الأيام السبعة الماضية كانت كالسجن الذي لا ينتهي. منذ وصولي إلى قصر درافينور، حبست نفسي داخل غرفتي، أغلق الستائر على الضوء، وأمنع أي صوت من اختراق عزلتي. لم أتكلم مع أحد، ولم ألمس الطعام. الخدم حاولوا أكثر من مرة إدخال الطعام، لكنني كنت أرفضه بعناد، أرفض كل شيء، حتى أنفاسي أصبحت قليلة متقطعة، كأن الصمت حولي يحميني من الواقع القاسي.
لكن فريدريك لم يترك الأمر يمر.
في صباح اليوم الثامن، دخل الغرفة دون استئذان، حاملاً الصينية التي لم ألمسها منذ أيام. وقف للحظة عند الباب، نظر إليّ بعينيه الثاقبتين، ثم اقترب بخطوات ثابتة.
“إذا لم تأكلي، سأضطر أنا شخصيًا لأن أضع هذا الطعام بين يديك.” قال بصوت هادئ لكنه صارم، وعيناه لم تتركاني.
رفع الصينية، وجلس أمام السرير حيث كنت أغطي وجهي بيديّ، أحاول أن أخفي ارتعاشي.
“أنا لن أتركك تموتين بهذه السهولة…” أضاف، ويده لم تتردد في دفع الصينية إلى جانبي على السرير.
ارتجفت، شعرت بالذعر والخوف في نفس الوقت.
“ألم تفكري؟ أنت من دفعت للقتلة، حتى يضعوا السم الطعام، انا ووالدتي أكلنا السم، أسبوع كامل وأنا اعاني … و امي … ماتت … ولن أسمح لك أن تموتي إلا إذا شربت من نفس الكأس.”
وقف قلبي عن النبض للحظة، ثم انفجرت كل غضبي وألمي في صرخة لم أعد أستطيع كبتها:
“أنت… أنت من أخطأت! أنت من جعل كل شيء يحدث! لم أرسل أحدًا ليؤذيك… لم أرسل أحدًا ليقتل أحدًا… كيف تجرؤ أن تلومني على كل هذا؟!”
توقفت لبرهة، والدموع تنحدر بلا قدرة على التوقف، شعرت بأن الغرفة تضيق حولي، لكن عيونه لم ترجع النظر، لم تتركني، بل ظل يحدق كما لو كان كل شيء يجب أن يصل إليه مني.
ثم أخرج شيئًا من جيبه، شيء يلمع في يديّ عند لمسه… قلادة طفولتنا، التي أعطاها لي عندما كنا صغارًا، فريدة ولا تشبه أي شيء آخر.
“القتلة قالوا لي إنهم أخذوها كثمن…” قال بصوت مشحون بالغضب والحزن، “لم أصدقهم في البداية، لكن عندما رأيت هذه القلادة، عرفت… لقد فقدت أمي وعانيت بسببك، بسبب حبي الأعمى لك!”
شعرت بأن الأرض تختفي من تحت قدميّ. قلادة طفولتنا، رمز البراءة والحميمية، أصبحت الآن شاهدة على ألم وموت ومعاناة. لم أستطع أن أرفع يدي لأمسكها، كل شيء انهار داخلي…
فريدريك جلس أمامي، كل جزء منه مشحون بالألم والغضب والحب القديم:
“أنا كنت أحبك… ولا زلت… حتى بعد كل هذه السنوات، رغم كل الاتهامات والأدلة… رغم كل شيء…”
وبينما كان صوته يملأ الغرفة، شعرت بأن قلبي يتفتت، وأنا أعلم أن هذه اللحظة لن تكون مجرد مواجهة… بل بداية صراع طويل، بين الحب واللوم، بين الماضي والحاضر، بين الألم والواجب، وبيننا نحن الاثنين، حيث لا يمكن لأي منا الهرب من الحقيقة.
بعد تلك الليلة القاسية… بعد أن ألقى فريدريك كلماته وتركني وحيدة، بقيت ساعات طويلة حبيسة أفكاري، أبحث عن خيط نجاة، لكنني لم أجد سوى العتمة.
وفي صباح اليوم التالي، فُوجئت بالخدم يطرقون باب غرفتي حاملين صناديق ثقيلة مملوءة بالذهب والفضة والمال. تقدّم كبير الخدم بانحناءة وقال:
“أوامر الأمير… هذه لكم، يا صاحبة السمو، لتتصرفوا بها كما تشاؤون.”
تجمدت في مكاني، نظرت إلى الأموال وكأنها ثِقل يسحق صدري. الكثير من المال… أكثر مما حلمت أن أراه في حياتي. لكنني شعرت بالاشمئزاز، لا بالامتنان.
