عدتُ إلى غرفتي بخطوات متثاقلة، لكن هذه المرة لم تكن مثقلة بالحزن أو الغضب كما اعتدت… بل كانت مختلفة. كان داخلي خفيفًا على نحو غريب، وكأن شيئًا ما انتُزع من صدري أخيرًا بعد سنوات طويلة من الخوف، من الكتمان، ومن التوجس.
أغلقتُ الباب خلفي، وأسندت ظهري إليه. لحظة صمتٍ اجتاحت المكان، لا يسمع فيها سوى أنفاسي المتلاحقة. شعرتُ برغبة في الانهيار، في البكاء حتى آخر دمعة، ليس من ألمٍ هذه المرة، بل من راحة لم أعرفها منذ أن كنت طفلة صغيرة في قصور إلڤارين.
اقتربتُ من النافذة، دفعتُ الستائر جانبًا، وتركتُ ضوء الشمس ينساب إلى الداخل. كنتُ أريد أن يملأ النور الغرفة، أن يطرد بقايا الظلام الذي ظلّ يلازمني طوال الشهور الماضية. لأول مرة منذ زمن طويل، لم أشعر أن الشمس تسخر مني… بل كأنها تعانقني.
جلستُ على حافة السرير، وضعتُ يدي على صدري، وأغمضتُ عيني. كل الأصوات التي سمعتها اليوم لا تزال تتردد في داخلي: كلمات أبي، دموع أمي، توقيع المعاهدة، أنفاس الحاضرين التي بدت وكأنها تتحرر من قيدٍ طويل. لم أكن أتخيل أنني سأصل إلى هذه اللحظة، لحظة أشعر فيها أنني حقًا لم أعد وحيدة في معركتي.
تذكرتُ تلك الليالي الأولى في هذا القصر… عندما كنتُ محاصرة بجدران عالية، وبنظرات باردة، وبخوف لا أجرؤ حتى على البوح به لنفسي. تذكرتُ حين كانوا يرمونني بالحجارة، وكيف شعرتُ أنني غريبة في عالم لا يريدني. لكنني اليوم… اليوم كنتُ واقفة في قلب القاعة، أرفع رأسي عاليًا، وأشارك في كتابة بداية جديدة للتاريخ.
ابتسمتُ رغم الدموع التي انهمرت دون إذن. لقد تغيرت… نعم، لقد تغيرت كثيرًا. لم أعد تلك الفتاة الخائفة التي تختبئ في غرفتها من قسوة فريدريك أو برود البلاط. صرتُ امرأة تعرف قيمة نفسها، تعرف قيمة الحقيقة، وقيمة السلام.
لكن رغم كل ذلك، كان في داخلي فراغٌ صغير، جرح لم يلتئم بعد. لم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير في فريدريك. كان غيابه المتكرر، ظهوره المفاجئ، ثم كلماته الحادة… كلها تترك في نفسي أثرًا لا يمكن تجاهله. صحيح أن المعاهدة وُقّعت، وأن الحقيقة ظهرت، لكن قلبي كان يتساءل: هل تغيّر شيء بيننا حقًا؟ أم أن ما بيننا لا يزال سجنًا آخر، لا مفاتيح له؟
نهضتُ ببطء، وسرتُ نحو الطاولة الصغيرة قرب النافذة. هناك، وضعتُ دفتر ملاحظاتي الذي دوّنت فيه كل خيط، كل كلمة، كل حركة قادتني إلى الحقيقة. مررتُ بيدي فوق الغلاف ببطء، كأنني ألمس قلبًا نابضًا. هذا الدفتر لم يكن مجرد أوراق… كان شاهدًا على رحلتي، على ليالي البكاء، على لحظات الشجاعة، وعلى الخوف الذي كاد يبتلعني مرارًا.
فتحتُ إحدى الصفحات، فرأيت خطي المرتبك في بداية رحلتي: “سأعرف الحقيقة مهما كلفني ذلك.” ابتسمتُ بمرارة… وها أنا الآن، عرفتُها. لكني لم أكن أتصور أن معرفة الحقيقة ستجعلني أشعر بهذا المزيج الغريب من القوة والضعف معًا.
انحنيتُ برأسي، وتركتُ الدموع تنهمر أخيرًا. كنتُ أبكي ليس لأنني حزينة، بل لأنني خائفة من أن أضيّع هذه الفرصة، من أن أعود إلى قيودي السابقة. كنتُ أبكي لأن قلبي لم يعرف كيف يتوقف عن الحذر، حتى بعد أن تحققت أحلامه.
بينما كنتُ غارقة في صمتي، شعرتُ بخطوات تقترب من الباب. تجمدتُ في مكاني، قلبي يخفق بسرعة. لم أرد أن يراني أحد في هذه الحالة، أضعف مما أريد أن أبدو. لكن الباب فُتح ببطء، ودخل فريدريك.
وقف هناك لثوانٍ طويلة، صمته أثقل من أي كلمة. عيناه لمعتا بنور غريب، ليس غضبًا تمامًا، ولا حنانًا كاملًا، شيء آخر لا أستطيع أن أصفه.
مسحتُ دموعي بسرعة، وقلتُ بصوت مبحوح:
– “هل… هل تغيّر رأيك بي بعد أن عرفت الحقيقة؟ هل ما زلتَ ترى أنني عدوتك؟”
بقي صامتًا للحظة، ثم اقترب مني خطوة بخطوة. لم يرفع صوته، لكنه كان حازمًا، كعادته:
– “اليوم… هو بداية جديدة، أوفيليا. لا أكثر ولا أقل.”
لم أفهم كل ما يعنيه، لكنني شعرت أن كلماته كانت أثقل من أي جواب آخر. ربما لم يكن اعترافًا، وربما لم يكن قبولًا، لكنه كان إعلانًا واضحًا أن الماضي انتهى… وأن ما سيأتي لن يكون كما كان.
وقبل أن أستطيع أن أجيبه، استدار بخطواته المعتادة، وخرج من الغرفة، تاركًا إياي وحدي مع صمتي ودموعي… وقلبي الذي لم يعرف كيف يتوقف عن الارتجاف.
مرّ الليل ببطء، وكأن عقارب الساعة كانت تسخر مني. كنتُ مستلقية في سريري، لكن عيني لم تغمضا. كلما أغمضتُ جفني، عادت كلماته إلى رأسي: “اليوم هو بداية جديدة.”
ماذا قصد بذلك؟ هل كان يقصد بداية جديدة لشعبينا؟ أم لبداية شيء مختلف بيني وبينه؟ أم أنه كان مجرد تصريح بارد بلا معنى؟
لكن ما كان ينهش داخلي أكثر من أي شيء… سؤال ظل يلاحقني منذ لحظة توقيع المعاهدة: كيف عرف الحقيقة؟ كيف عرف أن عائلتي لم تسرق حجر التنين؟ لقد قضيتُ شهورًا أبحث عن الأدلة، أرتجف بين الشكوك، أقاوم وحدي، بينما كان هو… صامتًا. هل كان يعلم طوال الوقت؟ وإن كان يعلم، فلماذا تركني أغرق في وحل الاتهامات؟
جلستُ على حافة السرير، قدماي العاريتان ترتجفان فوق أرض الغرفة الباردة. شعرتُ أن شيئًا ما يسحبني… رغبة خفية لا أستطيع مقاومتها. رغبة في مواجهة فريدريك.
نهضتُ ببطء، ارتديتُ رداءً داكنًا، وشددتُ الوشاح حول كتفي. وقفت أمام المرآة لحظة قصيرة، فرأيتُ في عيني خليطًا من الخوف والجرأة، من الانكسار والقوة. تمتمتُ:
– “لن أظل صامتة بعد الآن.”
خطوتُ خارج الغرفة. الممرات كانت هادئة، يلفها صمت ثقيل لا يقطعه سوى صوت حفيف عباءتي. كان كل باب أمرّ به يذكرني بأنني غريبة هنا، دخيلة في قصر ليس قصري. لكن خطواتي لم تتوقف. كلما اقتربتُ من جناحه، شعرتُ بأن قلبي يخفق أسرع، وكأنني على وشك دخول معركة لا أعرف إن كنت سأخرج منها منتصرة أم محطمة.
أمام بابه، تجمدتُ. رفعتُ يدي، لكن أصابعي توقفت قبل أن تطرق الخشب الثقيل. كنتُ أسمع نفسي تهمس: “عودي، لا تفعلين… سيزدريكِ، سيغضب.” لكن شيئًا في داخلي رفض العودة.
طرقتُ الباب أخيرًا. لم يأتِ ردّ في البداية، ثم سمعته يقول بصوت ثابت، لا يحمل أي دفء:
– “ادخل.”
فتحتُ الباب ببطء، ودخلت. المكتب كان كما تخيلته: واسع، جدرانه مكسوّة بالكتب والخرائط، وإضاءة الشموع الخافتة تلقي بظلال غامضة على الأثاث. كان جالسًا خلف مكتبه، مائلًا قليلاً إلى الأمام، يكتب شيئًا بقلمه الفضي.
رفع نظره إليّ ببطء. عينيه لم تظهرا اندهاشًا، لكن شيئًا في صمته جعلني أوقن أنه لم يتوقع زيارتي.
– “أوفيليا؟” قالها ببرود، كمن يطرح سؤالًا بلا أهمية. “ما الذي جاء بك إلى هنا في هذا الوقت؟”
ترددتُ، ابتلعتُ ريقي بصعوبة. كانت الكلمات تتدافع في صدري، لكن لساني أثقل من أن ينطق بها. مشيتُ خطوة واحدة إلى الداخل، وأغلقتُ الباب خلفي، تاركة نفسي في فخّ لم يعد له مخرج.
– “أنا… جئتُ لأنني…”
ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتيه، لكنها لم تصل إلى عينيه.
– “لأنك ماذا؟” سألني بنبرة هادئة لكنها مشحونة. “ألستِ من كنتِ تكرهين مجرد الحديث معي؟”
شعرتُ بقلبي يتقلّب في صدري. أردتُ أن أصرخ: “نعم، أكرهك… لكنني لا أستطيع أن أهرب منك!” لكن صوتي خرج ضعيفًا:
– “أنا… أريد أن أسألك عن شيء.”
ترك قلمه جانبًا، واستند إلى مسند كرسيه، يراقبني بعيون متفحصة كأنها تخترق أعماقي.
– “عن ماذا؟”
لم أستطع أن أرفع عيني إلى عينيه. رفعتُ يدي إلى صدري، كأنني أحمي نفسي من طعنة غير مرئية، ثم قلتُ أخيرًا:
– “عن… عن حجر التنين. عن كيف عرفتَ أن عائلتي لم تسرقه.”
حلّ صمت ثقيل في الغرفة. كان الهواء باردًا على نحو غريب، كأن النوافذ مفتوحة على ليلٍ قارس. عيناه كانتا مثبتتين عليّ، صامتتين، لكن صمتهما كان أثقل من أي كلمة.
شعرتُ بارتجاف في يدي. ترددتُ لحظة، ثم أضفتُ بصوت أضعف:
– “لقد عانيتُ شهورًا من الشكوك والاتهامات… كنتُ وحيدة. لم أكن أعرف أين أجد الحقيقة. لكنك… أنت عرفت. لماذا لم تقل شيئًا؟ لماذا تركتني أحارب وحدي؟”
لم يجب. رفع جسده ببطء من الكرسي، وسار حول المكتب حتى صار أمامي مباشرة. كان أطول مما ظننت في هذه المسافة القريبة، وظلاله غطّت نصف وجهي. عيناه تلمعان بشيء غامض، لا غضب ولا حنان… بل شيء ثالث لم أجرؤ على تفسيره.
اقترب خطوة إضافية، حتى شعرتُ بأنفاسه الباردة تلامس وجهي. صوته كان منخفضًا لكنه حاد:
– “أتظنين أنني لم أكن أراقبك؟ أنني لم أرَ ما تفعلينه؟ أنني تركتكِ وحدكِ؟”
ارتجفتُ. لم أستطع الرد. لم أعرف إن كان يوبخني، أم يعترف بشيء دفين.
عاد الصمت مرة أخرى، أطول هذه المرة. كنتُ أسمع دقات قلبي تصمّ أذني، بينما عيناه لا تفارقان عينيّ. لحظة امتدت كالأبدية، حتى قال أخيرًا:
– “حسنًا… إن كنتِ تريدين أن تعرفي… فسأخبرك.”
ارتجفت أنفاسي، وعيوني اتسعت. قلبي خفق بعنف، كأن كل كلمة ستغيّر قدري إلى الأبد. لكن قبل أن ينطق بما يخفيه، تركني بين الخوف والانتظار… تاركًا النهاية معلّقة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات