ظلّ الصمت يلف المكان بعد أن غادرت ميرالين. خطواتها الخفيفة تلاشت في الممر الطويل، لكن صدى كلماتها بقي يضرب في أذنيّ مثل أجراس تنذر بالخطر.
ترددت للحظة، ثم زفرت ببطء وأغمضت عيني. شعرت بيد سيلينا تضغط على كتفي قبل أن تبتعد بصمت، وكأنها تركت لي المجال لأواجه نفسي… ولأواجه ساميلان.
التفتُّ نحوه، كان واقفًا كالصخرة، عيناه تراقبان الممر الذي اختفت فيه ميرالين، وجسده مشدود كمن ينتظر هجومًا مفاجئًا. لم يلتفت إليّ مباشرة، لكنني رأيت كيف يده كانت تستقر على مقبض سيفه دون وعي، وكأنه لم يستطع أن يثق في هدوء اللحظة.
قلت بهدوء، وأنا أحاول أن أخفي ارتجاف صوتي:
“ساميلان… لا داعي لأن تظل متأهبًا هكذا. لقد رحلت.”
أدار رأسه نحوي أخيرًا، وفي عينيه بريق لا يشبه أي شيء رأيته من قبل. مزيج من القلق والولاء المطلق.
“مولاتي… لا أرتاح لوجودها. شيء ما فيها… ليس صحيحًا.”
ابتلعت ريقي بصعوبة، وشعرت وكأن قلبي يتصارع مع عقلي. هل أبوح له؟ هل أفتح بابًا لا أستطيع إغلاقه؟
لكن صوته الجاد، ونبرته المخلصة، دفعتني لأتكلم ولو بجزء صغير من الحقيقة.
“أعرف يا ساميلان… ميرالين ليست امرأة عادية. كل كلمة منها تحمل لغزًا. لكنها ليست الوحيدة التي تشوش عقلي.”
اقترب خطوة، ونبرته صارت أخفض:
“مولاتي، إن كان هناك ما يشغلك… فإنك لست مضطرة لتحمليه وحدك. لقد أقسمت على حمايتك، ليس فقط بجسدي، بل أن أكون سندك.”
تجمدت للحظة. “سندك”… كلمة بسيطة، لكنها اخترقتني بعمق لم أتوقعه.
خفضت بصري إلى الدفتر الذي كنت ما زلت أحمله بين يدي، وأجبت بصوت متردد:
“هناك الكثير من الأسرار يا ساميلان… أحيانًا أخشى أن أبوح بها، لأنني أخاف أن أُثقل بها قلب من يسمع. هذه القلعة مليئة بالظلال، كل ظل منها قد يخفي خيانة.”
صمته دام لحظة، ثم قال بثباتٍ هادئ:
“الظل لا يخيف من اعتاد أن يحرس في الظلام. أثق بكِ، مولاتي… وإن اخترتِ الصمت الآن، فسأحرسه كما أحرسك. لكن اعلمي شيئًا واحدًا: حتى أسرارك… لن تجعلكِ أقل استحقاقًا للحماية.”
رفعت بصري إليه بسرعة، تفاجأت بحدة صدقه. لم تكن تلك كلمات مجاملة، بل عهد نُطق بصدق عارٍ.
ارتجفت أنفاسي، وابتسمت ابتسامة قصيرة رغماً عن التوتر الذي يغمرني.
“أحيانًا… أخشى أن حمايتك لي ستجعلك في خطر.”
اقترب أكثر، حتى صارت المسافة بيننا ضئيلة، ثم انحنى قليلًا، وصوته صار ناعماً لكنه حازم:
“فليكن. إن كان الخطر ثمنًا لمولاتي… فهو ثمن أقبله دون تردد.”
تسمرت في مكاني، كلماته كانت كالسيف المسلول… لكنها أيضًا كانت كالدرع الذي لم أعلم أنني كنت أحتاجه بشدة.
أدركت حينها أنني لم أعد وحيدة في مواجهة هذه الدوامة. ساميلان لم يعرف بعد خيوط المؤامرة، ولا سر السم ولا القلادة، لكنه أصبح جزءًا من معركتي… سواء أردت ذلك أم لا.
لم يكد الصمت يستقر بيننا، حتى شعرت بشيء غريب… همهمة خافتة قادمة من طرف القاعة، كأن أحدهم يحاول كتم أنفاسه وهو يختبئ. تبادلت النظرات مع سيلينا، لكن ساميلان كان أسرع منا؛ سيفه خرج من غمده بلمعة باردة، وصوته اندفع كالرعد:
“من هناك؟!”
ارتبكت، قلبي قفز في صدري، ولم أتحرك من مكاني. فجأة، ظهر رجل ملثم من وراء أحد الرفوف، اندفع نحوي بسرعة خاطفة، وفي يده خنجر لامع. لم أفكر، لم أستطع حتى أن أصرخ… لكن ساميلان كان أسرع من خوفي.
تحرك كالبرق، جسده وقف حاجزًا بيني وبين الخنجر. ضرب المهاجم بقوة جانبية جعلته يتراجع مترين للخلف، ثم تبعه باندفاع حاسم، سيفه يلمع بضوء المشاعل. كل حركة منه كانت دقيقة، واثقة، مدروسة، حتى بدا وكأنني أشاهد مقطعًا أسطوريًا لا يقارن بواقع البشر.
سقط المهاجم أرضًا بعد لحظات قصيرة، يئن متألمًا، ثم جرّ نفسه ليهرب قبل أن يصل إليه ساميلان مرة أخرى.
ظل واقفًا يراقب الممر للحظة، ثم أعاد سيفه ببطء إلى غمده. التفت إليّ، عيناه كانتا ما تزالان مشتعلة بالغضب، لكن صوته حين خاطبني كان هادئًا بشكل غريب:
“مولاتي… هل أنتِ بخير؟”
شعرت أنني لم أستطع الإجابة. يداي كانتا ترتعشان بشدة، وصدري يرتفع ويهبط بسرعة، لكنني أومأت برأسي، أُظهر له أنني لم أُصب بأذى.
اقترب أكثر، ركع أمامي فجأة، وكأن هذا الموقف كله لم يكن سوى إعلانٍ جديد لوعده:
“لن أسمح لأي شيء أن يمسكِ بسوء. لقد أقسمت، وسأبقى على قسمي حتى آخر نفس.”
كلماته ضربت أعماقي بقوة، حتى شعرت بدموعي تكاد تهرب. مددت يدي لا شعوريًا، أمسكت ذراعه المرتجفة قليلاً من المعركة، وهمست بصوت مبحوح:
“شكراً لك… لو لم تكن هنا…”
ابتسم ابتسامة صغيرة، لكنها كانت مختلفة هذه المرة، تحمل شيئًا من الحزن. خفض بصره، وصوته انكسر للحظة:
“كان لدي أخت صغيرة… كانت الوحيدة التي تناديني باسمٍ لم ينادني به أحد… سامي.”
تجمدت، لم أتوقع أن يفتح لي بابًا من ماضيه.
تابع بهدوء:
“كلما سمعت اسمي على لسانها، كنت أشعر أنني لست مجرد حارس… بل إنسان. وبعد أن فقدتها… لم يعد أحد يناديني بذلك. الجميع يراني الآن السيف، الدرع… لكنني لست شيئًا أكثر من سامي، وأيضًا أريدك أن تشعري أن هناك جزءًا مني ليس فقط الحارس، بل شخصًا يهتم بك.”
رفعت بصري إليه، رأيت صدقًا لا يُحتمل في عينيه، صدقًا جعلني أشعر أن هذا الطلب لم يكن مجرد اسم… بل رجاء.
ابتسمت داخليًا رغم ارتجافي ، وأومأت بخفة. كان هذا التغيير الصغير، لكنه جعل كل شيء يبدو أكثر أمانًا… وكأنني بدأت أرى نقطة ضوء وسط الظلام الداكن الذي يحيط بي، وقلت:
“إذن… سامي.”
ارتعشت شفتاه بابتسامة صامتة، وكأن الكلمة وحدها كانت كافية لإعادة شيء ضائع داخله.
في تلك اللحظة، أدركت أن ساميلان لم يعد مجرد حارس مُعيَّن من فريدريك. لقد أصبح حليفًا… وربما أكثر من ذلك، شيئًا لا أملك له اسمًا بعد، لكنه بدأ يسكن قلبي ببطء.
بعد ذلك عدت الى غرفتي، وجلست على حافة سريري، ويديّ متشابكتان بشدة. ما زالت خيوط شعوري المرتبكة تتشابك مع كل نفس تأخذه، وكل ذكرى من الهجوم الذي حدث منذ ساعات. لم يكن جسدي يئن فحسب، بل قلبي كان يختنق، وعقلي يدور حول كل التفاصيل الصغيرة التي جعلتني أشعر بالارتباك والرعب.
الجدران العالية لغرفتي لم تمنحني أي شعور بالأمان. كل ظل، كل رف، كل لوحة على الحائط، بدا وكأنه يحمل سرًّا مخفيًا. جلستُ هناك، وأنا أشعر بوزن الأحداث كلها يضغط على صدري، يتعب أنفاسي، ويجعل كل فكرة تبدو مؤلمة وثقيلة.
في تلك اللحظة، سمعت طرقًا خفيفًا على الباب. ارتعشت، لكنني أدركت سريعًا أنها ليست قوة عدائية هذه المرة. “تفضلي…” همست بصوت متردد، محاولًة تهدئة قلبي.
دخلت سيلينا، عيناها تحملان بريقًا دافئًا، وابتسامتها تشعّ نوعًا من الراحة التي لم أشعر بها منذ أيام. “أوفيليا… كيف حالك؟” قالت بهدوء، وكأنها تحاول إرسال شعور بالأمان في الهواء الثقيل للغرفة.
حاولت أن أظهر برودتي، فقد كنت أخشى أن يكون كل شيء مجرد مراقبة. قلت لها: “أنا بخير… فقط تعبت من كل ما حدث.”
جلست على المقعد المقابل، ووضعت يدها برفق على الطاولة الصغيرة. “أعلم، مولاتي… لقد كان اليوم صعبًا، لكنه انتهى الآن. لا داعي لأن تحملي كل هذا وحدك.”
أغمضت عيني للحظة، وأنا أحاول امتصاص طاقتها الهادئة، لكن صوتها الناعم لم يكن كافيًا لتهدئة قلبي الذي ما زال يقفز كلما تذكرت المهاجم. “لكن… كيف يمكن أن أشعر بالأمان عندما كل شيء حولي قد يكون فخًا؟”
ابتسمت ابتسامة حزينة، “لأنك لست وحدك. أنا هنا، وساميلان أيضًا…”
ارتجف قلبي قليلاً عند ذكر اسمه، شعور لا أعرف كيف أصفه. كان حضوره في المكتبة، حمايته لي، كل شيء عنه، قد ترك أثرًا في داخلي. كان بمثابة صخرة وسط بحر من الفوضى، لكنه لم يكن مجرد حارس.
سمعت خطوات ثابتة تقترب من الباب، وظهر سامي، جسده مشدودًا وعيناه تراقبان كل شيء بحذر. “مولاتي… هل أنتم بخير؟” قال بصوت هادئ لكنه حازم، وكأن كل كلمة منه تحمل وعدًا.
نظرت إليه، وابتسمت قليلًا، “نعم… الحمد لله، فقط كانت لحظة… لا أكثر.”
اقترب أكثر، وصوته أصبح أكثر نعومة: “كنت قلِقًا… لم أشعر بالراحة إلا بعد أن تأكدت أنكِ بخير.”
ثم وقف بجانبي، يراقب الغرفة بكل هدوء، وكأن أي حركة خاطئة يمكن أن تكشف الخطر الذي لم أره بعد.
“سامي…” همست أخيرًا، “أعلم أن هناك أكثر مما يظهر لنا. ميرالين… وغريسون… أشعر بأن هناك خيوطًا مخفية، لكنني لا أعرف من أين أبدأ.”
اقترب قليلاً، وضع يده على كتفي برفق، “لن تكتشفي كل شيء وحدك، أوفيليا. سأكون هنا معك، أراقب… وأتصرف إذا لزم الأمر.”
سرت قشعريرة عبر جسدي، شعور بأنني لم أعد وحدي. لكن في داخلي شعرت بثقل جديد… مسؤولية معرفة الحقيقة.
جلست أتمعن في أفكاري، أتذكر كلمات ميرالين: “أحيانًا، من تبحثون عن الحقيقة، تجدونها في تفاصيل صغيرة… وليس كل من يبتسم لكم، صديق.”
تنهدت ببطء، وقلت بصوت منخفض: “إذاً… يجب أن أراقب كل حركة، كل همسة، كل ابتسامة.”
سامي لم يقل شيئًا، لكنه اقترب أكثر، وجعلني أشعر بأن حضوره وحده يكفي ليحميني، وأنه أصبح جزءًا من هذه المعركة، سواء أردت أم لم أرد.
ثم أخبرت سيلينا، “سنبدأ بالتحقق من الأشخاص الذين تعاملوا مع القلادة. يجب أن نعرف من وصل إليها ومن قد يكون وراء السم.”
أومأت سيلينا برفق، “حسنًا، لكن بحذر… كل خطوة يجب أن تكون محسوبة.”
ابتسمت بخفوت، “أعلم، ولن أفعل شيء دون خطة.”
ثم شعرت بالهدوء يتسلل إليّ لأول مرة منذ الهجوم. لم أعد أشعر بالعجز التام، بل بدأت أشعر بشيء من القوة. لقد كان وجود سامي وسيلينا، وعزيمتي الداخلية، كافيًا لأفكر في الخيط التالي، في كشف الحقيقة.
جلست وحدي بعد ذلك، أفكر في كل ما حدث، كل كلمة من ميرالين، كل نظرة من غريسون التي رأيتها في المكتبة، وكل حركة من سامي التي جعلتني أشعر بالأمان.
“سأعرف الحقيقة… مهما كلفني ذلك…” همست لنفسي، وقلبي ينبض بعزم لم أشعر به منذ فترة طويلة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 13"