أهذا ما يريد؟ أن يجعلني مدينة له؟ أن يجعلني أعيش بفضله؟
خطرت ببالي فكرة أن أعيد المال إلى مملكتي المدمّرة، شعبي الذي يعاني الفقر والبرد والجوع… لكن سرعان ما غمرتني المخاوف.
إن فعلت ذلك، سيقال إنني أسرق مال زوجي لأمنح أهلي… سيقال إنني لست سوى سارقة بثوب ملكي.
فقررت أن أستخدمه هنا… في درافينور نفسها. فربما لو ساعدت شعبهم، سأنقذ بعض الأرواح… وربما أجد في قلوبهم مكانًا ينسيني غربتي.
خرجت بعد أيام برفقة بعض الحراس، وبدأت أوزّع المعونات في الأحياء الفقيرة. المدينة لم تكن مدمرة كما مملكتي، لكنها كانت تعاني آثار الحرب: أطفال جياع، نساء ثكالى، ورجال بائسين. وعندما قدّمت المال والغذاء، أشرق الفرح في العيون، وتعالت كلمات الشكر. شعرت للحظة أن قلبي يتنفس من جديد.
لكن تلك اللحظة لم تدم طويلًا.
إذ فجأة انتشر الخبر بين الناس:
“إنها أوفيليا… أميرة إلڤارين! المملكة التي خانت وسرقت وقتلت!”
وبدأ كل شيء ينقلب. الوجوه التي امتلأت بالابتسامة صارت تشتعل بالكراهية، وصوت السعادة تحوّل إلى صرخات شتائم.
قبل أن أدرك ما يجري، انهمرت الحجارة عليّ من كل جانب.
“خائنة!”
“قاتلة!”
“عودي إلى مملكتك المحترقة!”
صرخت من الألم، ليس فقط من وقع الحجارة على جسدي، بل من وقع الكلمات على قلبي. نظرت إلى الحراس الذين رافقوني، انتظرت منهم أن يحموني… لكنهم لم يتحركوا. بل سمعت بعضهم يضحك ساخرًا، وآخر يتمتم بكلمات شتيمة ضدي.
كنت وحيدة… كما كنت دائمًا.
وفجأة دوّى صوت مألوف وسط الضجيج.
“توقفوا!”
كان فريدريك. اندفع بين الحشود كالإعصار، قبضته تمسك بسيفه، وصوته يجلجل في المكان.
“أي يدٍ تمتدّ عليها سأقطعها!”
تجمّد الناس، ارتدّت الحجارة إلى الأرض. تقدم نحوي، أمسك بيدي بقوة، وغطاني بجسده وكأنه يحميني من كل العالم. عادت الحشود إلى الوراء مترددة، خائفة من نبرة غضبه.
أعادني إلى القصر بعربة محاطة بجنوده، والناس يهمسون من خلفنا، بعضهم بالخوف… وبعضهم بالازدراء.
في القصر، وبمجرد أن أُغلق الباب خلفنا، التفّ إليّ كالعاصفة.
“من سمح لك بالخروج دون إذني؟!” صوته كان سيفًا يخترق جدار الصمت.
“هل تظنين أنك ما زلتِ في مملكتك؟ أم أنكِ تتوهمين أن لكِ سلطة هنا؟! أنتِ لا شيء، أوفيليا… لا شيء! فلا تتجاوزي حدودكِ!”
كنت أرتجف، لا من كلماته فقط، بل من التناقض الذي يصرخ داخلي: قبل لحظات كان يحمي جسدي من الحجارة… والآن يمزق روحي بكلماته.
غادر إلى مكتبه وهو يغلي غضبًا. هناك استدعى الحراس الذين كانوا برفقتي. دخلوا بخوف، ووقفوا أمامه.
“كيف تجرؤون؟!” صرخ عليهم. “كيف تشتمون زوجتي؟! كيف تسمحون للحجارة أن تلمسها وأنتم واقفون كالأصنام؟!”
حاول أحدهم أن يتذرع:
“مولاي… ألست أنت من أتى بها لتتعلم الذل واليأس؟ نحن ظننا…”
لكن كلماته لم تكتمل، إذ انهال عليهم فريدريك بعنف، وأمر بمعاقبتهم أشد العقاب. خرجوا يجرون أقدامهم المدمّاة، وهو بقي وحيدًا في مكتبه.
جلس على كرسيه، يضع يده على جبينه، وعيناه معلّقتان بالفراغ.
تذكر…
تذكر يوم ماتت أمه بالسم، وتذكر كيف أمر والده آنذاك بالانتقام من عائلة أوفيليا ومحوهم من الوجود. يومها شعر هو بالاختناق، رفض القرار في قلبه، لكنه لم يجرؤ على عصيان أبيه. حاول أن يجد مخرجًا آخر، فكان الحل أن يقنع والده بإبقاء أوفيليا على قيد الحياة… لكنه أقنع نفسه أنه يفعل ذلك فقط ليعذبها، ليشربها من نفس الكأس، لا بدافع الرحمة.
لكن الآن… الآن كل شيء ينهار داخله.
لماذا؟ لماذا عندما سمعت أنهم يضربونها، جريت إليها بلا تردد؟ لماذا كنت خائفًا أن يصيبها مكروه؟
ضرب الطاولة بقبضته، وصوته يرتجف بين الغضب والخذلان:
“لماذا؟! لماذا لا زلت أحبها؟!”
رفع القلادة في يده، يحدق فيها كأنها تسخر منه.
“يجب أن أكرهك يا أوفيليا… يجب أن أعذبك كما عذبتني… كما قتلت أمي… كما سممتني… كنت أكذّب القتلة، أقول إنهم يريدون التفريق بيننا… لكن هذه القلادة… هذه اللعينة أثبتت كل شيء.”
غاص رأسه بين يديه، ممزقًا بين حبه الذي لم يمت… وكرهه الذي ينمو كل يوم.
انسحبت إلى غرفتي بعد أن أعادني فريدريك بالقوة من السوق، وكل خطوة في الممر كانت أثقل من سابقتها. ملابسي ما زالت ملطخة بالتراب، وجسدي يوجعني من ضرب الحجارة، لكن الألم الأكبر كان في صدري… في قلبي.
أهذا قدري؟ أن أُهان أمام الناس وأُعامل كغريبة؟
كنت أرتجف على سريري، أدفن وجهي في الوسادة حتى لا أسمع صدى الشتائم في رأسي، حين دوّى طرق خفيف على الباب.
في البداية تجاهلته.
لكن الطرق عاد، أكثر إصرارًا، حتى تمتمت بحدة:
“من هناك؟”
جاءني صوت أنثوي خافت:
“أنا… سيلينا، يا سيدتي. لقد أرسلني الأمير… لأعتني بك.”
تجمدت في مكاني، رفعت رأسي ببطء. اعتني بي؟ شعرت بالغضب يتدفق في عروقي. ما حاجتي إلى عطف من فريدريك؟ أيّ جرحٍ يريد ترقيعه الآن؟
نهضت وفتحت الباب قليلًا، نظرت إلى الفتاة الواقفة بخوف. كانت شابة صغيرة، شعرها البني مربوط إلى الخلف ببساطة، وعيناها الرماديتان تفضحان ارتباكها. في يدها صينية ماء وضمادات.
قلت بصرامة:
“لست بحاجة إليكِ. أستطيع الاعتناء بنفسي.”
ارتبكت، وضغطت الصينية إلى صدرها كأنها تبحث فيها عن ملجأ:
“رجاءً يا سيدتي… لا ترفضي. إن عدتُ إليه وقالت إنكِ طردتني، سيغضب… وسيعاقبني.”
صمتُّ، وشيء داخلي ارتعش. كانت صادقة، الخوف في عينيها لا يمكن أن يكون تمثيلًا.
لكن رغم ذلك، رفعت رأسي بعناد:
“لن أسمح أن يُستخدم وجودك حولي كقيد جديد. لقد اعتدت على الألم… وأعرف كيف أضمّد جراحي وحدي.”
اقتربت خطوة، همست برجاء يكاد ينكسر:
“أعلم… لكن لا تفكري بي كخادمة فقط. دعيني… على الأقل أجلس بجانبك. حتى لو لم تدعيني ألمس جراحك. لا أريد أن أُعاقَب بسبب أمر لم أختره.”
ترددتُ. شيء في صوتها جعلني أشعر أنني لست وحدي تمامًا. لكنها تبقى عيون غريبة، وخوفها ليس لأجلي… بل لنفسها.
جلست على حافة السرير، تمسكت الصينية بيدين مرتجفتين.
قلت لها ببرود:
“اجلسي إذًا، لكن لا تلمسيني. إن كنتِ خائفة من الأمير، فهذا شأنك… أما أنا، فلن أسمح لأحد أن يُجبرني على قبول عطف لم أطلبه.”
انفرجت ملامحها قليلًا، مزيج من ارتياح وخوف لم يزل يلاحقها، وجلست بصمت قرب الباب، كأنها لا تريد أن تزعجني أكثر.
أما أنا، فعدت أحتضن وحدتي… وأفكاري التي تتزاحم.
هل يريد فريدريك أن يطمئنني… أم يريد فقط أن يراقبني حتى في ضعفي؟ لماذا لم يتركني أموت تحت حجارة الناس؟ لماذا أنقذني ليعيدني إلى قيد آخر؟
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات