي بادلتني نفس الحضن، مليئًا بالسعادة، بالأمان، بالراحة بعد كل هذه السنوات. لكن فجأة ابتعدت عني، ووجهها بالكامل احمر اللون، شعرتُ بالقلق فورًا، وضعت يدي على راسها اتحسسه، لانني ظننتُ للحظة أنها أصيبت بحمى…
ابتعدت لحظة، تنظر إليّ بعينيها اللامعتين، وأنا واقف، غير قادر على الحركة، متسائل عن مشاعرها الحقيقية، عن ما يجول في خاطرها الآن…
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات