جلستُ في الغرفة التي صارت مألوفة أكثر مما تمنيت، طاولة صغيرة تتوسطنا، وأنا، سيلينا، وسامي نُحيط بها وكأننا ثلاثة أسرى في خلية سرية، نتقاسم فيها الأسرار أكثر مما نتقاسم الهواء. كان وجهي متعبًا، لكن عينيّ ترفضان الاستسلام. لم أستطع النوم طوال الليل، وظلّت كلمات داريوس في المكتبة، ونظرات ميرالين، وصوت غرايسون العميق، كلها تطن في أذني كأنها طلاسم معلّقة في عقلي.
وضعت المذكرة التي أخذتها سيلينا من غرفة ميرالين أمامي، وأخذت أتأملها بصمت. كان الورق مثقلاً بالخطوط الصغيرة المتداخلة، بعضها يشبه الملاحظات الطبية، وبعضها الآخر أقرب إلى رموز أو شفرة يصعب فهمها.
سيلينا كسرت الصمت، صوتها كان خافتًا لكنه يحمل حدة واضحة:
“أوفيليا… لقد جمعتِ أخطر شيء حتى الآن. هذه المذكرة وحدها كفيلة بفضح أحدهم.”
رفعت بصري نحوها، ثم إلى سامي الذي كان يجلس صامتًا، ذراعه مطوية على صدره، عينيه تلمعان بالترقب. كان وجهه هادئًا كما اعتدت، لكنني شعرت بشيء آخر خلف ذلك الهدوء… ربما قلق، وربما إصرار.
قلتُ وأنا أمرر أصابعي على الغلاف القديم:
“لكننا لا نعرف بعد إن كانت هذه المذكرة تخص ميرالين وحدها… أم أنها دليل على تورط أكثر من شخص. كل خيط يقودنا إلى الآخر، وفي النهاية أشعر أنني أعود إلى نقطة البداية.”
تنهد سامي، وقال بصوته الثابت:
“مولاتي… كل خطوة نقوم بها خطيرة، لكن لا شيء يضيع. حتى الغموض له ثمن، وهو ثمن يقرّبنا من الحقيقة.”
ابتسمت داخليًا رغم الإرهاق، فأسلوبه في الحديث دائمًا يزرع فيّ شعورًا غريبًا بالطمأنينة. لكنه كان محقًا… لم يعد بوسعي التراجع.
أخذت سيلينا المذكرة من أمامي، فتحت بعض الصفحات وأشارت إلى سطر مكتوب بحروف دقيقة:
“انظري… هنا مكتوب: الجرعة الأخيرة لن تُسلَّم إلا عبر الغراب.”
تسارعت أنفاسي. “الغراب” من جديد… الاسم الذي يلاحقنا منذ البداية. الشخص الغامض الذي كان يشتري ويسلّم، من الظل دائمًا، ولا أحد يعرف هويته.
سامي قال ببطء:
“هذا يعني أن ميرالين على صلة مباشرة بالغراب… أو على الأقل تعرف شيئًا عنه.”
أومأت، وأنا أشعر بالبرد يسري في أطرافي. “لكنها لم تقل شيئًا صريحًا. كل ما فعلته أنها تركت تلميحات، نظرات، و… ذلك الهدوء الغريب وكأنها تعرف ما نبحث عنه.”
سكتنا للحظة، قبل أن أسمع سيلينا تقول بحذر:
“ماذا عن داريوس؟ هو الآخر ليس بعيدًا عن هذه الخيوط. في المكتبة، بدا كأنه يعرف أكثر مما يظهر.”
انكمشت معدتي عند ذكر اسمه، تذكرت تلك الليلة حين صادفته بين رفوف الكتب. كان صوته ثقيلاً، وكلماته ملفوفة بالتحذير. داريوس… المستشار الموثوق لدى الإمبراطور، والآن أحد المشتبه بهم في مخطط السم.
سامي مال قليلًا إلى الأمام، وقال:
“إذا كان داريوس متورطًا… فهذا يعني أن الأمر أكبر من مجرد انتقام شخصي. نحن نتحدث عن مخطط يضرب في قلب البلاط نفسه.”
وضعت يدي على جبيني، أحاول جمع شتات أفكاري. “وهذا ما يجعل الأمر أخطر. إذا كان البلاط نفسه متورطًا… ففريدريك لن يصدقني بسهولة. سيظن أنها مجرد محاولة يائسة لتشويه رجاله.”
عندما نطقت باسمه، شعرت بشيء يختنق داخلي. فريدريك… الغائب حاضر في كل خيط، في كل خطوة. رغم قسوته، ورغم ابتعاده، يظل ظله يراقب كل ما أقوم به، وكأنني أعيش بين سطوره دون أن أراه.
سيلينا أعادت المذكرة إليّ، وقالت:
“أوفيليا… نحن بحاجة إلى ترتيب كل شيء. لننظر بوضوح:
التاجر ميرون أخبرنا أن الغراب من البلاط.
المذكرة تُظهر أن ميرالين تعرف هذا الغراب أو على الأقل تسلّمت منه.
داريوس يملك النفوذ والمعرفة، وكأنه يحرّك خيوطًا خفية.
وغرايسون… ظهوره الدائم بجانب الإمبراطور وفريدريك يجعله حلقة وصل محتملة.”
أخذت نفسًا عميقًا، وشعرت كأن الضباب بدأ ينقشع، لكن بقي هناك شيء واحد ناقص، شيء يربط هذه الأسماء ببعضها… أو يكشف أيهم يلعب الدور الحقيقي.
سامي قال بصوت منخفض:
“مولاتي، لدينا كل الخيوط تقريبًا… لكن هناك قطعة واحدة مفقودة. من هو الغراب؟ إن عرفناه، سنعرف من وراء كل هذا.”
نظرت إلى الاثنين، شعرت بقوة جديدة تنبعث في داخلي. “إذن خطتنا التالية واضحة: نكتشف من هو الغراب. مهما كلّف الأمر.”
ارتسم الصمت بيننا، صمت ثقيل لكنه مشحون بالعزيمة.
داخل قلبي، كنت أعلم أن الطريق يزداد ظلمة، لكنني أقسمت بيني وبين نفسي… أنني لن أترك هذا اللغز يبتلعني. لن أستسلم حتى أعرف من دس السم، ومن أراد دفن مملكتي.
لم أتوقع أن يصلني هذا الاستدعاء. رسالة قصيرة، مختومة بخاتم الإمبراطور نفسه، تأمرني بالحضور إلى مأدبة غداء خاصة في قاعة الشرف. لم يكن من عادة البلاط أن يوجّه لي دعوات، بل بالكاد يحتملون وجودي بينهم، والآن… أنا أمام لقاء مباشر مع والد فريدريك، الرجل الذي يملك بين يديه مصيري ومصير شعبي.
سرت خلف الحراس، خطواتي مترددة، لكن قلبي ثابت. كنت أعلم أن كل كلمة سأقولها ستُحسب ضدي، وكل نظرة سأخطئ بها ستفسَّر على أنها إهانة.
دخلت القاعة الواسعة، كان الضوء يتسلل من النوافذ العالية، ينعكس على المائدة الطويلة التي امتلأت بأطباق لم ألمح مثلها منذ سقوط إلڤارين. على رأس المائدة جلس هو… الإمبراطور دراڤينور.
كان رجلاً طاعنًا في السن، لكن مهابته لم تهتز. عيناه الرماديتان كانتا حادتين كالسيف، وصوته حين ناداني اخترقني:
“أميرة إلڤارين… أو ربما يجدر بي القول: أميرة مملكة لم تعد موجودة.”
شعرت بوخزة في صدري، لكنني لم أنحنِ. تقدمت وجلست حيث أشار، بصمت يختلط بالترقب.
بدأ يتناول طعامه بهدوء مريب، ثم رفع بصره نحوي:
“أتعلمين يا أوفيليا… منذ سبعة عشر عامًا، كنتِ مجرد فتاة صغيرة. لكن الأحداث التي جرت حينها… لا تزال أصداؤها ترنّ في القصر حتى اليوم.”
تجمدت يداي فوق المائدة. كنت أعرف أن الحديث سيجرّني إلى ماضٍ لا أستطيع نسيانه.
تابع بصوت أجش:
“حادثة السم… الكل يتحدث عنها همسًا، لكن قلة فقط يعرفون ما جرى. زوجتي، والدة فريدريك، كانت أول من شرب من الكأس المسموم. ثم فريدريك… بقي بين الحياة والموت أسبوعًا كاملًا. كنتُ على وشك أن أفقدهما معًا.”
أغمضت عيني للحظة، صور الماضي تتسرب إلى ذاكرتي. أبي، وجهه الغاضب يوم علم بالحادثة… ألسنة اللهب التي أحرقت أرض إلڤارين.
الإمبراطور ضرب بيده على المائدة، ارتجف الكأس أمامي:
“والدكِ… ملك إلڤارين… لم يكد يسمع بما حدث حتى حشد قواته ليعود للحرب من جديد. كان مستعدًا أن يغرق الأرض دمًا. لكنني… لم أسمح له. سحقناه قبل أن يجرّكم إلى حتفكم.”
كلماته كانت كالسكاكين، لكنني لم أرد الانكسار أمامه. قلتُ بصوت متماسك:
“والدي لم يكن ليسمح بأن يتهم ظلمًا. كان يبحث عن الحقيقة.”
ابتسم ابتسامة ساخرة، عينيه تلمعان بمكر:
“الحقيقة؟ الحقيقة يا ابنتي أن السم لم يدخل قصري إلا عبر يد من وثقنا بها. من كانوا يدخلون ويخرجون دون أن يُسألوا، أولئك الذين اعتبرناهم أقرب إلينا من الدم. البعض سمّاهم ‘أصدقاء’، لكنني أسميهم… غربانًا.”
ارتعش قلبي عند سماع الكلمة. غراب. لم يقلها اعتباطًا.
تابع بصوت هادئ لكنه مشبع بالمرارة:
“هناك دائمًا غربان تحوم حول البلاط… يبيعون الأسرار، يلوثون الطعام، يختبئون في الظلال. ومن المؤسف أن والدكِ لم يرَ إلا السيف أمامه، بينما الغربان الحقيقية حلّقت بعيدًا.”
صمت قليلًا، ثم تناول كأسه ورفع نظره إليّ من جديد:
“الآن… أنتِ هنا، زوجة لابني. لا أعرف إن كان القدر يسخر مني، أم يمنحني فرصة أخرى. لكن تذكري، أوفيليا… في هذا القصر، كل ابتسامة تخفي خنجرًا، وكل خيط يربطنا بالماضي لم ينقطع بعد.”
لم أستطع الرد، الكلمات علقت في حلقي. شعرت أنني سمعت أكثر مما كان عليّ أن أسمع.
لكن شيئًا واحدًا كان واضحًا: الإمبراطور نفسه يعرف “الغراب”، حتى لو لم يسمّه مباشرة. كان حديثه أشبه بمرآة غامضة، عكست أمامي الحقيقة ناقصة، لكنها وضعت بين يدي خيطًا جديدًا، أثمن من كل ما جمعناه حتى الآن.
خرجت من قاعة الشرف ساقاي ترتجفان، والغصة تخنقني. الكلمات التي نطقها الإمبراطور لم تزل ترن في أذني: “الغربان… يبيعون الأسرار… يلوثون الطعام… يختبئون في الظلال.”
حين وصلت إلى الجناح الذي اتفقنا أن نلتقي فيه، وجدت سيلينا وسامي بانتظاري. بدت على وجهيهما علامات القلق.
سيلينا نهضت فورًا:
“أوفيليا! كيف كان لقاؤك مع الإمبراطور؟”
جلست بصمت للحظة، ثم وضعت المذكرة التي أخذتها من الغرفة على الطاولة بيننا.
قلتُ: “لقد تحدث عن حادثة السم… وعن أبي… لكنه ذكر شيئًا أهم: الغربان … الإمبراطور يعرف عنهم. لقد أشار إليهم… وكأنهم هم أصل الحكاية.”
سامي قطّب حاجبيه:
“الغراب…؟”
أومأت ببطء:
“لم يسمّه مباشرة، لكن كلماته لم تكن عشوائية. كان يقصد أشخاصًا… أشخاصًا يعيشون بين البلاط، يبيعون الأسرار ويخفون أنفسهم. وكأنهم ظلّ لا يراه أحد، لكن أثره باقٍ.”
مدّت سيلينا يدها إلى المذكرة، وفتحتها على الصفحة الملطخة بالحبر:
“هذا يفسّر الرموز هنا… انظري: الرسائل التي تحدثت عن الطيور السوداء، عن ‘الحارس في الظل’. لم نفهم معناها من قبل، لكن الآن كل شيء يبدأ بالترابط.”
سامي أضاف بسرعة، وصوته منخفض لكنه متوتر:
“وتذكّرا الخيط الأسود الذي وُجد في مخزن الأعشاب بجانب قوارير التوابل؟ لم يكن صدفة. الأسود… رمز الغراب.”
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. كل الأدلة الصغيرة التي جمعناها — الكلمات المشوشة، الغرفة السرية، المذكرة، حديث الإمبراطور — بدت كقطع فسيفساء تتناسق أخيرًا.
قلتُ بصوت متردد:
“لكن إن كان الغراب حقيقيًا… فهو ليس مجرد رمز. هو شخص. شخص واحد على الأقل… وربما أكثر.”
ساد الصمت للحظة. نظراتنا الثلاثة تلاقت، وكأننا توصلنا إلى نفس الاستنتاج دون أن نقوله.
سيلينا همست:
“إذن… القاتل الذي نبحث عنه ليس غريبًا عن القصر. إنه من الداخل. واحد من المقرّبين، ممن يملكون حرية الدخول والخروج.”
سامي شبك أصابعه وهو يفكر:
“وربما… من المشتبه بهم الثلاثة. كل خيوطنا تؤدي إليهم.”
تسارعت أنفاسي، وأنا أشعر بثقل الحقيقة يقترب. كل ما تبقى لنا، خيط واحد فقط… وسنكشفه قريبًا.
التعليقات لهذا الفصل " 18"